معانِي هذا بالتفصيلِ، فالمؤمنُ - مثلاً - إذا نَاظَرَ الجبريَّ يقولُ له: اعْلَمْ يا جَبْرِيُّ أن جميعَ الأسبابِ الذي اهتدى بها المهتدون، وأعطاها اللَّهُ لهم: أعطاكَ مِثْلَهَا: العيونُ التي أَبْصَرُوا بها آياتِ اللَّهِ وغرائبَه وعجائبَه فَآمَنُوا: أَعْطَاكَ عَيْنَيْنِ صحيحتين مثلَها، والقلوبُ التي فَهِمُوا بها عن اللَّهِ: أعطاكَ عَقْلاً صحيحًا مثلَها، والرسولُ النذيرُ الذي أَنْذَرَ الكلَّ وَخَوَّفَهُ وَبَيَّنَ له: أَعْطَاكَ مثلَه، فجميعُ ما أَعْطَاهُمْ أعطاكَ إِيَّاهُ، إلا أن الفرقَ بينَك وبينَهم في شيءٍ واحدٍ هو: أن اللَّهَ تَفَضَّلَ عليهم بالتوفيقِ إلى ما بَيَّنَ لهم وَأَمَرَهُمْ به، وأنتَ لم يَتَفَضَّلْ عليكَ، وتفضُّله بالتوفيقِ مُلْكُهُ الْمَحْضُ، مَنْ تَفَضَّلَ عليه فَفَضْلٌ، ومن مَنَعَهُ من التوفيقِ فَعَدْلٌ، كما قال جل وعلا: ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأنعام: آية ١٤٩] مُلْكُهُ للتوفيقِ بمشيئتِه: حُجَّتُهُ البالغةُ على خَلْقِهِ، مَنْ أَعْطَاهُ فَفَضْلٌ، وَمَنْ مَنَعَهُ فَعَدْلٌ.
وقد بَيَّنَّا مناظرةَ عبدِ الجبارِ مع
وقولُه: ﴿ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾ الظاهرُ: كُلُّ ما ظَهَرَ وعلن. والباطنُ: كُلُّ ما خَفِيَ وَاسْتَتَرَ (١). والإثمُ: أصلُه ضدُّ الطاعةِ، فكلُّ ما هو خلافُ التقوى والطاعةِ من الوقوعِ في المعاصِي يُسَمَّى: (إثمًا) (٢). وقد قال الشاعرُ - وَصَدَقَ (٣) -:

إِنِّي رَأَيْتُ الأَمْرَ أَعْجَبُهُ تَقْوَى الإِلَهِ وَشَرُّهُ الِإِثْمُ
فقابلَ الإثمَ بالتقوى.
وَاعْلَمُوا أن ظاهرَ الإثمِ وباطنَه فيهما أقوالٌ [(٤) وأنها كلَّها ترجع إلى شيءٍ واحدٍ، فقال بعضُهم: الفواحشُ الظاهرةُ هي الزِّنَى مع البغايا ذواتِ الراياتِ، والفواحشُ الباطنةُ هي الزنى مع الخليلاتِ والصديقاتِ التي يُزْنَى بِهِنَّ سِرًّا في البيوتِ. وقال بعضُ العلماءِ: ما ظهر من الفواحشِ: كنكاحِ زوجاتِ الآباءِ، كما تقدَّم في قولِه: ﴿وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً (٢٢)﴾ [النساء: آية ٢٢] وأن ما بَطَنَ منها هو الزنى. والتحقيقُ: أَنَّ الآيةَ الكريمةَ تشملُ جميعَ المعاصِي والذنوبِ، لا تفعلوا شيئًا منها ظاهرًا عَلَنًا بين الناسِ، ولا شيئًا باطنًا في خفيةٍ لا يطلعُ عليه أحدٌ، وهو يشملُ جميعَ التفسيراتِ الواردةِ عن الصحابةِ وغيرِهم.
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ٧٢)، ابن كثير (٢/ ١٦٨)، البحر المحيط (٤/ ٢١٢).
(٢) انظر: المفردات (مادة: أثم) ص٦٣، اللسان (مادة: أثم) (١/ ٢٢).
(٣) البيت للمخبل السعدي، وهو في ديوانه ص٣١٦.
(٤) في هذا الموضع انقطع التسجيل. وللوقوف على الأقوال المشار إليها راجع: القرطبي (٧/ ٧٤)، ابن كثير (٢/ ١٦٨) وقد تم استدراك النقص هنا من كلام الشيخ رحمه الله عند تفسير الآية (٣٣) من سورة الأعراف.
ثم قال جلَّ وعلا: ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً﴾ ﴿ادَّارَكُواْ﴾ أصله: تداركوا. والمعروف في علم العربية أن (تفاعل) و (تفعَّل) يكثر فيهما الإدغام واستجلاب همزة الوصل عند الإدغام (١). فقوله: ﴿ادَّارَكُواْ﴾ أصله (تداركوا) ﴿مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ الله اثَّاقَلْتُمْ﴾ [التوبة: آية ٣٨] أصله (تثاقلتم) ﴿فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا﴾ [البقرة: آية ٧٢] أصله (فتدارءتم). وكذلك في (تفعَّل) كقوله: ﴿وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا﴾ [يونس: آية ٢٤] أصله (تزينت) ﴿قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ﴾ [النمل: آية ٤٧] أصله: (تطيرنا) وهذا الإدغام معروف في كلام العرب، ومثله في (تفاعل) كما هنا قول الشاعر (٢):
تُولي الضَّجِيعَ إذا ما الْتَذَّهَا خَصِرَا عذبَ المَذَاقِ إذا ما اتَّابَعَ القُبَلُ
يعني: إذا ما تتابع القُبَلُ. ﴿حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً﴾ أي: تلاحقوا وأدرك الآخِرُ الأول واجتمعوا في النار جميعاً - والعياذ بالله، أعاذنا الله منها ومن كل ما قرب إليها من قول وعمل - شكا عند ذلك الوقت الأتباع الضعفاءُ رؤساءهم المتبوعين وقالوا لهم- أي لأجلهم؛ لأنهم يخاطبون الله ولا يخاطبون الرؤساء المتبوعين، قالوا يشكونهم لله (جلَّ وعلا)، ويطلبونه أن يزيد عليهم العذاب لإضلالهم إياهم-: ﴿رَبَّنَا﴾ معناه: يا ربنا، يا خالقنا وسيدنا ومدبر أمورنا، ﴿هَؤُلاَءِ﴾ الرؤساء من قادة الكفرة ﴿أَضَلُّونَا﴾ هم الذين أضلونا عن طريق الصَّواب، ومنعونا من اتباع الرسل ومن طاعتك وامتثال أمرك، فقد
_________
(١) انظر: البحر المحيط (٤/ ٢٩٦)، الدر المصون (١/ ٤٣٤)، (٥/ ٣١٣)، وراجع ما مضى عند تفسير الآية (٧٢) من سورة البقرة.
(٢) مضى هذا الشاهد عند تفسير الآية (٧٢) من سورة البقرة.
باقيها إلى يوم القيامة؛ لأن الله لما أرسله رسالة عامة وجعلها باقية على مر العصور جعل معجزتها -وهي هذا القرآن العظيم- قائمة باقية تَتَرَدَّد في آذان الخلق إلى يوم القيامة، محفوظة من رب العالمين، لو أراد إنسان أن يزيد حرفًا أو ينقصه، أو نقطًا أو ينقصه لرد عليه الآلاف من صبيان المسلمين في أقطار الدنيا؛ لأن الله تولى حفظ هذا القرآن المحكم الذي هو أساس هذه الرسالة العامة الخالدة (صلوات الله وسلامه على من جاء بها). وهذا معنى قوله: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾.
الرسول هنا (فَعُول) بمعنى (مُفْعَل) إني مرسل من الله إليكم جميعًا.
وقد قدمنا مرارًا (١) أن علماء العَرَبِيَّة يقولون: إن أصل الرسول أصلُه مصدر وُصف به فجيء به بمعنى اسم المفعول، وإتيان المصادر على وزن (فَعُول) مسموع في أوزان قليلة كالقبول والولوع والرسول، في أوزان قليلة. وفائدة ذكرنا أن أصل الرسول مصدر وُصف به وجيء به بمعنى اسم المفعول؛ لنُزِيل بذلك إشكالاً في كتاب الله، وإيضاح ذلك: أن المعروف عند عُلَمَاءِ العَرَبِيَّة أن المصادر إذا نُعِت بها -أعني أُجريت مجاري الأوصاف- أنها تُلْزَمُ الإفراد والتذكير باللغة الفصحى (٢)، فتقول: هذا رجل عدل، وهذه نساءٌ عدل، وهذه امرأة عدل، وهؤلاء رجال عدل. هذا في اللغة الفصحى، وربما تُنُوسي أصل المصدر وعُومل معاملة الأوصاف نظرًا إلى وصفيته
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٣٠) من سورة الأنعام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٤٦) من سورة الأنعام.
قراءة ابن كثير: ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾ (١) والمصحف الذي أرسله عثمان إلى مكة فيه: ﴿من تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾ بذكر لفظة (من) وقراءة الجمهور والمصاحف التي أرسلت إلى الشام وإلى الكوفة والبصرة فيها: ﴿تحتَها الأنهار﴾ بغير لفظة (من). فقوله: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ﴾ -لم يشترط فيهم شيئاً، بل قال:- ﴿رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ﴾ [التوبة: الآية ١٠٠]-وهذه أعظم تزكية، والذين اتبعوهم- اشترط فيهم شرطاً وهو الإحسان؛ لأن قوله: ﴿بِإِحْسَانٍ﴾ اشترطه في خصوص الذين اتبعوهم، ومن هذه الآيات قوله تعالى: ﴿لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا﴾ [الحديد: الآية ١٠] ثم قال: ﴿وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ كلاًّ من جميع الصحابة ممن أنفق وقاتل قبل الفتح وبعده وعد الله الحسنى.
ومن هذه الآية الكريمة قال ابن حزم: يجب على كل مسلم أن يعتقد أن الصحابة كلهم في الجنة؛ لأن الله صرح بذلك ولا يخلف الله الميعاد حيث قال: ﴿لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا﴾ -ثم صرح في الجميع بوعده الصادق الذي لا يخلفه قال:- ﴿وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ (٢). وقال (جل وعلا): ﴿لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨)﴾ [الحشر: الآية ٨] فزكَّاهم بقوله: ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ ثم ذكر الأنصار قال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢٢٨.
(٢) الإحكام ص٦٦٤.


الصفحة التالية
Icon