أَبِي إسحاقَ الإسفراييني في هذه المسألةِ (١)؛ لأن أَبَا إِسْحَاقَ فَهِمَ مضمونَ هذه الآيةِ، وحاجَّ به هذا المبتدعَ الْمُفْتَرِي. فجاء عبدُ الجبارِ يتقربُ بمذهبهم الخسيسِ أن السرقةَ والزِّنَى لا تكونُ بمشيئةِ اللَّهِ؛ لأن السرقةَ والزِّنَى من القبائحِ والرذائلِ، وأن اللَّهَ - في زَعْمِهِمْ - أَنْزَهُ وأكرمُ وَأَجَلُّ من أن تكونَ هذه الخسائسُ والقبائحُ بمشيئتِه، فجاءَ عبدُ الجبارِ يتقربُ إلى اللَّهِ ويعبدُه بهذا المذهبِ الباطلِ، فقال: سبحانَ مَنْ تَنَزَّهَ عَنِ الفَحْشَاءِ!! يعني: أن فُحْشَ السرقةِ والزِّنَى ليس بمشيئةِ اللَّهِ.
فقال أبو إسحاقَ: كلمةُ حَقٍّ أُرِيدَ بها باطلٌ!! ثم قال: سبحانَ مَنْ لاَ يَقَعُ فِي مُلْكِهِ إلا مَا يَشَاءُ.
فقالَ عبدُ الجبارِ: أَتَرَاهُ يَشَاؤُهُ وَيُعَاقِبُنِي عليه؟
فَقَالَ أبو إسحاقَ: أتراك تفعلُه جَبْرًا عليهِ؟ أأنتَ الربُّ وهو العبدُ؟
فقال عبدُ الجبارِ: أرأيتَ إن دَعَانِي إلى الْهُدَى، وقضى عَلَيَّ بِالرَّدَى، دَعَانِي وَسَدَّ البابَ دُونِي، أتراه أَحْسَنَ إِلَيَّ أَمْ أَسَاءَ؟
فقال أبو إسحاقَ: أرى أن الذي مَنَعَكَ إن كان حَقًّا واجبًا لكَ عليه فقد ظَلَمَكَ وقد أساءَ، إن كان مُلْكُهُ المحضُّ فإن أعطاكَ فَفَضْلٌ، وإن مَنَعَكَ فَعَدْلٌ. وبُهِتَ عبدُ الجبارِ، وقال الحاضرونَ: واللَّهِ ما لهذا جوابٌ!!
_________
(١) انظر: طبقات الشافعية للسبكي (٤/ ٢٦١)، شرح الطحاوية (٣٢٣)، فتح الباري (١٣/ ٤٥١) منهج الجدل والمناظرة (٢/ ١٠٧٤).
والفواحشُ ظاهرُها وباطنُها تشملُ جميعَ الذنوبِ، إلا أن اللَّهَ عَطَفَ بعضَها على بعضٍ عطفَ خاصٍّ على عَامٍّ. وقد تقررَ في المعانِي: أَنَّ عَطْفَ الخاصِّ على العامِّ، وعطفَ العامِّ على الخاصِّ إن كان في كلٍّ منهما في الخاصِّ أهميةٌ لا تكونُ في غيرِه من أفرادِ العامِّ أنه سائغٌ، وأنه من الإطنابِ المقبولِ لأَجْلِ الخصوصيةِ التي في الخاصِّ. فكأن تميزَه بخصوصيتِه جَعَلَهُ كأنه قِسْمٌ آخَرُ من أقسامِ العامِّ فَحَسُنَ عطفُه عليه (١). وهنا عُطِفَ الخاصُّ على العامِّ لأن المعطوفاتِ الآتيةَ كُلَّهَا داخلةٌ في الفواحشِ ما ظَهَرَ منها وما بَطَنَ.
وقولُ مَنْ قال: إن ﴿مَا ظَهَرَ﴾ هو الزنى مع البغايا ذواتِ الراياتِ، و ﴿وَمَا بَطَنَ﴾ الزِّنَى مع الخليلاتِ الصديقاتِ التي يُزْنَى بِهِنَّ سِرًّا. أو: إن ﴿مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ هو نكاحُ زوجاتِ الآباءِ، وأن ﴿وَمَا بَطَنَ﴾ هو الزِّنَى إلى غيرِ ذلك من الأقوالِ كُلُّهُ يشملُه التفسيرُ العامُّ الذي هو الصوابُ، وإن اللَّهَ نَهَى عن ارتكابِ جميعِ المحرماتِ سواءً كان ذلك ظَاهِرًا أمامَ الناسِ، أو خفيةً بحيثُ لا يطلعُ عليه الناسُ].
[١٦/ب] / يقولُ اللَّهُ جل وعلا: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ (١٢٨)﴾ [الأنعام: آية ١٢٨].
_________
(١) انظر: فقه اللغة للثعالبي ص٢٩٤، الإكسير للطوفي ص٢٥٦، المدخل للحدادي ص٢٩٥، البرهان للزركشي (٢/ ٤٦٤)، الإتقان (٣/ ٢١٢، ٢١٣)، قواعد التفسير (١/ ٤٢٩، ٤٣٠).
أطعناهم وزينوا لنا وقالوا لنا: أطيعونا نهدكم، واتبعونا نذهب بكم إلى الخير، ومكروا بنا حتى أضلونا عن طريقك فاتبعناهم فأهلكونا ﴿أَضَلُّونَا فَئاتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ﴾ [الأعراف: آية ٣٨] ﴿فَآتِهِمْ﴾ أعطهم عذاباً مضاعفاً، بأن تعذب الواحد منهم كعذاب اثنين، ويكون هذا العذاب المضاعف من النار، كما قال تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ (٦٧) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨)﴾ [الأحزاب: آية ٦٨] وفي القراءة الأخرى: ﴿والعنهم لعناً كَثِيراً﴾ (١) فسألوا الله أن يزيد عليهم العذاب، وأن يلعنهم، وشكوه بأنهم أضلوهم. ومحاججتهم مذكورة في آياتٍ كثيرة (٢)،
كما قال تعالى: ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤)﴾ [ص: آية ٦٤] وبسطَها الله في سورة سبأ في قوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ (٣٢) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً﴾ [سبأ: الآيات ٣١ - ٣٣] الآيات. فيوم القيامة يكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضاً، ويعادي بعضهم بعضاً، ويسأل الأتباع أن يزيد الله الرؤساء المتبوعين عذاباً فوق عذابهم، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ﴾ [النحل: آية ٨٨] فعند ذلك الوقت يتمنون الرجعة إلى دار الدنيا ليتبرؤوا منهم، وأن لا يدخلوهم النار {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ
_________
(١) انظر: النشر (٢/ ٣٤٩)، إتحاف فضلاء البشر (٢/ ٣٧٨).
(٢) انظر: أضواء البيان (٢/ ٢٩٩)..
الطارئة، فالرسول على هذا تارة في القرآن يلاحظ فيه أصله الذي هو المصدر، وتارة يُلاحظ فيه الوصفية العارضة التي جُعل بمعناها. وإيضاح هذا: أن الرسول على أن أصله مصدر يُفرد عند حالة التثنية والجمع، تقول: هذان رسول، وهؤلاء رسول. وربما جُمع الرسول نظرًا إلى الوصفية وتناسيًا لأصل المصدرية، فَمِن جَمْع الرسول اعتبارًا بالوصفية: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ﴾ [البقرة: آية ٢٥٣] ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ﴾ [النساء: آية ١٦٥] ومن تثنيته: قوله في سورة طه: ﴿إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [طه: آية ٤٧] فقد ثَنَّى الرسول اعتبارًا بوصفيته، وفي سورة الشعراء أفرد الرسول مع أن المراد به اثنان؛ نظرًا إلى أصله الذي هو المصدر، وذلك في قوله: ﴿إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: آية ١٦] ولم يقل: إنا رسولا، فنطقت العرب بلفظ الرسول مفردًا مرادًا به الجمع، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي (١):

أَلِكْنِي إِلَيْها وَخَيْرُ الرَّسُول أَعْلَمُهُم بِنَواحي الخَبَر
فجمع الضمير في قوله: «أعلمهم» وهو عائد إلى الرسول المفرد نظرًا إلى أصل مصدريته. والرسول مسموع في كلام العرب بمعنى المصدر، ومنه قول الشاعر (٢):
لَقَد كَذَبَ الواشُونَ ما فُهْتُ عِنْدَهُمْ بِقَوْلٍ وَلاَ أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ
أي: برسالة. وقول الآخر (٣):
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٠) من سورة الأنعام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (١٣٠) من سورة الأنعام.
(٣) مضى عند تفسير الآية (٧٨) من سورة البقرة.
قَبْلِهِمْ} الدار: هي المدينة ﴿تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ﴾ أي: وانتهجوا الإيمان، فهو مفعول فعل محذوف دل المقام عليه (١) ﴿مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا﴾ قال جماعة من أهل العلم: إن المهاجرين أفضل من الأنصار؛ ولذا كان الأنصار لا يكون في صدورهم شيء من فضل المهاجرين عليهم، هكذا قاله غير واحد (٢). ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: الآية ٩] ثم ذكر من يأتي بعدهم، فقال: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ﴾ [الحشر: الآية ١٠] ومن هذه الآيات أخذ مالك بن أنس (رحمه الله) إمام دار الهجرة أن الذين يسبون بعض أصحاب النبي ﷺ لا نصيب لهم في فَيْءِ المسلمين أبداً، وقال لبعضهم: هل أنتم من الفقراء المهاجرين الذين أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وأمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله؟ قالوا: لا، لسنا من هؤلاء.
قال: هل أنتم من الذين قال فيهم: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾؟ قالوا: لا، لسنا من هؤلاء. قال: وأنا أشهد أنكم لستم من الطائفة الثالثة التي قال الله فيها: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ﴾ فأنتم تسبّون الصحابة وتلعنونهم، فلستم من جملة مَنْ جَعَلَ الله لهم شيئاً من المسلمين فلا شيء لكم ألبتة (٣).
وهذه الآيات وأمثالها في القرآن تدل على أن الذين يسبون
_________
(١) انظر: القرطبي (١٨/ ٢٠).
(٢) انظر: ابن كثير (٤/ ٣٣٧).
(٣) تقدم عند تفسير الآية (٤١) من سورة الأنفال.


الصفحة التالية
Icon