المعنى على أصحِّ التفسيراتِ: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى﴾ [الضحى: آية ٧] يعني: ذاهبًا عما تعرفُه الآنَ من العلومِ فَهَدَاكَ إلى تلك العلومِ بالوحيِ؛ لأنها علومٌ لاَ تُعْرَفُ بالعقلِ، ولا تعرفُ بالفطرةِ، ومن الضلالِ بهذا المعنى قولُه تعالى في الدَّيْنِ: ﴿فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا﴾ [البقرة: آية ٢٨٢] أي: تذهب عن معرفةِ المشهودِ به فَتُذَكِّرُهَا الأخرى، ومنه بهذا المعنى ﴿قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي﴾ [طه: آية ٥٢] أي: لا يذهبُ عنه عِلْمُ شيءٍ، بل جميعُ الأشياءِ يحيطُ بها عِلْمُهُ.
ومنه بهذا المعنى قولُ أولادِ يعقوبَ ليعقوبَ: ﴿تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ﴾ [يوسف: آية ٩٥] ذهابُك عن معرفةِ حقيقةِ يوسفَ، وما جرى مَجْرَى ذلك، ومن أمثلةِ هذا النوعِ في كلامِ العربِ قولُ الشاعرِ (١):

وَتَظُنُّ سَلْمَى أَنَّنِي أَبْغِي بِهَا بَدَلاً، أُرَاهَا فِي الضَّلاَلِ تَهِيمُ
يعني: أنها ظَنَّتْ أنه يبغي بها بَدَلاً، والأمرُ بخلافِ ذلك.
ولأجلِ أن الضلالَ يُطْلَقُ على الغَيْبَةِ والاضمحلالِ (من إطلاقِه الثاني): سَمَّتِ العربُ الدفنَ (إضلالاً)، تقول: «ذَهَبُوا بِالْمَيِّتِ فَأَضَلُّوهُ» إذا دَفَنُوهُ في قبرِه، ومن هذا المعنى قولُ نابغةِ ذبيانَ (٢):
فَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ وَغُودِرَ بِالْجَوْلاَنِ حَزْمٌ وَنَائِلُ
_________
(١) البيت في الإيضاح للقزويني ص (١٥٨) والتلخيص في علوم البلاغة ص (١٨٥) للمؤلف نفسه، جواهر البلاغة ص (١٦٥)، بلا نسبة.
(٢) ديوان النابغة الذبياني ص (١٥٥).
وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} (١) [الصافات: آية ١٥٨] والعربُ تعرفُ ذلك، ومنه قولُ الأَعْشَى يمدحُ سليمانَ (٢):
وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ الْمَلاَئِكِ تِسْعَةً قِيَامًا لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلاَ أَجْرِ
والمرادُ بالجنِّ هنا: عُتَاتُهُمْ وشياطينُهم الذين كانوا يُضِلُّونَ الآدميين ويغوونهم في دارِ الدنيا، يقولُ لهم اللَّهُ يومَ القيامةِ: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ﴾ أَعْنِي: يا جماعةَ الشياطين ﴿قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ﴾ والمعنَى: ﴿قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ﴾ أَكْثَرْتُمْ من إغوائِهم وإضلالِهم (٣) - والعياذُ باللَّهِ- حتى أَضْلَلْتُمْ منهم أعدادًا طائلةً وَجِبِلاًّ كثيرًا ضَخْمًا، كما يأتِي في قولِه: ﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢)﴾ [يس: آية ٦٢].
وهذه الآياتُ يُبَيِّنُهَا اللَّهُ لنا في دارِ الدنيا لنحذرَ من أن تكونَ الشياطينُ تَسْتَهْوِينَا وَتُضِلُّنَا لتدخلنا النارَ، وقد بَيَّنَ القرآنُ أن هذا العددَ الكثيرَ من الإنسِ الذي أَضَلَّتْهُمْ شياطينُ الجنِّ الذين قال اللَّهُ فيهم: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ﴾ [الأنعام: آية ١٢٨] أن منهم الذين يَتْبَعُونَ تشريعَ الشيطانِ، وَيَحِيدُونَ عن تشريعِ اللَّهِ فيتبعونَ ما نَظَّمَهُ الشيطانُ من النُّظُمِ على ألسنةِ أوليائِه، صَرَّحَ القرآنُ بأن هؤلاء داخلونَ في هذا الاستكثارِ وما أكثرَهم؛ لأن اللَّهَ يقولُ في السورةِ الكريمةِ- وَكُلُّ سورةٍ من القرآنِ كريمةٌ- أعنِي سورةَ يس: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾ [يس: آية ٦٠]
_________
(١) انظر: ابن جرير (٢٣/ ١٠٨)، القرطبي (١٥/ ١٣٤).
(٢) البيت في ابن جرير (١/ ٥٠٦)، القرطبي (١/ ٢٩٥)، البحر المحيط (١/ ١٥٣)، اللسان (مادة: جنن) (١/ ٥١٧).
(٣) انظر: ابن جرير (١٢/ ١١٥).
السماوات والأرض، وما هي نواهيه، فيخضع لأوامر ربه، ويمتثل أمر الله، ويجتنب نهيه، ويقتدي بالرسول الكريم ﷺ لئلا يكون تبعاً لكفرة فجرة يتبرؤون منه يوم القيامة ويندم، ويصير الجميع إلى النار.
ودين الإسلام الذي نتكلم باسمه - الذي هو تشريع رب العالمين جلّ وعلا - لا يمكن أن يكون صخرة تعثر في طريق التقدُّم، بل هو دين كل تقدم في كل ميادين الحياة، فدين الإسلام يدعو إلى التقدم والقوة في جميع ميادين الحياة، فما يخيله الكفرة الإفرنج مِنْ أنَّهُ دين ركود وجمود ودعةٍ وإخلاد إلى الأرض، وأن المتمسك به لا يمكن أن ينهض، ولا يساير ركب الحضارة، كلها فلسفات شيطانية لا أساس لها، تروّج على ضعاف العقول.
أما دين الإسلام فهو في حقيقة ذاته دين التقدُّم في جميع الميادين الحيوية، فيدعو إلى كل تقدم في جميع الميادين الحيوية، إلا أنه يُعَلِّمُ الناس أن هذه الدنيا ليست فوضى، وأن عليها ربّاً حكماً عدلاً هو خالق كل شيء، ومدبِّر كل شيء، ومنه كل شيء، وإليه مصير كل شيء، هو الذي خلق هذه الأرض والبحار، ونصب هذه الجبال ورفع السماوات، وخلق هذا الخلق، وشق أعينهم، وصبغ بعضها بصبغ أسود، وبعضها بصبغ أبيض، وفعل بهم ما هو معروف، هذا الرب هو الذي له السلطان الأكبر، والكلمة العليا، فلا يُصدَر إلا عن أمره، فهو (جلّ وعلا) الحقيق بأن يطاع فلا يُعْصى، وأن يذكر فلا يُنْسَى، وهو (جل وعلا) أنزل كتاباً مبيناً محفوظاً من كلامه (جل وعلا)، وسنة نبوية على نبي كريم، بيَّن فيها معالم الحياة، وأقام فيها أُسس الدنيا التي إذا مشت عليها قامت بالعدالة التي لا نظير لها،
فتولى الله الفتيا فيها قُرآنًا يُتلى في سورة الأنعام، فأنزل في هذا: ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ يعني: الميتة.
أي: وإن زعموا أنها ذبيحة الله، ثم قال: ﴿وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ أي: خروج عن طاعة الله، ثم قال: ﴿وَإِنَّ الشياطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ﴾ يعني وحي الشيطان وفلسفة إبليس ﴿لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ بوحي الشيطان: ما ذبحتموه حلال، وما ذبحه الله حرام، فأنتم إذن أحسن من الله!! ثم أفتى بين الفريقين، وحكم بين الخصمين قال: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: آية ١٢١] فحكم على هؤلاء المسلمين أنهم إن أطاعوا حزب الشيطان واتبعوا نظام إبليس وتشريعه وقانونه بالفلسفة الإبليسية أن ما ذبح الله أحل مما ذبح الناس أنهم مشركون.
وهذه الآية الكريمة من سورة الأنعام هي عند علماء العربية مثال لحذف اللام الموطئة للقسم (١). قالوا: هنا قسم، واللام الموطئة محذوفة، والأصل: ولئن أطعتموهم إنكم لمشركون. قالوا: والقرينة الدالة على لام القسم الموطئة المحذوفة: أنه لو لم يكن هناك قسم وكانت (إن) الشرطية في قوله: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ﴾ خالية من قسم لوجب اقتران الجملة بالفاء في قوله: فإنكم لمشركون. فلما عريت من الفاء دل خلوها من الفاء على حذف القسم. وهذا وجيه. فما زعمه قَوْمٌ مِنْ أَنَّ الفَاءَ في جملة الجزاء التي لا تصلح أن تكون فعلاً للشرط أنه يجوز سقوط [الفاء] (٢) منها اختيارًا، فهو غير صحيح، والتحقيق في لغة العرب: أنها لا بد من اقترانها بالفاء، وأن سقوط الفاء من آية الأنعام هذه نظرًا للقسم
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٧) من سورة الأنعام.
(٢) في الأصل: «الجزاء».
ببيت مصدود عنه النبي ﷺ وهو محرم (١)، وكان هذا مما يدل على شرف عثمان (رضي الله عنه) لأنه امتنع أن يطوف؛ لأن رَسُول الله ﷺ ممنوع من الطواف وهو محرم. ثم إن قائلاً قال: إن قريشاً قتلوا عثمان بن عفان -وهو كاذب- فسمع بها المسلمون فقالوا: قُتِلَ عثمان!! قالوا: لما قتلوا عثمان ما هنالك إلا القتال والموت!! فبايعوه بيعة الرضوان تحت سمرة الحديبية، وهي الشجرة التي قال الله فيها: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ [الفتح: الآية ١٨] ومحل الشاهد من هذه القصة، وأن صلح الحديبية كان أول فتح على المسلمين، وأول انتشار للإسلام، أن أهل بيعة الرضوان كانوا ألفًا وأربعمائة تقريباً، كما ثَبَتَ ذَلِكَ صَحِيحاً عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولما غَزَا فتح مكة غزاه بآلاف متعددة، غزاه بعشرة آلاف مقاتل، فدل هذا على أن هذه العشرة الآلاف كانت من مزايا صلح الحديبية حيث وجدت الدعوة طريقها، واتصل المسلمون بالكفار فَدَعَوْهُمْ إلى الإسلام فانتشر الإسلام في المسلمين؛ ولذا كانت الهجرة بعد صلح الحديبية أقل عظماً وأخف وقعاً مما كانت قبل ذلك؛ لأنه في ذلك الوقت جازت مخالطة المسلم لقبيلته ليدعوهم إلى الإسلام، فخف شأن الهجرة من ذلك الوقت؛ لأنها كاد الله أن يُغني عنها، فلما غزا النبي ﷺ مكة في رمضان من سنة ثمان، وفتح مكة، قال: «لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ» (٢). وهذه الهجرة انقطعت بالفتح وخفت بالحديبية؛ ولذا قال فيه: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ﴾ أي: بعد أن خف
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٩٦) من سورة الأنعام.
(٢) تقدم تخريجه عند تفسير الآية (٧٢) من هذه السورة.


الصفحة التالية
Icon