﴿أَعْرَضْتُمْ﴾ أي: وَرَجَعْتُمْ إلى كُفْرِكُمْ، ثم قال: ﴿أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (٦٩)﴾ [الإسراء: الآيات ٦٧ - ٦٩] وقال جل وعلا: ﴿وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [يونس: الآيتان ٢٢، ٢٣] ﴿وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [لقمان: آية ٣٢] ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [العنكبوت: آية ٦٥] وأمثالُ هذا في القرآنِ كثيرةٌ جِدًّا.
وكان سببُ إسلامِ عكرمةَ بنِ أبي جهلٍ - رضي الله عن عكرمةَ وَأَرْضَاهُ -: كان شديدَ العداوةِ للنبيِّ هو وَأَبُوهُ، فَلَمَّا فَتَحَ النبيُّ - ﷺ - مكةَ في عامِ ثمانٍ من الهجرةِ هربَ عكرمةُ، وركبَ في سفينةٍ من البحرِ الأحمرِ رائحًا إلى الحبشةِ، فلما لَجَجَتْ بهم السفينةُ في البحرِ هاجت عليهم الريحُ، وَأَيْقَنُوا بالهلاكِ، وَطَغَتْ عليهم الأمواجُ، فإذا جميعُ مَنْ فِي السفينةِ يَتَنَادَوْنَ، وينادي بعضُهم بعضًا: احْذَرُوا في هذا الوقتِ أن تدعوا غيرَ اللَّهِ؛ لأنه لا يُخَلِّصُكُمْ من هذا إلا اللَّهُ وحدَه. فلما سَمِعَهُمْ يقولون قال: وَاللَّهِ إن كان لا يُنْجِي مِنْ كرباتِ البحرِ إلا هو فلا يُنْجِي من كرباتِ الْبَرِّ إلا هو، ثم قال: اللَّهُمَّ لكَ عَلَيَّ العهدُ إن أَنْجَيْتَنِي من هذه لأَضَعَنَّ يدي في يدِ محمدٍ - ﷺ - فَلأَجَدِنَّهُ رؤوفًا رحيمًا، فأنجاهم اللَّهُ، فَرَجَعَ وَأَسْلَمَ، وصارَ من خيارِ أصحابِ
اللَّهِ- على ألسنةِ أوليائِه إنما جَرَّهُمْ إلى ذلك أنهم خفافيشُ، والخفاشُ يُعْمِيهِ نورُ الشمسِ، وإذا كان النهارُ وانتشرَ ضوءُ الشمسِ صارَ الخفاشُ أَعْمَى لا يرى شيئًا، ولا يقدرُ أن يقومَ من محلِّه، وإذا جاء الليلُ وأرخَى الظلامُ سدولَه قَامَ الخفاشُ يسرحُ ويمرحُ؛ لأن هذا عندَه ضياءٌ!! فهذا مثلُهم، ولله المثل الأعلى.
وعلينا معاشرَ المسلمين أن نعلمَ أن اللَّهَ خَصَّنَا بسيدِ الرسلِ، وسيدِ الخلقِ، وأشرفِ الأنبياءِ، وجعلَ معجزتَه باقيةً، وهي هذا النورُ المنزلُ الذي يترددُ في أسماعِ البشرِ إلى يومِ القيامةِ. وفي الحجِّ تَلْتَقِي ببعضِ الحجاجِ من جميعِ أقطارِ الدنيا، تَرَى الذين يعرفونَ القرآنَ منهم على الحقيقةِ لا يختلفُ اثنانِ منهم في حرفٍ: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا (٨٢)﴾ [النساء: آية ٨٢] ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩)﴾ [الحجر: آية ٩] بَيَّنَ اللَّهُ لنا فيه العقائدَ، وأصولَ الحلالِ والحرامِ، وطريقَ الجنةِ، وطريقَ النارِ، وتهذيبَ النفوسِ وتربيتَها، ومعالِيَ الأمورِ، والتنزهَ عن سَفْسَافِهَا، وَبَيَّنَ لنا فيه كيفَ نستعدُّ لأعدائِنا، وكيف نُوَاجِهُهُمْ في حالةِ الحربِ، وحالةِ الصلحِ والهدنةِ، وقد بَيَّنَهُ النبيُّ - ﷺ - بيانًا شافيًا كافيًا، حتى تَرَكَهَا محجةً بيضاءَ، ليلُها كنهارِها، لا يزيغُ عنها إلا هالكٌ، فعلينا أن نعملَ به، ونتركَ آراءَ الكفرةِ الفجرةِ؛ لأن اتباعَ نظامِ الشيطانِ دَلَّتْ هذه الآياتُ على أنه كُفْرٌ بِاللَّهِ.
واعلموا أن الأنظمةَ ليست سواءً، منها نظامٌ إداريٌّ، ومنها نظامٌ شرعيٌّ، والأنظمةُ الإداريةُ التي لا تصادمُ الشرعَ وإنما تَجْرِي على المصالحِ المرسلةِ لضبطِ أمورِ الرعيةِ وأوطانِها، فهذا النوعُ لا بأسَ به، وقد فَعَلَ الصحابةُ كثيرًا منه؛ فإن المسلمينَ لم يكن عندهم ديوانٌ
شجرة الحديبية البيعة المشهورة، وكانوا وقت بيعتهم تحت الشجرة علم الله من قلوبهم الإيمان الكامل، والإخلاص التامّ الذي ينبغي، كما شهد الله لهم به في قوله: ﴿لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ [الفتح: آية ١٨] فَنَوَّه عما في قلوبهم من الإيمان والإخلاص بالاسم المُبْهم الذي هو الموصول، لمَّا علم من قلوبهم الإيمان والإخلاص لله كما ينبغي كان من نتائج ذلك الإخلاص والإيمان الذي علمه في قلوبهم ما قصه علينا في قوله: ﴿وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا﴾ [الفتح: آية ٢١] فصرح أن إمكانياتهم العَدَدية والعُددية لم تُقْدِرْهُم عليها، ثم قال: ﴿قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا﴾ أي: فأقدركم عليها وجعلها غنيمة لكم. ثم ختمها فقال: ﴿وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً﴾ إن كنتم ضِعَافاً فالله ليس بضعيف، وإن كنتم غير قادرين فالله (جلّ وعلا) قادر، والمتمسك بدين الإسلام لا يُغلب ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله وَالله مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: آية ٢٤٩] والقرآن لا يدعو إلى الإخلاد، ولا الخمول، ولا التأخر، وإنما يدعو إلى القوة والكفاح، والتقدم في جميع الميادين.
فالذين يأخذون من الإفرنج قشور حضارتهم من الكفر والإلحاد والانحطاط الخُلقي، والتمرّد على نظام السماء، ولا يأخذون من القوة التي عندهم شيئاً، ويضعون على الإسلام أنه دين ركود، ولا يساير التطور، ويمنع التقدم، كلها فلسفات شيطانية لا أساس لها، بل دين الإسلام يأمر بالتقدم والقوة في جميع الميادين، ويأذن بأن تأخذ دنياك التي تحتاج إليها من كل برّ وفاجر، فلا مانع عند دين الإسلام من أن تأخذ حاجتك الدنيوية المحضة التي لا تمت إلى
أمهاتهم علقًا ومُضَغًا لا حياة فيهم قبل أن يُنفخ فيهم الروح، وأن الإحياءة الأولى هي إحياءتهم في بطون أمهاتهم التي خرجوا بها إلى الدنيا. والإماتة الثانية: الإماتة إلى القبور، بالإحياءة الثانية: الإِحْيَاءَة من القبور بالبعث إلى الحساب والجزاء. وهذا المعنى أوضح الله أنه المراد في سورة البقرة في قوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ... ﴾ الآية [البقرة: آية ٢٨] والله (جل وعلا) قد يحيي غير هذا الإحياء ويميت غير هذه الإماتة، فهو يميت الأرض ويحييها كما قال جل وعلا: ﴿يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [الروم: آية ٥٠] وكذلك يحيي الإنسان لسؤال الملكين في قبره كما جاء في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا قال: ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾.
﴿فَآمِنُواْ بِاللَّهِ﴾ الفاء سببية، وهذه الرسالة لما أُرسل بها هذا الأمين الكريم من قِبَل هذا الملك العظيم الأعظم ملك السماوات والأرض، المعبود وحده، الذي بيده الحياة والموت، هذا يتسب للإيمان بها، وعدم الكفر بها؛ ولذا جاء بالفاء المؤذنة بالسبب في قوله: ﴿فَآمِنُواْ بِاللَّهِ﴾.
قال بعض علماء العربية: العرب تطلق الإيمان لغة على التصديق، وهذا موجود في لغتها وإن أنكره بعض أهل العلم، كقوله: ﴿وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا﴾ [يوسف: آية ١٧] أي: بمصدقنا في أن يوسف أكله الذئب ﴿وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾ [يوسف: آية ١٧].
والإيمان في الشرع: هو التصديق الكامل من جهاته الثلاث، أعني: تصديق القلب بالاعتقاد والنية الصالحة، وتصديق اللسان
لا تأْمَنَنَّ فَزَاريّاً خَلوتَ به | على قَلُوصِكَ واكْتُبها بأسْيَارِ |
وجمهور العلماء على أن معنى: ﴿فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ أي: في حُكْمِ اللهِ الذي هو حكمه الذي استقر عليه أمره، أن الميراث بالرحم والقرابات لا بالهجرة والمؤاخاة، فهذا نسخ هذا كما هو الذي عليه جمهور العلماء ﴿فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال: الآية ٧٥].
اختلف العلماء في المراد بـ ﴿وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ﴾ في هذه الآية (١)، فذهب جماعة من العلماء إلى أن المراد بأولي الأرحام هم خصوص الذين أعطاهم الله مواريث من عصبات، أو أصحاب فروض، وأن هذه الآية بينتها آيات المواريث، وأن من لم يبيّن الله له نصيباً في كتابه لا شيء له ولا يدخل في هذا، وهذا قال به جماعة من العلماء، وممن ذهب إليه: مالك والشافعي (رحمهم الله)، قالوا: لا ميراث إلا لمن سمّى الله له شيئاً، والمراد بـ (أولوا الأرحام) هذا مجمل بيّنته آيات المواريث، فلا ميراث لمن لم يجعل الله له سهماً. ومن أصرح أدلتهم في هذا حديث: «إِنَّ اللهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» (٢)
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٤/ ٩٠)، القرطبي (٨/ ٨)، المغني (٩/ ٨٢)، ابن كثير (٢/ ٣٣٠)، الأضواء (٢/ ٤١٨).
(٢) روى هذا الحديث جماعة من الصحابة (رضي الله عنهم)، ومنهم:
١ - أبو أمامة (رضي الله عنه)، عند أحمد (٥/ ٢٦٧) وأبي داود في الوصايا، باب: ما جاه في الوصية للوارث. حديث رقم: (٢٨٥٣) (٨/ ٧٢)، والترمذي في الوصايا، باب ما جاء: «لا وصية لوارث». حديث رقم: (٢١٢٠) (٤/ ٤٣٣)، وابن ماجه في الوصايا، باب: لا وصية لوارث، حديث رقم: (٢٧١٣) (٢/ ٩٠٥)، والبيهقي (٦/ ٢٦٤)، والطيالسي (١١٢٧).
وانظر التلخيص (٣/ ٩٢) وحسَّن الحافظ إسناده، ونصب الراية (٤/ ٤٠٣)، والإرواء (٦/ ٨٨).
٢ - عمرو بن خارجة (رضي الله عنه)، عند أحمد (٤/ ١٨٦، ١٨٧، ٢٣٨ - ٢٣٩)، والدارمي (٢/ ٣٠٢) والترمذي في الوصايا، باب ما جاء: «لا وصية لوارث». حديث رقم: (٢١٢١) (٤/ ٤٣٤) وابن ماجه في الوصايا، باب: لا وصية لوارث. حديث رقم: (٢٧١٢) (٢/ ٩٠٥)، والبيهقي (٦/ ٢٦٤)، والطيالسي (١٢١٧)، والدارقطني (٤/ ١٥٢).
وانظر: التلخيص (٣/ ٩٢)، نصب الراية (٤/ ٤٠٣)، الإرواء (٦/ ٨٨).
٣ - أنس بن مالك (رضي الله عنه)، عند ابن ماجه في الوصايا، باب لا وصية لوارث، حديث رقم: (٢٧١٤) (٢/ ٩٠٦)، والبيهقي (٦/ ٢٦٤)، وابن عدي في الكامل (٤/ ١٥٧٥).
وانظر: التلخيص (٣/ ٩٢)، نصب الراية (٤/ ٤٠٤)، الإرواء (٦/ ٨٩).
٤ - ابن عباس (رضي الله عنهما) (بلفظ مقارب) عند البيهقي (٦/ ٢٦٣)، الدارقطني (٤/ ٩٧، ٩٨، ١٥٢)، وابن عدي في الكامل (١/ ٣٠٧)، (٤/ ١٥٧٠).
وانظر: التلخيص (٣/ ٩٢) (وحسن إسناده)، ونصب الراية (٤/ ٤٠٤)، الإرواء (٦/ ٨٩، ٩٦).
٥ - جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما). عند الدارقطني (٤/ ٩٧)، وقال: «الصواب: مرسل» اهـ وابن عدي في الكامل (١/ ٢٠٢). وانظر: التلخيص: (٣/ ٩٢)، نصب الراية (٤/ ٤٠٤)، الإرواء (٦/ ٩٢).
٦ - علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) (بلفظ مقارب) عند الدارقطني (٤/ ٩٧)، والبيهقي (٦/ ٢٦٧)، وابن عدي (٧/ ٢٥١١).
وانظر: التلخيص (وضعف إسناده) (٣/ ٩٢)، نصب الراية (٤/ ٤٠٥)، الإرواء (٦/ ٩٤).
٧ - عبد الله بن عمرو (رضي الله عنهما) عند الدارقطني (٤/ ٩٨)، وابن عدي (٢/ ٨١٧).
وانظر: التلخيص (٢/ ٩٢)، نصب الراية (٤/ ٤٠٤)، الإرواء (٦/ ٩١، ٩٧).
٨ - معقل بن يسار (رضي الله عنه)، عند ابن عدي (٥/ ١٨٥٣). وانظر: التلخيص (٣/ ٩٨).
٩ - زيد بن أرقم والبراء (رضي الله عنهما). عند ابن عدي (٦/ ٢٣٤٩). وانظر: نصب الراية (٤/ ٤٠٥).
١٠ - مجاهد (مرسلاً) عند البيهقي (٦/ ٢٦٤). وانظر: التلخيص (٣/ ٩٦).
١١ - جعفر بن محمد عن أبيه (مرسلاً) عند الدارقطني (٤/ ١٥٢).