جَاءَتْكُمْ بَلِيَّةٌ مِنَ البلايا ﴿إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ﴾ بأن هَاجَ عليكم البحرُ ورأيتم الموتَ عِيَانًا ﴿أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ﴾ من بلاءٍ عظيمٍ وداهيةٍ عُظْمَى ﴿أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ﴾؟؟ أَتَدْعُونَ في ذلك الوقتِ غيرَ اللَّهِ من هذه الأصنامِ التي تَعْبُدُونَ دُونَهُ؟ والمعنى: كَلاَّ لاَ تَدْعُونَ في ذلك الوقتِ إلا إياه وحدَه، كما صَرَّحَ به في قولِه: ﴿بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ﴾ [الأنعام: آية ٤١] وَقَدَّمَ المفعولَ للحصرِ، أي: لا تَدْعُونَ وقتَ الشدائدِ إلا إياه وحدَه؛ لأنكم تعلمونَ أنه هو الذي بِيَدِهِ إزالتُها، وأن غيرَه لا يقدرُ على رفعِ الكرباتِ عَنْكُمْ، ثم قال: ﴿فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ﴾ اسْتَشْكَلَ بعضُ العلماءِ (إلى) بعدَ (تَدْعُونَ) وقد قال بعضُ الْمُحَقِّقِينَ (١): إن [(دَعَا) قد تُضَمَّنُ مادةَ (لَجَأَ) كما قد تَتَعَدَّى بـ] (٢) (إلى) كما في قوله: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ} وكما قال الشاعرُ (٣):
_________
(١) انظر: البحر المحيط (٤/ ١٢٩)، الدر المصون (٤/ ٦٣١).
(٢) في الأصل: «(تدعون) قد تُضَمَّن مادة (دعا) قد تتعدى إلى». ولا يخفى أن الكلام بهذا السياق مُختل؛ وذلك أن مادة: (دعا) تتعدى بنفسها إلى المفعول إذا كانت بمعنى
(٣) السؤال والاستغاثة والطلب، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ﴾ [الزمر: آية ٨]. وقد تأتي بمعنى الحث على فعل شيء أو تركه، وحينها تتعدى بـ (إلى) كما في قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ [يوسف: آية ٣٣]. وهنا في آية الأنعام المراد بالدعاء: سؤال الله واللَّجَأ إليه، وقد استشكل بعض العلماء تعدية (تدعون) بـ (إلى)، وبناء على ذلك وقع الخلاف في توجيه ذلك، فقيل: معنى الآية: «فيكشف ما تدعون - أي: تطلبون وتحثون - إلى كشفه». وبهذا يصح تعدية (تدعون) بـ (إلى).. وقيل: بل هي على معنى سؤال الله وطلبه، ولكنها قد ضُمِّنَت معنى (تلجؤون) فصح تعديتها بـ (إلى). والله أعلم.
() البيت لبشامة بن حزن النهشلي. وهو في البحر المحيط (٤/ ١٢٩)، الدر المصون (١/ ٤٦٨).
السماءِ لآراءِ الكفرةِ، وَخَفِيَتْ عليهم الْحِكَمُ.
أما قطعُ اليدِ مثلاً الذي يقولونَ: إنه عملٌ وحشيٌّ لاَ ينبغي أن يكونَ في نظامٍ سماويٍّ، ولا أن يُعَامَلَ به الإنسانُ. فإنما هو لِجِهْلِهِمْ؛ لأن اليدَ الواحدةَ إذا لم تُعَاقَبْ عقوبةً رادعةً قد تُقَطِّعُ آلافَ الأيادِي بسرقتِها، وإن الله (جل وعلا) خَلَقَ هذه اليدَ وفَرَّقَ أصابعَها، وأبعدَ إبهامها عن أصابعِها؛ لأنه لو جَعَلَ الإبهامَ قريبًا من السبابةِ لَمَا قدرَ صاحبُها أن يحلَّ ولا أن يعقدَ، وشدَّ رؤوسها بالأظفارِ لتكونَ أداةً فَعَّالةً عاملةً في الخيرِ، وفي الإعانةِ على ما يُرْضِي اللَّهَ، على غرارِ: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة: آية ٢] فَلَمَّا مَدَّهَا هذا الخائنُ الخبيثُ الخسيسُ ليأخذَ أموالَ الناسِ على أخسِّ وجهٍ وأدناه وأردئه صارت هذه اليدُ في نظرِ مَنْ خَلَقَهَا وفي شَرْعِهِ صارت كأنها قذرةٌ نجسةٌ، وإن استمرت بالبدنِ قَذَّرَتْ ذلك البدنَ كُلَّهُ وَنَجَّسَتْهُ، فَقَطْعُ عُضْوٍ فَاسِدٍ كعمليةٍ تطهيريةٍ؛ ليصحَّ بها بقيةُ البدنِ من ذلك التنجيسِ وتلك الرذيلةِ، ولتطمئنَ الناسُ على أموالِها؛ ولذا ثبتَ في الصحيحين من حديثِ عبادةَ بنِ الصامتِ رضي اللَّهُ عنه ما يَدُلُّ على أن الحدودَ كفاراتٌ (١)، وأنه إن قُطِعَتْ يدُه الخبيثةُ النجسةُ الفاجرةُ المجرمةُ أنه يطهر بذلك بقيةُ بدنِه (٢).
وقد يحصلُ في ذهنِ طالبِ العلمِ هنا سؤالٌ، وهو أن يقولَ: الْعُدْوَانُ على المالِ ذو وجوهٍ كثيرةٍ؛ لأنه قد يكونُ بِالْغَصْبِ، وقد
_________
(١) البخاري في الحدود، باب: الحدود كفارة. حديث رقم (٦٧٨٤)، (١٢/ ٨٤)، ومسلم في الحدود، باب: الحدود كفارة لأهلها. حديث رقم (١٧٠٩)، (٣/ ١٣٣٣).
(٢) انظر: الأضواء (٣/ ٤٣١).
به صلى الله عليه وسلم، فجاءه ابن الأريقط، وصار مع كفره أميناً في المعاملة، وجاءهم بمراكبهم في الوقت المعيّن، وذهب بهم في طريق غير مسلوك إلى جهة الساحل، حتى أوصلهم المدينة بسلام (١)،
وحاشا بهم الطرق المعروفة التي عليها العيون والرصد، فهذا انتفاع من النبي ﷺ بخبرة خبير كافر، ولم يمنعه كفره من أن ينتفع في دنياه بتلك الخبرة على حدّ قولهم: (اجتنِ الثمار وألْقِ الخشبة في النار) (٢).
وكذلك لما حاصرهم المشركون ذلك الحصار العسكري المنوَّه عنه آنفاً في الأحزاب - كما ذكر أصحاب السير، وأصحاب الأخبار (٣) - أن سلمان الفارسي قال له: كنا يا رسول الله إذا خفنا خندقنا. فالخندق أشار إليه سلمان، وبيّن أنه خطة عسكرية ابتكرتها أذهان الفرس، وهم إذ ذلك مجوس يعبدون النار، فلم يمنع النبي ﷺ من الانتفاع بتلك الخطة العسكرية أن الأذهان التي ابتكرتها أذهان كفرة فجرة يعبدون النار وهم الفرس، بل جعل ذلك الخندق واستعان به على القوم، فهذه خطة عسكرية أصلها للكفار، وانتفع بها النبي ﷺ في دنياه وهو مرضٍ ربه.
وكذلك قد ثبت في صحيح مسلم (٤) أن النبي ﷺ همّ أن يمنع وطء النساء المراضع؛ لأن العرب كانوا يعتقدون أن الرجل إذا أتى امرأته وهي ترضع ولدها أن غشيانه أم الولد وهي ترضعه أن ذلك
_________
(١) السابق..
(٢) السابق.
(٣) السابق.
(٤) السابق.
نافع (١): ﴿إنما النَّسِيُّ زيادة في الكفر﴾ [التوبة: آية ٣٧] بإدغام الياء في الياء، والأصل: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ كقراءة الجمهور. وعلى هذا فمعنى القراءتين واحد.
وقال قوم: النبي على قراءة الجمهور مشتق من النَّبْوَة وهي الارتفاع، والعرب تسمي المرتفع من الأرض نبيًا، ومنه قوله (٢):

لأَصبَحَ رتْمًا دُقاقُ الحَصَى مَكَانَ النَّبِيِّ مِنَ الْكَاثِبِ
النبي: يعني به رملاً مرتفعًا. هكذا قاله العلماء (٣). وهذا معنى قوله: ﴿فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ﴾ هذه صفاته صلى الله عليه وسلم. وقد أجرى الله العادة أنه يصف المرسلين والملائكة بما يصف به مطلق عوام المؤمنين؛ لأن قوله: ﴿الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ﴾ كل عامي من المسلمين يؤمن بالله، وقد وصف نبيه ﷺ بصفة يتصف بها جميع المسلمين، وذلك للإيذان بشرف الإيمان بالله وكلماته وعِظَمِه كما قال جل وعلا: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ وصفهم بالإيمان ووصف المسلمين بالإيمان ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ [غافر: آية ٧] وبين أن ذلك الإيمان الذي اتصف به حملة العرش وأهل الأرض من بني آدم صار الرابطة العظمى بينهم التي عطفت قلوبهم عليهم من فوق سبع
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١١٢) من سورة الأنعام.
(٢) البيت لأوس بن حجر، وهو في ديوانه ص١٠ - ١١، اللسان (مادة: كثب) (٣/ ٢٢٣)، الدر المصون (١/ ٤٠٢).
(٣) قال في اللسان (مادة: كثب ٣/ ٢٢٣)، معقبًا على هذا البيت: «يريد بالنبي: ما نبا من الحصى إذا دُق فندر. والكاثب: الجامع لما ندر منه. ويقال: هما موضعان» اهـ.
قالوا: هذا الحديث فيه كلام معروف، والتحقيق أنه لا يقل عن درجة الاحتجاج، بيّن النبي فيه أن الله أعطى كل ذي حق حَقَّهُ، قالوا: نص هذا الحديث على أنَّهُ مَا بَقِيَ لصاحب حقٍّ حَقٌّ أبداً إلا أعطاه الله إيَّاهُ، فالَّذِي لم يُسَمَّ لَهُ حق فليس له شيء، وهذا معروف، وممن ذَهَب إلى هذا من الأئمة: مالك والشافعي.
وقالت جماعة آخرون: المراد بأولي الأرحام: مَنْ لا مِيرَاثَ لهم بفرض ولا تعصيب، وأنهم يرثون من لا وارث له، واستدلوا بهذه الآية الكريمة وبأحاديث أُخر، منها ما هو ثابت في ميراث الخال، ومنها بعض جاء في ميراث العَمَّة والخالة، والذين قالوا هذا قالوا: إن هؤلاء يصدق عليهم (أولو الأرحام) بالوَضْعِ العَرَبِيّ، فلا


الصفحة التالية
Icon