وَإِنْ دَعَوْتِ إِلَى جُلَّى وَمَكْرُمَةٍ يَوْمًا سَرَاةَ كِرَامِ النَّاسِ فَادْعِينَا
الشاهدُ: أن (دَعَا) تَعَدَّى بـ (إلى).
﴿فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ﴾ هذا الذي تَدْعُونَ اللَّهَ إليه، أي: إلى أن يَكْشِفَهُ عنكم، ويزيلَه عنكم، قد يكشفُه إن شاءَ، وإن شاءَ لم يَكْشِفْهُ، فهذه قُيِّدَتْ بالمشيئةِ.
قال بعضُ العلماءِ (١): هذه قُيِّدَتْ بالمشيئةِ، وآية البقرةِ أُطْلِقَتْ، لم تُقَيَّدْ، وهي قولُه: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ [البقرة: آية ١٨٦] ولم يَقُلْ: إن شئتَ، وهنا قُيِّدَ بالمشيئةِ.
قال بعضُ العلماءِ: يُحْمَلُ المطلقُ على المقيدِ، ويُقيَّدُ بالمشيئةِ.
وأظهرُ القَوْلَيْنِ: ما قاله بعضُ العلماءِ: أن آيةَ البقرةِ مُطْلَقَةٌ، وأن دعاءَ المؤمنِ لا يُرَدُّ إلا إذا كان بإثمٍ أو قطيعةٍ، وما جرى مجرى ذلك، وهذه التي قُيِّدَتْ بالمشيئةِ: في دعاءِ الكفارِ، أما دعاءُ المؤمنين فَلَمْ يُقَيَّدْ بالمشيئةِ. وعلى كُلِّ حالٍ لا شيءَ إلا بمشيئةِ اللَّهِ، إلا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ صادقٌ، وقد وعدَ المؤمنين بالإجابةِ، ولم يُقَيِّدْهُ بشيءٍ، وإنما جاء بقيدِ المشيئةِ في دعاءِ الكفارِ.
ثم قال: ﴿وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ﴾ فيه للعلماءِ وَجْهَانِ (٢):
_________
(١) انظر: أضواء البيان (١/ ١٢١).
(٢) انظر: القرطبي (٦/ ٤٢٣)، البحر المحيط (٤/ ١٢٩)، الدر المصون (٤/ ٦٣٢).
يكونُ بالاختلاسِ، وقد يكونُ بالتعدِّي، وقد يكونُ بِالْمَطْلِ، وما جاء القطعُ إلا في نوعٍ واحدٍ منه وهو السرقةُ، فما الحكمةُ في أن يكونَ قطعُ اليدِ في خصوصِ السرقةِ دونَ غيرِها من الاعتداءاتِ الماليةِ (١)؟!
والجوابُ عن هذا: أن غيرَ السرقةِ من الاعتداءاتِ الماليةِ الغالبُ على حالِه أن صاحبَه لاَبُدَّ أن يرى الشهودَ؛ لأنه لا يكونُ غالبًا في خصوصٍ ومفارقةٍ، وإذا جاء الشهودُ رَفَعَ بهم صاحبُ الحقِّ إلى مَنْ بَسَطَ اللَّهُ يدَه فاستخرجَ له حَقَّهُ، وعاقبَ الجانيَ بقدرِ ما يستحقُّ. أما السرقةُ: فإن السارقَ يَتَحَرَّى أخفَى الأوقاتِ، وأبعدَها عن اطلاعِ الناسِ بحيثُ لا يشعرُ به أحدٌ، ولا يطلعُ عليه أحدٌ، ولو لم يُعَاقَبْ صاحبُها بعقوبةٍ رادعةٍ لَمَا اطْمَأَنَّ أحدٌ على سبيلٍ مَالِيٍّ؛ لحذقِ اللصوصِ في الحيلِ الخفيةِ التي يسرقونَ بها أموالَ الناسِ، والمالُ شريانُ الحياةِ؛ لأَنَّ المالَ هو أساسُ هذه الحياةِ الدنيا، فهو شريانُها في جميعِ المجالاتِ؛ إِذْ لا عسكريةَ إلا بالمالِ، ولا سياسةَ إلا بالمالِ، ولا اجتماعيةَ إلا بالمالِ، ولا ثقافةَ إلا بالمالِ، فهو شريانُ الحياةِ، واللَّهُ (جل وعلا) جَعَلَ هذه العقوبةَ لأَمْرَيْنِ:
أحدُهما: تطهيرُ الجسدِ الذي أَنْجَسَهُ ذلك الجزءُ النجسُ كعمليةٍ تطهيريةٍ بقطعِ عضوٍ فاسدٍ لتصحَّ بقيةُ البدنِ.
والثاني: لتطمئنَ الناسُ على مَالِهَا، فإذا قُطِعَتْ يدٌ واحدةٌ طُهِّرَ صاحبُها من تلك الرذيلةِ، وصار إنسانًا طَيِّبًا بعدَ أن صارَ قَذِرًا نَجِسًا، وسَلِمَ المسلمونَ من أَذَاهُ بعدَ ذلك، وَمِنْ أَذَى غيرِه؛ لأن مَنْ عَلِمَ أنه إذا سَرِقَ قُطِعَتْ يدُه كَفَّ عن الناس؛ ولذلك ترى أقلَّ البلادِ أن يوجدَ
_________
(١) المصدر السابق (٣/ ٤٣٢).
يضعف عظمه، ويترك فيه ضعفاً قويّاً وكان الرجل إذا ضرب بالسيف ونبا السيف عن الضريبة ولم يقطع قالوا: هذا من الغِيْلَة!! يعنون أنه وُطِئَت أمه وهي ترضعه!! كانوا يذمون هذا، وكان شاعرهم يقول (١):
فَوَارسُ لم يغالُوا في رضَاعٍ فتَنْبُو في أكُفِّهمُ السُّيوفُ
فأخبرته فارس والروم بأنهم يفعلون هذا ولا يضرُّ أولادهم، فأخذ به صلى الله عليه وسلم.
فتراه أخذ بخبر خبيرٍ كافر، وأخذ بخطة عسكرية كافرية، وأخذ بخطة طبية كافرية، لم يمنعه من الانتفاع بالدنيا أن أصل هذا من الكفار، وهذا من مرانة دين الإسلام، وكونه ليس دين خمول ولا دين ضعف، بل هو دين تقدم في جميع ميادين الحياة. والشاهد أن ما يوسوس به الشيطان ويفلسف به أعداء الإسلام أن الإسلام ليس دين تقدم، وأنه لا يساير ركب الحضارة، كله فلسفات شيطانية يروّجونها على ضعاف العقول لينسلخوا من الدين. أما دين الإسلام فهو في حدّ ذاته دين التقدم، ودين القوة، ودين التقدم في جميع الميادين، ودين الكفاح، ودين قمع أعداء الله بالقوة حتى يذلوا ويصغروا وتكون كلمة الله هي العليا. هذا دين الإسلام. والذين يتخذون دين الإسلام هزؤاً، وأنه تقاليد قديمة لا تنفع الآن، ولا تساير ركب الحضارة، فقادته ورؤساؤه في ذلك كفرة الإفرنج، وسيحشر الجميع يوم القيامة أتباعاً ومتبوعين يقع فيهم ما ذكر الله في هذه السورة الكريمة في رؤساء الكفر وأتباعهم والعياذ بالله جلّ وعلا.
_________
(١) السابق.
سماوات فدعوا لهم ذلك الدعاء القرآني العظيم المذكور في قوله: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شيء رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم﴾ إلى آخر دعائهم الكريم [غافر: الآيتان ٧، ٨]. وهذا معنى قوله: ﴿فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ﴾.
الأمي: هو الذي لا يقرأ ولا يكتب؛ لأن نبينا ﷺ كان لا يقرأ ولا يكتب ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨)﴾ [العنكبوت: آية ٤٨] وكونه لا يقرأ ولا يكتب مع هذه العلوم التي لا يُطَّلع عليها إلا بالوحي يدل على أن هذا إنما عَلِمَه بوحي من الله (جل وعلا).
وقوله: ﴿وَكَلِمَاتِهِ﴾ قال بعض العلماء: معنى كلماته: كتبه التي أنزلها على خلقه (١)، كما قال: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ﴾ [البقرة: آية ٢٨٥] والتحقيق: أن كلمات الله أعم من كتبه (٢)، وأنها لا يحصيها إلا هو (جل وعلا) كما نوَّه عنها في أُخريات الكهف وأُخريات لقمان في قوله تعالى: ﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (١٠٩)﴾ [الكهف: آية ١٠٩] وقال: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾ [لقمان: آية ٢٧] وكلمات الله لا يعلمها إلا الله (جل وعلا)، ولو كانت البحور مدادًا لكلماته لنفدت البحور وتلاشت قبل أن
_________
(١) انظر: القرطبي (٧/ ٣٠٢).
(٢) انظر ابن جرير (١٣/ ١٧١)، الأضواء (٢/ ٣٣٤).
يجوز إخراجهم منه، قالوا: ولأنَّهُمْ من جملة المسلمين، وهم يزيدون بقرابة، ولو فَرَضْنَا أنه لبيت المال كان لخصوص المُسْلِمِينَ، فمن أدلى بسببين وهما الإسلام والقرابة أولى ممن يُدْلِي بسبب واحد وهو الإسلام. والذين قالوا هذا قالوا: إن المراد بأولي الأرحام مَنْ لاَ فَرْضَ لهُمْ فِي كِتَابِ اللهِ ولَيْسُوا بعصبة، وهم أحد عشر حيّزا معروفة عند العلماء، وممن قال بتوريث أولي الأرحام بهذا المعنى: الإمام أبو حنيفة -رحمه الله- وأحمد بن حنبل -رحمه الله- وجماعة كثيرة من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار.
والذين قالوا بتوريث أولي الأرحام معروف أنهم اختلفوا في كيفية توريثهم اختلافاً متشعباً يرجع إلى أمرين (١):
أحدهما: قَوْلُ مَنْ يقال لهم: أصحاب التَّنْزِيل.
والثاني: قول من يُسمون بأصحاب القرابات.
وأصحاب التنزيل: هم الذين من على مذهبهم أحمد بن حنبل وأصحابه. وأصحاب القرابات: هم الذين مشى عليهم أبو حنيفة وأصحابه، والذين قالوا بالتنزيل قالوا: إن كل واحد من أولي الأرحام يُنَزَّل منزلة من يدلي به، فيُعطى ميراث من يدلي به، فإذا كان واحداً أخذ جميع المال، وإذا كانوا جماعة وكانوا نازلين قُرّبُوا درجة درجة ثم نُظر جميع من يدلون به وعُرف ميراث كل واحد منهم فأُعْطِيَ كل واحد منهم نصيب من يدلي به، وهذا معروف، وهو مشهور مذهب الإمام أحمد.
_________
(١) انظر: المغني (٩/ ٨٥)، الأضواء (٢/ ٤٢٤).


الصفحة التالية
Icon