والأممُ هنا: جمعُ أُمَّةٍ. والصروفُ عند علماءِ العربيةِ: أن لفظَ (الأمةِ) أُطْلِقَ في القرآنِ العظيمِ أربعةَ إطلاقاتٍ مشهورةٍ، ولو قيل إن هنالك إِطْلاَقًا خامسًا لكان غيرَ بعيدٍ.
أما إطلاقاتُ لفظِ (الأمةِ) في اللغةِ وفي القرآنِ فَمِنْ أَشْهَرِهَا (١):
إطلاقُ (الأمةِ) على الطائفةِ المتفقةِ في الدِّينِ. أي: في نِحْلَةٍ كائنة ما كانت. وهذا أكثرُ إطلاقاتِها ﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: آية ٢٤] ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ﴾ [يونس: آية ٤٧] ﴿ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ﴾ [الأعراف: آية ٣٨].
الإطلاقُ الثاني: إطلاقُ (الأمةِ) على الرجلِ العظيمِ الْمُقْتَدَى به، وقد أطلقَ اللَّهُ (الأمةَ) بهذا المعنى على نَبِيِّهِ إبراهيمَ في قولِه: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ [النحل: آية ١٢٠].
الإطلاقُ الثالثُ: إطلاقُ الأمةِ على البُرْهَةِ والقطعةِ من الزمنِ، ومنه بهذا المعنى: ﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ [يوسف: آية ٤٥] أي: تَذَكَّرَ بعدَ برهةٍ من الزمانِ، ومن هذا الإطلاقِ قولُه تعالى في أولِ سورةِ هود: ﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ﴾ [هود: آية ٨] أي: إلى برهةٍ معينةٍ في عِلْمِنَا من الزمنِ.
الإطلاقُ الرابعُ: إطلاقُ الأمةِ على الشريعةِ والدينِ والملةِ.
العربُ تقول: «هذه أُمَّتُنَا». أي: دينُنا وشريعتُنا ومِلَّتُنا. ومنه بهذا المعنى: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [المؤمنون: آية ٥٢] أي: شريعتُكم وطريقتُكم ودينُكم.
_________
(١) انظر: تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص (٤٤٥)، نزهة الأعين النواظر ص (١٤٢)، إصلاح الوجوه والنظائر ص (٤٢).
وتقديمُ الحقِّ السابقِ على الحقِّ المتأخرِ أمرٌ يُقِرُّ به جميعُ العقلاءِ، نَعَمْ لطالبِ العلمِ أن يقولَ: إن كان هذا الحقُّ قبلَ هذا الحقِّ، والحقُّ الآخرُ لاَ يرفعُ الحقَّ الأولَ، لكن يجدرُ بالمسلمِ أن يُعْتِقَ أَخَاهُ، وَيُسْقِطَ حَقَّهُ الأولَ لِحَقِّ أَخِيهِ الأَخِيرِ!!
فنقولُ: نَعَمْ بهذه جاء القرآنُ، وَرَغَّبَ المؤمنَ بعتقِ أَخِيهِ، وأنه يُعْتَقُ كُلُّ عُضْوٍ منه بعضوٍ منه، وَفَتَحَ الأبوابَ الكثيرةَ للعتقِ: من كفارةِ الأيمانِ والظهارِ وغيرِه إلى غير ذلك، فهذه حِكَمُ اللَّهِ في تشريعِه لا يضلُّ عنها إلا مَنْ خَذَلَهُ اللَّهُ وَجَعَلَهُ كالخفاشِ.
ومعنَى قولِه: ﴿قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ﴾ [الأنعام: آية ١٢٨] أي: قَدْ أَكْثَرْتُمْ من إغواءِ الإنسِ، وإضلالِهم باتباعهم تشاريعَكم ونُظُمَكم، وقد يُضِلون لو لم تتبع تشريعهم، فيُضِلُّون المسلمَ الذي هو على تشريعِ السماءِ بأن يُزَيِّنُوا له المعاصيَ كالزنا والسرقة وَشُرْبِ الخمرِ ويتبعهم في ذلك، ويغوونه بذلك مع أنه لم يَكْفُرْ، ولم يُقِرَّ بتشريعٍ غيرِ تشريعِ الله؛ لأَنَّ الذي يشربُ الخمرَ ويزني ويسرقُ- والعياذُ بِاللَّهِ- إن كان يعتقدُ أن ذلك حلالٌ فهو كافرٌ متبعٌ نظامَ الشيطانِ داخلٌ في قولِه: ﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا﴾ [يس: آية ٦٢] أما إذا زَيَّنَ له الشيطانُ الزنى والسرقةَ وهو يعلمُ أنه مرتكبٌ خسيسةً، وأنه فاعلٌ أَمْرًا حَرَامًا، وأن هذا لا يجوزُ فهذا لا يَخْرُحُ عن دينِ الإسلامِ، بل هو مسلمٌ مِنْ عُصَاةِ المسلمين، مرتكبٌ كبيرةً تُرْجَى لهم التوبةُ. والشياطينُ قد يستكثرونَ من الآدميين بِالنَّوْعَيْنِ، يستكثرونَ باتباعِ تشاريعِهم كما هو جَارٍ الآنَ في أقطارِ الدنيا، ويستكثرونَ بتزيينِ الشهواتِ كالزِّنَا والسرقةِ والمعاصِي- والعياذُ بالله- مع أنه مسلمٌ. وهذا معنَى قولِه: ﴿قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ﴾
(نافع، وابن كثير، وابن عامر، وعاصم): ﴿لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء﴾ ففي الكلمة الكريمة ثلاث قراءات سبعيات (١): ﴿لا يُفْتَح لهم أبواب السماء﴾ وهي قراءة حمزة، والكسائي. ﴿لا تُفْتَحُ لهم أبواب السماء﴾ وهي قراءة أبي عمرو. ﴿لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء﴾ وهي قراءة نافع، وابن كثير، وعاصم، وابن عامر. هذه القراءات الثلاث معناها واحد.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ وجحدوا أنها من عند الله، وتكبروا عن العمل بها من الكفار أتباعهم ومتبوعيهم قبحهم الله ﴿لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء﴾. في عدم فتح أبواب السماء لهم أقوال متقاربة معروفة، لا يكذب بعضها بعضاً، وهي كلها حق (٢)، قال بعض العلماء: ﴿لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء﴾ فيرفع لهم منها عملٌ صالح؛ لأن أعمالهم مردودة إلى الله، كما قال الله: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: آية ١٠] والكفار ليس عندهم عملٌ صالح يرفع كَلِمَهم، وليس عندهم كَلِمٌ طيب، قالوا: ﴿لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء﴾ لترفع أعمالهم الصالحة إلى الله. وقال بعض العلماء: ﴿لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء﴾ لاستجابة دعواتهم؛ لأن دعواتهم مردودة ﴿وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ﴾ [الرعد: آية ١٤] وقال بعض العلماء: ﴿لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء﴾ أي: لا تنزل إليهم البركات والرحمات من الله (جل وعلا) نازلة مفتحة لها أبواب السماء لكفرهم. وكل هذه الأقوال حق. وذهب جماهير من المفسرين أن معنى: ﴿لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ﴾ لأرواحهم عند الموت ﴿لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء﴾ والآية تشمل هذا كله. لا تفتح لأعمالهم أبواب السماء فترفع،
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢٠٨.
(٢) انظر: ابن جرير (١٢/ ٤٢١)، القرطبي (٧/ ٢٠٦)، ابن كثير (٢/ ٢١٣).
لفظه، وُضع للذكور دون الإناث، وربما دخلت الإناث فيه بحكم التَّبَع (١)، والدليل على أنَّ لَفْظَ القوم يختص بالوضع بالذكور دون الإناث قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ﴾ ثم قال: ﴿وَلاَ نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ﴾ فلو دخل النساء في اسم القوم لما كان لقوله: ﴿وَلاَ نِسَاء مِّن نِّسَاء﴾ [الحجرات: آية ١١] فائدة، وهذا معروف في كلام العرب، ومنه قول زهير بن أبي سلمى (٢):
وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْري | أَقَوْمٌ آلُ حِصْنِ أَمْ نِسَاءُ |
وقوله: ﴿أُمَّةٌ﴾ مبتدأ سوَّغ الابتداء به وهو نكرة اعتماده على المجرور قبله. والأمة: الطائفة الكثيرة المتفقة في دين ونحوه، وقد جاء في القرآن العظيم إطلاق الأمة على أربعة معان كلها صحيح موجود في كتاب الله (٣)، ومنه إطلاق الأمة على الطائفة المتفقة في دين ونحوه، وهذا أكثر إطلاقات الأمة، كقوله هنا: ﴿وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ﴾ ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [البقرة: آية ٢١٣] ونحو ذلك من الآيات.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٨٠) من سورة الأنعام.
(٢) السابق.
(٣) مضى عند تفسير الآية (٤٢) من سورة الأنعام.
سورة التوبة هذه، والعلماء لهم أقوال معروفة في سبب [عدم] (١) كتب ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ (٢).
قال بعض العلماء: كانت سورة براءة طويلة قدر سورة البقرة، فنسخ الله أولها، فلما سقط أولها وكانت فيه البسملة سقطت البسملة مع المنسوخ الساقط منها.
وقال بعض العلماء: البسملة رحمة وأمان، وبراءة نزلت بالسيف والقتال ونقض العهود؛ فلذا لم تكتب فيها ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.
وقال بعض العلماء: لما أرادوا كتب المصاحف العثمانية اختلفوا في براءة، فقال بعضهم: هي والأنفال سورة واحدة، وقال بعضهم: كلتاهما سورة مستقلة، فلما اختلفوا جعلوا بياضاً بين السورتين ليدل على قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنهما سورتان، وتركوا سطر ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ ليدل على قول من قال: هما سورة واحدة، فرضي الفريقان، وقامت حجة كل منهما في المصحف الكريم.
وأظهر الأقوال هو ما روي عن عثمان بن عفان (رضي الله عنه) رواه بعض أصحاب السنن وغيرهم عن ابن عباس (رضي الله عنهما) أنه قال: سألت عثمان بن عفان (رضي الله عنه) لمَ عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ وجعلتموها في السبع الطوال؟!
_________
(١) ما بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق.
(٢) انظر: القرطبي (٨/ ٦١)، ابن كثير (٢/ ٣٣١)، الأضواء (٢/ ٤٢٦).