لِيُبْكَ يَزِيدٌ ضَارِعٌ لِخُصُومَةٍ............................
أي: (ذَلِيل) يبكيه ذليلٌ؛ لأنه ملجأٌ له.
وفي هذه الآيةِ سؤالٌ معروفٌ، وهو أن يقولَ طالبُ العلمِ: المعروفُ في لغةِ العربِ، أن حرفَ (لعل) أنه لِلتَّرَجِّي والتوقعِ، والله عالمٌ محيطٌ عِلْمُهُ بعواقبِ الأمورِ، فكيف يُصرِّحُ بلفظٍ هو يدلُّ على الترجِّي والتوقعِ، وكيف يَصِحُّ في كلامِ اللَّهِ التَّرَجِّي والتوقعُ، وهو القادرُ على كُلِّ شيءٍ، المحيطُ علمُه بعواقبِ الأمورِ؟ هذا وجهُ السؤالِ.
وللعلماءِ عن هذا جَوَابَانِ (١):
أحدُهما: أن (لَعَلَّ) هنا للتعليلِ. والمعنى: أَخَذْنَاهُمْ بالبأساءِ والضراءِ لأجلِ أن يَتَضَرَّعُوا. ولا شكَّ أن (لعلَّ) أنها من حروفِ التعليلِ. وقد سُمِعَ في لغةِ العربِ من كلامِ العربِ الفصحاءِ التعليلُ بـ (لعل). ومن إتيانِ «لعل» للتعليلِ في كلامِ العربِ قولُ الشاعرِ (٢):
فَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الْحُرُوبَ لَعَلَّنَا نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِقِ
فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُكُمْ كَشِبْهِ سَرَابٍ بِالْمَلاَ مُتَأَلِّقِ
فقوله: «كفّوا الحروبَ لعلنا نكف» يعني: كُفُّوا الحروبَ لأجلِ أن نكفَّ عنكم.
ومن هنا قال بعضُ العلماءِ: كُلُّ (لعلَّ) في القرآنِ فهي للتعليلِ، إلا التي في سورة الشعراء ﴿وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ﴾ [الشعراء: آية ١٢٩] قالوا بمعنى: كَأَنَّكُمْ تَخْلُدُونَ (٣).
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٢) من سورة البقرة.
(٢) السابق.
(٣) السابق.
الخطابِ (١)، وابنُ مسعودٍ (٢)،
وعبدُ اللَّهِ بنُ عمرِو بنِ العاصِ (٣)
أنهم
_________
(١) أخرجه ابن جرير (١٥/ ٤٨٤)، وأشار له ابن كثير (٢/ ٤٦٠)، وذكره ابن القيم في حادي الأرواح ص٢٥٢، ٢٥٣، وعزاه في الدر (٣/ ٣٥٠) لابن المنذر وأبي الشيخ.
وقال الألباني عن إسناده عند ابن جرير: «وهذا إسناد مظلم» ا. هـ رفع الأستار ص ٧٦.
(٢) ذكره البغوي في التفسير (٢/ ٤٠٣) وابن تيمية في كتاب «الرد على من قال بفناء الحنة والنار» ص٥٣ وعزاه لعبد بن حميد، كما ذكره ابن القيم في حادي الأرواح ص٢٤٩ وعزاه لعبد بن حميد، وأشار له ابن كثير (٢/ ٤٦٠)، وعزاه في الدر (٣/ ٣٥٠) لابن
(٣) المنذر، وعزاه الحافظ- كما في تخريج أحاديث الكشاف (٢/ ١٤٩) لمسند الحارث بن أبي أسامة، وعقبه بقوله: «منقطع»، ومراسيل الحسن عندهم واهية؛ لأنه كان يأخد من كل أحد... » ا. هـ والأثر ضعفه الصنعاني في رفع الأستار ص٦٥، وكذا الألباني في التعليق على رفع الأستار ص٦٥، والسلسلة الضعيفة (٢/ ٧٣).
() ذكره البسوي في تاريخه (٢/ ١٠٣)، وأورده القرطبي في التذكرة ص٤٣٧ وابن تيمية في «الرد على من قال بفناء الجنة والنار» ص٦٩ من طريق حرب الكرماني. كما نقله ابن القيم في حادي الأرواح ص٢٥٢، والذهبي في الميزان (٤/ ٣٨٥) في ترجمة أبي بَلج الفزاري الواسطي. وعَدّ هذا الأثر من بلاياه!! وبعد أن ساق الأثر عقبه بقوله: «وهذا منكر. قال ثابت البناني: سألتُ الحسن عن هذا فأنكره» ا. هـ وأشار له ابن كثير (٢/ ٤٦٠)، وذكره الحافظ في التهذيب (١٢/ ٤٩) في ترجمة أبي بَلْج، وانظر: تخريجه لأحاديث الكشاف (٢/ ١٤٨). وقد ضعفه الألباني في الضعيفة (٢/ ٧٢) وفي التعليق على «رفع الأستار» ص ٨١، ٨٢.
مع عظمه وتفرُّق قوائمه حتى يدخل من ثقب إبرة الخياطة، وهذا لا يكون أبداً!! فدخولهم الجنة لا يكون أبداً. وهذا أسلوب عربي معروف. وهذا هو التحقيق.
والقراءات الكثيرة التي تروى هنا عن السلف: ﴿حتى يلج الجُمَّل﴾ ﴿حتى يلج الجُمَل﴾ ﴿حَتَّى يَلِجَ الجُمْلُ﴾ وغيرها من القراءات كلها قراءات شاذة. ومعانيها لا يعتمد عليها (١)؛ لأنهم رووا عن ابن عباس أنه قرأ: ﴿حَتَّى يَلِجَ الجُمَّل فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾ وزعموا أن المراد بالجُمَّل هو الحبال الغليظة التي تجر بها السفينة، وأن هذه لا تدخل في عين الإبرة. فكل القراءات التي تشير إلى الجُمَّل، أو إلى الجُمَل، أو إلى الجَمْل، أو إلى الجُمْل، وغير ذلك من أنها حبال غليظة لا يمكن أن تدخل في الإبرة، كلها لا معوّل عليها، لأنها قراءات شاذة، ومعانيها غير صحيحة. والتحقيق هو قراءة الجمهور التي عليها السبعة بل والعشرة ﴿حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ﴾ [الأعراف: آية ٤٠] أي: حتى يدخل البعير الضخم العظيم في ثقب الإبرة. وهذا لا يكون أبداً، فدخولهم لا يكون أبداً. كقول الشاعر (٢):

إذا شَابَ الغرابُ أتيت أهلي وصار القارُ كاللّبن الحَليِبِ
فالغراب لا يشيب أبداً، والقار -وهو الزفت- لا يَبْيَضُّ أبداً، فلا آتي أبداً.
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ٤٢٨، ٤٣١، ٤٣٣)، القرطبي (٧/ ٢٠٧)، المحتسب (١/ ٢٤٩).
(٢) مضى قريباً.
الله (١) - الذي لا يخلف الميعاد - بجنات عدن وما فيها من النعيم، فمن أين للظالم لنفسه أن يُقَدَّم على السابق بالخيرات والمقتصد؟
فقال بعض العلماء: هذه الآية من سورة فاطر مقام إظهار كرم رب العالمين، وشدة رحمته ولطفه بعباده، فقدم الظالم لئلا يقنط، وأَخَّر السابق بالخيرات لئلا يعجب بعمله فيحبط.
وقال بعض العلماء: قدم الظالم لنفسه لأن أكثر أهل الجنة الظالمون لأنفسهم الذين خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا؛ لأن السابقين قليل، والمقتصدون أقل من الظالمين، وهذا معنى قوله: ﴿وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩)﴾ [الأعراف: آية ١٥٩] وسيأتي حديث عند قوله: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١)﴾ [الأعراف: آية ١٨١] فقد ورد عنه ﷺ أنه قال: «هَذِهِ لَكُمْ وَقَدْ أُعْطِيَ القَوْمُ مِثْلَهَا» (٢) يعني قوم موسى في قوله هنا: ﴿وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ ولكن آية فاطر هذه التي ذكرناها زادت بالسابق بالخيرات، وبالوعد بالجنات للجميع، ففيها من إظهار فضل هذه الأمة ما لم تتناوله إحدى الآيتين هنا في سورة الأعراف.
{وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٧) من سورة البقرة.
(٢) أخرجه ابن جرير (١٣/ ٢٨٦) عن قتادة مرسلاً. وأورده السيوطي في الدر المنثور (٣/ ١٤٩) كذلك عن قتادة، وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن جرير. وعزاه الزيلعي للثعلبي كما في تخريج أحاديث الكشاف (١/ ٤٧٤).
الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} [التوبة: آية ٥] أنها أشهر الإمهال هذه الأربعة، لا الأشهر الحُرُم الأربعة.
وقال بعض العلماء: هي الأشهر الحرم الأربعة، وعلى ذلك لم يبقَ من عهده إلا خمسون يوماً، عشرون من ذي الحجة، والشهر الذي بعده الذي هو المحرم، فتنقضي عهودهم على خمسين يوماً على هذا القول.
فقوله: ﴿بَرَاءةٌ مِّنَ اللَّهِ﴾ هذه البراءة كائنة من الله ﴿إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم﴾ يعني النبي وأصحابه. وإنما خاطبهم جميعاً وإن كان النبي ﷺ هو الذي يتولى عقد العهود لأنهم أتباعه وأعوانه، وهم معه في كل شيء من حَلّ وعقد، فكل حلّ وعقد فعله النبي ﷺ فهم أصحابه وأعوانه وأتباعه، فهم معه فيه؛ ولذا قال: ﴿إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ الكفار الذين يعبدون الأصنام ويشركون بالله (جل وعلا).
والتحقيق: أن هذه ما نزلت إلا في غزوة تبوك، وما زعمه ابن إسحاق ومقاتل وغيرهما من أن صدر هذه السورة نزل قبل عام الفتح، بعد نقض قريش وبني بكر لمعاهدة صلح الحديبية؛ فهو خلاف الظاهر، مع أنه قال به ابن إسحاق ومقاتل وغيرهما (١). قالوا: كان أول هذه السورة نزل قبل هذا؛ لأن النبي ﷺ لما عقد صلح الحديبية بينه وبين كفار قريش بواسطة سهيل بن عمرو العامري (رضي الله عنه) كان خزاعة دخلوا في حلف النبي صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في حلف قريش، وكان ذلك الصلح دخلت فيه قبائل من بني
_________
(١) انظر: القرطبي (٨/ ٦٤ - ٦٥).


الصفحة التالية
Icon