الوجهُ الثاني: أن (لعل) على بابِها من أنها لِلتَّرَجِّي والتوقعِ، إلا أن معنى الترجي والتوقعِ فيها هو بحسبِ ما يظهرُ للناسِ، أَمَّا اللَّهُ (جل وعلا) فهو عالمٌ بما كان وما يكون. ومما يؤيدُ هذا: أن اللَّهَ عَالِمٌ في أَزَلِهِ بأن فرعونَ شَقِيٌّ يموتُ كافرًا - والعياذُ بالله - وهو يقولُ لموسى وهارونَ: ﴿فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه: آية ٤٤] على تَرَجِّيكُمَا وَتَوَقُّعِكُمَا بحسبِ ما يظهرُ لَكُمَا. أَمَّا عاقبةُ الأمرِ وما يَؤُولُ إليه فهي عندَ اللَّهِ جل وعلا.
وهذا معنى قوله: ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾ [الأنعام: آية ٤٢] لأجلِ أن يَتَضَرَّعُوا. أي: لِتَرَجِّي تَضَرُّعِهِمْ بحسبِ ما يَظْهَرُ للناسِ الجاهلين بعواقبِ الأمورِ.
ثم قال: ﴿فَلَوْلاَ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا﴾ [الأنعام: آية ٤٣] قد قَدَّمْنَا (١) أن لفظةَ (لولا) أصلُها تأتي في اللغةِ العربيةِ وفي القرآنِ مشتركةً بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ، إلا أن أحدَ الْمَعْنَيَيْنِ ينقسمُ إلى قِسْمَيْنِ، فتكون أقسامُ (لولا) ثلاثةً في القرآنِ وفي كلامِ العربِ. (لولا) في القرآنِ إِذَنْ تَرِدُ على ثلاثةِ أقسامٍ، بثلاثةِ معانٍ معروفةٍ:
الأولُ: هي (لولا) المعروفةُ عند العلماءِ بأنها حرفُ امتناعٍ لوجودٍ، والمعنى: أنها تَدُلُّ على امتناعِ شيءٍ لوجودِ شيءٍ نحو: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا﴾ [النور: آية ٢١] يعني: أنه هنا انْتَفَى عدمُ الزكاةِ والطهارةِ لوجودِ فضلِ اللَّهِ. وهذا معروفٌ مشهورٌ.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية رقم (٣٧) من هذه السورة.
قالوا: «يأتي يومٌ على النارِ- زمانٌ- تَصْفَقُ أبوابُها ليس فيها أَحَدٌ».
وهذه النارُ هي في الحقيقةِ يجبُ حَمْلُهَا على الطبقةِ التي كان بها عصاةُ المسلمينَ؛ لأنه ثَبَتَ في الأحاديثِ الصحيحةِ أن النارَ يَدْخُلُهَا بعضُ عصاةِ المسلمين ثم يُخْرَجُونَ منها. هذا ثابتٌ متواترٌ عن النبيِّ لا نزاعَ فيه. والنارُ طبقاتٌ وأبوابٌ: ﴿لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ (٤٤)﴾ [الحجر: آية ٤٤] وبَيَّنَ أنها دركاتٌ، وأن المنافقين في الدركِ الأسفلِ منها، فالطبقةُ التي كان فيها عصاةُ المسلمينَ إذا أُخْرِجُوا منها هي التي تَفْنَى، أما النارُ التي فيها الكفارُ فالتحقيقُ أنها باقيةٌ لا تَفْنَى، وأنه لم يَدُلَّ كتابٌ ولا سُنَّةٌ على أنها تَفْنَى، فهي باقيةُ لا تزولُ أَبَدًا؛ لأَنَّ اللَّهَ صَرَّحَ بذلك في آياتٍ كثيرةٍ، فَصَرَّحَ بأنها لا تَفْنَى حيث قال: ﴿كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (٩٧)﴾ [الإسراء: الآية ٩٧]، ومعلومٌ أن (كلما) تَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الفعلِ بَعْدَهَا (١).
ولو قلتَ لِعَبْدِكَ: كلما جاءكَ زيدٌ فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا. وجاءَه زيدٌ عدةَ مراتٍ. فعليهِ في كُلِّ مرةٍ أن يعطيَه درهمًا؛ لأن (كُلَّمَا) تتكررُ دائمًا بتكررِ الفعلِ، فَمَنِ ادَّعَى أن للنارِ خبْوَةً نهائيةً ليس بعدَها زيادةُ سعيرٍ يُرَدُّ عليه بقولِه: ﴿كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (٩٧)﴾ وَبَيَّنَ أنهم لاَ يخرجونَ منها بقولِه جل وعلا: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ
_________
(١) انظر: البرهان للزركشي (٤/ ٣٢٤)، الكليات ٧٤٤.
وهذا هو معنى قوله: ﴿حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ﴾ كذلك العذاب -والعياذ بالله- وإدخال النار، وتحريم الجنة ﴿نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ﴾ المجرمون: جمع تصحيح للمجرم، وهو فاعل الإجرام، والإجرام: ارتكاب الجريمة، والجريمة في لغة العرب (١): الذنب العظيم الذي يستحق صاحبه النكال، ومادته تكون رباعية وثلاثية، تقول: (أجرم) إذا ارتكب الجريمة. وتقول العرب: (جَرَمَ) ثلاثيّاً، والثلاثي لم يرد في القرآن، ولم يرد في القرآن إلا بصيغة الرباعي ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا﴾ [المطففين: آية ٢٩] ﴿فَعَلَيَّ إِجْرَامِي﴾ [هود: آية ٣٥] ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ﴾ كله بصيغة الإجرام بالرباعي. أمّا (جرم) الثلاثي فهو مسموع في اللغة وغير موجود في القرآن. ومن أمثلته في اللغة قول الشاعر (٢):

وننصُرُ مولانَا ونعلم أنَّهُ كما الناسُ مجرومٌ عليهِ وجارمُ
لأن (المجروم) مفعول و (الجارم) فاعل، والمفعول والفاعل لا يأتيان إلا من الثلاثي كما هو معروف في فنِّ التصريف. وهذا معنى قوله: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ﴾.
ثم قال: ﴿لَهُم مِّن جَهَنَّمَ﴾ أي: من النّار ﴿مِهَادٌ﴾ المهاد: الفراش. فراشهم من النار ﴿وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ﴾ الغواشي: جمع غاشية، والغاشية: هي اللحاف الذي يتغطى به الإنسان. معناها: لُحُفُهم التي تغطيهم من النار، وفرشهم التي تحتهم من النار والعياذ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٥) من سورة الأنعام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٥) من سورة الأنعام.
كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠)} [الأعراف: آية ١٦٠].
﴿وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا﴾، الضمير في ﴿وَقَطَّعْنَاهُمُ﴾ عائد إلى قوم موسى، فقوله: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمُ﴾ فيه وجهان معروفان من التفسير، وبحسبهما يكون القولان في إعراب قوله: ﴿اثْنَتَيْ عَشْرَةَ﴾ (١) قال بعض العلماء: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمُ﴾ أي: صَيَّرْنَاهم قطعًا. وعلى هذا فقطعنا تطلب مفعولين لتضمينها معنى (صيرنا)، ومفعولها الأول: هو الضمير ﴿وَقَطَّعْنَاهُمُ﴾، ومفعولها الثاني: ﴿اثْنَتَيْ عَشْرَةَ﴾ أي: صيرناهم اثنتي عشرة فرقة.
وقال بعض العلماء: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمُ﴾ معناه: فرقناهم وميزنا بعضهم عن بعض؛ لأنهم أبناء اثني عشر رجلاً، وكل رجل صار من نسله قبيلة، والسبط في أولاد إسحاق بمعنى القبائل في أولاد إسماعيل، ويعقوب (عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام) كان له اثنا عشر ابنًا كل ابن منهم وُلد له نسل، فصار كل ابن منهم قبيلة، والقبائل عندهم تسمى (أسباطًا) (٢). والمفسرون يذكرون أسماء هؤلاء الأسباط الذين تَفَرَّعَتْ منهم القبائل (٣)، وذِكْرُها إنما هو عن طريق الإسرائيليات؛ ولذا اختلفوا فيها، فمنهم من يقول: هم روبيل، وشمعون، ويهوذا، وربالون، ويشجر، ودان، ونفتالي، وجاد، وآشر، ويوسف، وشقيقه بنيامين. ومنهم من يذكر غير
_________
(١) انظر: الدر المصون (٥/ ٤٨٤).
(٢) انظر: القرطبي (٢/ ١٤١).
(٣) انظر: ابن جرير (٢/ ١٢١).
كنانة منهم بنو الديل ابن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وبنو جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة، وبنو مدلج بن بكر بن كنانة، وبنو ضمرة بن بكر بن كنانة، فهي أربع قبائل من كنانة دخلوا في ذلك الصلح مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قبل ذلك بين كنانة وخزاعة دم، وكان الدم في خصوص بني الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة من قبائل كنانة، فانتهزوا الفرصة وعدوا على خزاعة، وأعانهم قريش على خزاعة الإعانة المشهورة التي هي سبب غزوة الفتح؛ لأن بني الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة لما عدوا على خزاعة ونقضوا عهد النبي ﷺ وصلحه الذي أبرمه معهم في الحديبية، وأعانتهم قريش على ذلك بالسلاح، بل بعض رجال قريش دخل معهم في قتالهم، كما قاله بعض العلماء، وأرسل خزاعة عمرو بن سالم (رضي الله عنه) إلى النبي ﷺ بالمدينة يستنصره، وجاءه هنا في المدينة - حرسها الله - وأنشده رجزه المشهور (١):
يا رَبِّ إني ناشِدٌ مُحَمَّدَا حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الأَتْلَدَا
كُنْتَ لَنَا أَباً وَكُنَّا وَلَدَا (٢) ثُمَّتَ أَسْلَمْنَا وَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا
إِنَّ قُرَيْشاً أَخْلَفُوكَ المَوْعِدَا وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ المُؤَكَّدَا
وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتَ تُنْجِي أَحَدَا وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدَا
فَادْعُ عِبَادَ اللهِ يَأْتُوا مَدَدَا فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ قَدْ تَجَرَّدَا
أَبْيَض مِثْل الشَّمْسِ يَجري صُعدَا في فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يجري مُزْبدا
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٨) من سورة الأنفال، ووقع فيها هنا تقديم وتأخير كما وقع في الموضع السابق. وقد أثبتنا نص الأبيات هناك في الهامش فليراجع. وانظر: القرطبي (٨/ ٦٥).
(٢) في ابن هشام (١٢٣٥): «قد كنتم وُلْداً وكنا والداً».


الصفحة التالية
Icon