عَاتٍ متمردٍ كائنًا ما كان. فَكُلُّ عاتٍ متمردٍ فهو (شيطانٌ) في لغةِ العربِ التي نَزَلَ بها القرآنُ، سواء كان من الإنسِ أو من الجنِّ أو من غيرِهما. إلا أن (الشيطانَ) كان بالحقيقةِ العُرفيةِ يَسْبِقُ إلى إبليسَ وذريةِ إبليسَ. أما في الوضعِ اللغويِّ فَكُلُّ مُتَمَرِّدٍ عَاتٍ تُسَمِّيهِ العربُ (شَيْطَانًا)، سواءً كان من الإنسِ أو من الْجِنِّ أو من غيرِهما، ومن إطلاقِ (الشيطانِ) على المتمردِ العاتِي من بني آدمَ قولُه تعالى: ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ [البقرة: آية ١٤] أي: عُتَاتِهِمُ المتمردين من رؤساءِ الكفرةِ، وقولُه تعالى: ﴿شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ [الأنعام: آية ١١٢] وقد جاءَ حديثٌ عن أَبِي ذَرٍّ عن النبيِّ - ﷺ -: «أَنَّ مِنَ الإِنْسِ شَيَاطِينَ» (١).
وَكُلُّ
_________
(١) ولفظ الحديث المشار إليه عن أبي ذر (رضي الله عنه) قال: أتيت رسول الله - ﷺ - وهو في المسجد فجلست، فقال: «يا أبا ذر هل صليت؟» قلت: لا، قال: «قم فصل». فقمت فصليت ثم جلست، فقال: «يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن». قلت يا رسول الله: وللإنس شياطين؟ قال: «نعم.. » الحديث.
وقد أخرجه أحمد (٥/ ١٧٨، ١٧٩)، والنسائي، كتاب الاستعاذة «الاستعاذة من شر شياطين الإنس» حديث: رقم (٥٥٠٧)، (٨/ ٢٧٥)، وابن جرير في التفسير (١١/ ٥٣ - ٥٥)، وابن حبان (الإحسان) (١/ ٢٨٧)، والطيالسي ص ٦٥، والبيهقي في الشعب (٧/ ١٧٨)، كلهم من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
وللحديث طرق متعددة لا تخلو من ضعف إلا أن بعضها قد يتقوى ببعض والله أعلم.
وهذا الحديث له شاهد من حديث أبي أمامة عند أحمد (٥/ ٢٦٥ - ٢٦٦)، والطبراني في الكبير (٨/ ٢٥٨)، وابن أبي حاتم في التفسير (٤/ ١٣٧١).
كبيرُ الْمُفَسِّرِينَ محمدُ بنُ جريرٍ الطبريُّ (١)، ونسبَه لقتادةَ والضحاكِ وَخَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ وَأَبِي سِنَانَ: أن (ما) بمعنَى: (مَنْ) وعليه فلا إشكالَ، فَخَالِدِينَ فيها إلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ عدمَ خلودِه من العصاةِ الذين أُدْخِلُوا فيها لِتُمَحِّصَهُمْ وتطهرهم من الذنوبِ، وغايةُ ما في البابِ أنه أَطْلَقَ (مَا) وَأَرَادَ (مَنْ) (٢)، وإطلاقُ (ما) مُرَادًا بِهَا (مَنْ) كثيرٌ فِي القرآنِ، كقولِه: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ﴾ [النساء: الآية ٣] أي: مَنْ طَابَ لَكُمْ. وقولُه: ﴿إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ [المؤمنون: الآية ٦] أي: مَنْ مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ.
والآياتُ موجودةٌ كثيرةٌ غيرُ هذا. أما آيةُ النبأِ: ﴿لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (٢٣)﴾ [عم: الآية ٢٣] فالآيةُ التي بعدَها تُبَيِّنُهَا، بقرينةِ آيةٍ فِي سورةِ (ص) فَهِيَ بيانٌ قُرْآنِيٌّ وَاضِحٌ، وخيرُ ما يُفَسَّرُ به القرآنُ القرآنُ؛ لأَنَّ معنَى: ﴿لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (٢٣)﴾ أي: لاَبِثِينَ فيها أَحْقَابًا فِي حالِ كونِهم لاَ يذوقونَ فيها بَرْدًا وَشَرَابًا إلا حميمًا (٣) وغساقًا. [فالآيةُ بَيَّنَتْ] (٤) أحقابَ الحميمِ والغساقِ [مع كونِهم يُعَذَّبُونَ] (٥) بأشكالٍ أُخَرَ وأنواعٍ أُخَرَ، غيرِ أنواعِ الحميمِ والغسَّاقِ، وهذا التفسيرُ دَلَّتْ عليه آيةُ (ص) دلالةً واضحةً؛ لأَنَّ اللَّهَ قال: ﴿هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (٥٦) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧)﴾ ثم قال:
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٥/ ٤٨١_ ٤٨٣).
(٢) انظر: البحر المحيط (٤/ ٢٢١)، الدر المصون (٥/ ١٥١).
(٣) يحتمل أن تكون عبارة الشيخ هكذا: «لا يذوقون فيها إلا بردًا وشرابًا وحميمًا وغساقًا». ولضعف التسجيل لم أجزم بذلك.
(٤) في الأصل قدر كلمتين غير واضحتين. وما بين المعقوفين [] زيادة يستقيم بها الكلام.
(٥) في الأصل كلمة غير واضحة. وما بين المعقوفين [] زيادة يستقيم بها الكلام.
الروايات: وسَبْعُونَ شُعْبَةً، وفي بعضها:- وسِتُّونَ شُعْبَةً، أعْلاهَا شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ» (١) فسمى إماطة الأذى عن الطريق إيماناً، وهو من الأعمال. وفي الحديث: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيماناً... » الحديث (٢). فسمى الصوم إيماناً «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمانًا واحْتِسَاباً... » (٣) الحديث، فسمى صلاة ليلة القدر إيماناً ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ [البقرة: آية ١٤٣] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس. وأمثال هذا كثيرة جدّاً.
أما إذا عُطف العمل الصالح على الإيمان كقوله هنا: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ [الأعراف: آية ٤٢] فإن الإيمان حينئذ ينصرف إلى رُكْنِهِ الأكبر الأعظم وهو الاعتقاد القلبي، وهو إيمان القلب واعتقاده وانقياده بشهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبكل ما يجب الإيمان به مما بينته السنة الصحيحة والقرآن العظيم؛ لأن العمل هنا نُصَّ عليه في قوله: ﴿وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ ولو لم يُنص على العمل لدخل في الإيمان؛ لأن القلب إذا آمن إيماناً صحيحاً تبعه جميع -سائر- الأعضاء؛ لأن القلب أمير البدن، إذا تَوَجَّهَ إلى جِهَة وجَّه إليها البدن، وفي الحديث الصحيح: «إِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ» (٤).
_________
(١) السابق.
(٢) السابق.
(٣) السابق.
(٤) مضى عند تفسير الآية (٧٥) من سورة البقرة.
السلام) وهو الذي فتح الله على يديه كما سيأتي هنا وتقدم في سورة البقرة. ولما كان بنو إسرائيل في التيه هذه الأربعين سنة أصابهم العَطَشُ وشَكَوْا إلى موسى فأوْحَى الله إليه أن اضرب بعصاك الحجر، فضَرَبَهُ فانبجست منه اثنتا عشرة عينًا. وشكوا له مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ فظلل الله عليهم الغمام يقيهم حر الشمس، وشكوا له من الجوع فأنزل الله عليهم المن والسلوى كما تقدم في سورة البقرة (١) وكما هو مذكور هنا في سورة الأعراف.
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ﴾ [الأعراف: آية ١٦٠] أوحى الله إلى نبيه موسى حين استسقاه قومه. الإيحاء في لغة العرب: هو كل إلقاء بشيء في سرعة وخفاء فهو إيحاء. فهذا معناه اللغوي، والوحي له معنى لغوي ومعنى شرعي كغيره من المعاني (٢). فالوحي الشرعي معروف، وهو: ما يوحي الله لنبيه بواسطة الملك مثلاً، وربما أوحى إلى النبي بغير واسطة كما أعطى نبينا ﷺ ليلة الإسراء الصلوات الخمس وخواتيم سورة البقرة، فظاهر حديث ابن مسعود عند مسلم أنه من غير واسطة الملك (٣). وقد يكون الوحي بواسطة الملك وهو على أنحاء كثيرة معروفة. وأصل الإيحاء في لغة
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٨) من سورة البقرة.
(٢) مضى عند تفسير الآية (١١٢) من سورة الأنعام.
(٣) أخرجه مسلم في الإيمان، باب في ذكر سدرة المنتهى. حديث رقم: (١٧٣)، (١/ ١٥٧). ولفظه: «لما أُسري برسول الله ﷺ انتُهي به إلى سدرة المنتهى -إلى قوله- قال: فأُعطي رسول الله ﷺ ثلاثًا: أُعطي الصلوات الخمس، وأُعطي خواتيم سورة البقرة وغُفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئًا المُقْحِمَات».
والحكمة في أن الله (جل وعلا) أجَّلهم هذه الأشهر الأربعة ليروا رأيهم، ويتأملوا في شأنهم لعل الله أن يهديهم إلى صوابهم. وهذا معنى قوله: ﴿فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ﴾؛ أي: اذهبوا في جوانب أرض الله مقبلين ومدبرين آمنين، لا خوف عليكم في مدة هذه الأشهر الأربعة.
ثم قال: ﴿وَاعْلَمُواْ﴾ أي: أيقنوا علماً يقيناً لا يتطرق إليه الشك ﴿أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ﴾ ﴿مُعْجِزِي﴾ أصله: معجزين بالنون، فحذفت النون للإضافة. والمعجزون جمع المعجز، وهو اسم فاعل (أعْجَزه) العرب تقول: «أعجزه يُعجزه» إذا صار غير قادر عليه. أنكم لا تفوتونه ولا تتعذرون عليه، بل أنتم في قبضته وتحت سلطانه وقهره، هو قادر عليكم واعلموا أيضاً ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ جل وعلا ﴿مُخْزِي الْكَافِرِينَ﴾ [التوبة: آية ٢] المخزي: اسم فاعل أخزى، ومعنى إخزائه للكافرين: أنه مذلهم ومهينهم، يذلهم في الدنيا بالقتل والأسر، ويهينهم بذلك وفي الآخرة بعذاب الله، كما سيأتي في قوله: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (١٤)﴾ الآية [التوبة: آية ١٤] وهذا معنى قوله: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ﴾ [التوبة: آية ٢].
ثم قال تعالى: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ﴾ ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ﴾ جملة معطوفة على جملة؛ لأن جملة: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ﴾ [التوبة: آية ٣] معطوفة على قوله: ﴿بَرَاءةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ (١)﴾ [التوبة: آية ١] ويجوز في قوله: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ﴾ من


الصفحة التالية
Icon