ومناسبتُها للتسميةِ هي بُعْدُهُ عن رحمةِ اللَّهِ - والعياذُ بالله (جل وعلا) - وعلى هذا القولِ أن (الشيطانَ) من مادةِ (شَطَنَ) فوزنُه بالميزانِ الصرفيِّ (فَيْعَال).
القولُ الثاني: أن (الشيطانَ) أصلُه من مادةِ (شَاطَ يَشِيطُ) إذا هَلَكَ، والعربُ تقولُ: (شَاطَ يَشِيطُ) إذا هَلَكَ، وعليه فإنما سُمِّيَ شيطانًا لِهَلاَكِهِ - والعياذُ بالله - لأنه هالكٌ مخلدٌ يومَ القيامةِ في عذابِ اللَّهِ. والعربُ تقولُ: (شاطَ يشيطُ). إذا هَلَكَ، وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الأَعْشَى ميمونِ بنِ قيسٍ (١):
قَدْ نَخْضِبُ الْعَيْرَ مِنْ مَكْنُونِ فَائِلِهِ (٢) وَقَدْ يَشِيطُ عَلَى أَرْمَاحِنَا الْبَطَلُ
يعني بقوله: (يشيطُ) أي: يموتُ ويهلكُ. وعلى هذا فَوَزْنُ (الشيطانِ) بالميزانِ الصرفيِّ: (فَعْلاَن) فَعَلَى أنه من (شَاطَ) فوزنُه: (فَعْلاَن)، وعلى أنه من (شَطَنَ) فوزنُه: (فَيْعَال)، هذا وزنُه بالميزانِ الصرفيِّ، واختلافُ العلماءِ في اشتقاقِه وَمَعْنَاهُ.
والمرادُ بالشيطانِ هنا: جنسُ الشيطانِ، وهو إبليسُ وذريتُه، والعياذُ بِاللَّهِ مِنْ تَضْلِيلِهِمْ.
﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ الشيطانُ يُزَيِّنُ للكفرةِ والعصاةِ أعمالَهم الخبيثةَ، وذلك التزيينُ إنما هو بالوسوسةِ، يوسوسُ لهم، وينفثُ في قلوبِهم ما يُزَيِّنُ لهم به المعاصيَ والكفرَ - والعياذُ بالله - وهذا معنى قولِه: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
_________
(١) البيت في القرطبي (١/ ٩٠)، اللسان (مادة: شيط)، (٢/ ٣٩٣).
(٢) الفائل. عرق في الفخذين يكون في خربة الورك.
وقد أطبقَ العلماءُ أنه لم ينزل من السماءِ إلى الأرضِ واعظٌ أكبرُ، ولا زاجرٌ أعظمُ من واعظِ العلمِ والمراقبةِ (١)، وقد ضَرَبَ العلماءُ لهذا مَثَلاً- وَلِلَّهِ المثلُ الأَعْلَى- قالوا: لو فَرَضْنَا أن هذا البراحَ من الأرضِ فيه مَلِكٌ قتَّالٌ للرجالِ، سفاكٌ للدماءِ، عظيمُ الغضبِ والنكالِ إذا انْتُهِكَتْ حرماتُه- وَلِلَّهِ المثلُ الأَعْلَى- وحولَ هذا الملكِ زوجاتُه وبناتُه وَجَوَارِيهِ، هل يخطرُ في قلبِ أحدٍ من الحاضرين، يمكنُ أحدًا منهم أن يغمزَ إلى واحدةٍ من تلك النساءِ أو يشيرَ أو يَهُمَّ بِرِيبَةٍ؟ لاَ، وكَلاَّ. كلهم خاضعةٌ أبصارُهم، خائفةٌ جوارُحهم، غايتُهم السلامةُ.
ونحن نقولُ- ولله المثلُ الأعلى- إن خالقَ السماواتِ والأرضِ أشدُّ اطلاعًا، وأعظمُ بطشًا في سَخَطَاتِهِ، وأشدُّ فَتْكًا عندَ سخطه؛ لأن حِمَاهُ في أرضِه محارمُه، وأنه لا تَخْفَى عليه خَافِيَةٌ. فَأَهْلُ هذا البلدِ وغيرُهم من البلادِ لو خافوا أن أميرِ البلدِ يعلمُ كُلَّ ما يفعلونَه من الخسائسِ بالليلِ لَبَاتُوا مُتَأَدِّبِينَ هائبين لا يعملونَ إلا خَيْرًا.
وهذا مَلِكُ السماواتِ والأرضِ، العظيمُ الجبارُ، يُعْلِمُ خلقَه بأنه مُطَّلعٌ على كُلِّ ما يفعلونَ من الخسائسِ، فهذا أكبرُ واعظٍ، فعليهم أن يعلموا مراقبةَ اللَّهِ، ويعلموا أن اللَّهَ عليمٌ بما يعملونَ، فلا يفعلونَ إلا ما يُرْضِيهِ، وهذا الواعظُ الأكبرُ، والزاجرُ الأعظمُ كان جبريلَ عليه السلامُ يعرفُ قيمتَه حَقَّ المعرفةِ.
فجبريلُ يعلمُ أن اللَّهَ خلقَ هذه الخلائقَ لِيَبْتَلِيَهَا في خصوصِ إحسانِ العملِ، حيث قال في أولِ سورةِ هودٍ: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٩) من هذه السورة.
الصحيحة. ويقول في عمل غير المؤمن: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً (٢٣)﴾ [الفرقان: آية ٢٣] ويقول في أعمال غير المؤمنين: ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ﴾ [إبراهيم: آية ١٨] وفي آية: ﴿كَسَرابٍ﴾ [النور: آية ٣٩] فأعمالهم باطلة -والعياذ بالله- فالكفار الذين لا عقيدة لهم ولا إيمان بالعقيدة الصحيحة قد يعملون أعمالاً صالحة يريدون بها وجه الله، كأن يبرّ الواحد والديه، وينفس عن المكروب، ويقري الضيف ويعين المظلوم، فهذه أعمال صالحة أخلص فيها لله ولكنها لا تنفعه يوم القيامة؛ لأنها لم تبُنَ على أساس عقيدة صحيحة، وإيمان بما يجب الإيمان به في الكتاب والسنة، لكن أعمال الكفار إن وقعت في الدنيا صالحة مطابقة للشرع مخلصون فيها يثيبهم الله بها في دار الدنيا؛ لأن الله لا يضيع عنده شيء، كما قال جل وعلا: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا [وَهُمْ فِيَها لاَ يُبْخَسُونَ (١٥)] [٧/ب] /أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (١٦)﴾ [هود: الآيتان ١٥، ١٦] وثبت في صحيح مسلم من حديث أنس (١) أن الله (جلَّ وعلا) يطعم الكافر بحسناته في الدنيا حتى يرد على الله يوم القيامة ولا جزاء له.
وهو أحد التفسيرين في قوله (جل وعلا): ﴿وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ﴾ [النور: آية ٣٩] فأحد التفسيرين: فوفاه حسابه في دار الدنيا، يعني: عمل الكافر بالعافية والمال والرزق والتنعم في الدنيا على أحد القولين كما سيأتي.
_________
(١) مسلم في صفات المنافقين وأحكامهم، باب جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا... حديث رقم (٢٨٠٨)، (٤/ ٢١٦٢).
علماء العربية: (أن المُفسِّرة) وضابطها: أن يتقدمها معنى القول ولا يكون فيه حروف القول (١)؛ لأن ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى﴾ يتضمن معنى (قلنا لموسى) وليس فيه [حروف] (٢) القول، ومعنى كونها تفسيرية: أن ذلك الذي أُوحي إلى موسى يفسره ما بعد (أن) وهو الأمر بضرب الحجر لتنبجس منه اثنتا عشرة عينًا. وبعض علماء العربية يقولون: لا مانع من دخول أن المصدرية على الأفعال الطلبية، وعليه فتكون مصدرية على هذا القول.
قوله: ﴿أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ﴾ [الأعراف: آية ١٦٠] العصا معروفة، يعرفها كل أحد، وألفها مبدلة من واو، فلو ثنيت لقيل فيها: (عَصَوَان) ومنه قول ذي الرمة -غيلان بن عقبة (٣) -:

فجاءَتْ بنَسْجِ العنكَبُوتِ كأنَّهُ على عَصَوَيْهَا سابِريٌّ مُشَبْرَقُ
وقوله: ﴿الْحَجَرَ﴾ قال بعض العلماء: هذه الألف واللام تدل على عهد، وأنه حجر كان معهودًا عند موسى. وبعض العلماء يقول: هي لمطلق الجنس. وفيه هنا مقالات إسرائيلية لا يثبت شيء منها (٤). قوم زعموا أنه حجر مربع كان يحمله في التيه معه في مخلاته ويضربه [بالعصا] (٥) فكل جهة من جهاته الأربع تنفجر فيها ثلاث عيون، ويكون المجموع اثنتا عشرة عينًا. وقال بعض العلماء: هو كلما نزل في محل أخذ حجرًا منه وضربه فانفجرت منه تلك العيون. وقال
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٥١) من سورة الأنعام.
(٢) في الأصل: «معنى» وهو سبق لسان.
(٣) البيت في اللسان (مادة: عصا) (٢/ ٨٠٢).
(٤) انظر: ابن جرير (٢/ ١٢٠).
(٥) في الأصل: «بالحجر» وهو سبق لسان.
يقولون: حج أصغر، وحج أكبر، يعنون بالأصغر: العمرة لنقصان أعمالها عن أعمال الحج (١).
واختلف العلماء في يوم الحج الأكبر (٢) فذهبت جماعة من العلماء إلى أن المراد به يوم عرفة. وعليه فَمَبْدَأُ النِّدَاءِ بالأربعة الأشهر كائن ابتداء تأجيله من يوم عَرَفَة. وقالت جماعة آخرون: هو يوم النحر. وخلاف العلماء في يوم الحج الأكبر هل هو يوم عرفة أو يوم النحر مشهور معروف، وكان بعض المحققين يختار أنه يوم النحر لأمور، منها: أنه جاءت بذلك روايات صحيحة، كرواية أبي هريرة في صحيح البخاري (٣). وقالوا: ولأن أكثر أفعال الحج إنما تكون يوم النحر؛ لأنه هو اليوم الذي يطاف فيه طواف الإفاضة، وينحر فيه، ويحلق فيه، ويقضى فيه التفث، وأن يوم عرفة لا يختص
_________
(١) انظر: التمهيد (١/ ١٢٥)، ابن جرير (١٤/ ١٢٩)، وابن أبي حاتم (٦/ ١٧٤٧)، والبغوي (٢/ ٢٦٨)، وابن عطية (٨/ ١٢٨)، والمجموع (٨/ ٢٢٣)، وابن كثير (٢/ ٣٣٢)، والدر المنثور (٣/ ٢١١)، حصول الأجر في أحكام وفضل العمل في أيام العشر ص١٢٢.
(٢) انظر: سنن سعيد بن منصور (٥/ ٢٣٦ - ٢٤١)، التمهيد (١/ ١٢٥)، ابن جرير (١٤/ ١٣١)، القرطبي (٨/ ٦٩)، المجموع (٨/ ٢٢٣)، تفسير البغوي (٢/ ٢٦٨)، تفسير ابن عطية (٨/ ١٢٧)، تهذيب السنن لابن القيم (٢/ ٤٠٦)، زاد المعاد (١/ ٥٤)، تفسير ابن كثير (٢/ ٣٣٢ - ٣٣٥)، فتح الباري (٨/ ٣٢١)، الدر المنثور (٣/ ٢١١)، حصول الأجر في أحكام وفضل العمل في أيام العشر ص١١٦.
(٣) ولفظه: «بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين، بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى... » البخاري في التفسير، باب ﴿فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَربَعَة أَشهر وَاعلَموا... ﴾ حديث رقم: (٤٦٥٥) (٨/ ٣١٧).


الصفحة التالية
Icon