﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: آية ٤٤].
﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ النسيانُ هنا معناه: التَّرْكُ عَمْدًا.
وقد بَيَّنَّا أن مادةَ (النسيانِ) تُطْلَقُ في القرآنِ وفي اللغةِ العربيةِ إِطْلاَقَيْنِ (١):
يطلقُ (النسيانُ) على تركِ الفعلِ عمدًا نحو قوله: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾ [الحشر: آية ١٩] وكقولِه: ﴿إِنَّا نَسِينَاكُمْ﴾ [السجدة: آية ١٤] والله لاَ يَنْسَى أبدًا النسيانَ الذي هو زوالُ العلمِ؛ لأن اللَّهَ يقولُ: ﴿لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنْسَى﴾ [طه: آية ٥٢] ويقولُ: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ [مريم: آية ٦٤] فهذا الاصطلاحُ [معروفٌ] (٢) تقولُ العربُ: «أمرتُ زيدًا فَنَسِيَ أَمْرِي». يعنونَ تَرَكَهُ عَمْدًا.
الثاني: هو (النسيانُ) بمعنى زوالِ العلمِ. كالنسيانِ الاصطلاحيِّ المعروفِ. ومنه قولُه: ﴿أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ﴾ [الكهف: آية ٦٣] وقولُه: ﴿وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى﴾ [الأنعام: آية ٦٨] ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ﴾ [المجادلة: آية ١٩] هذا (النسيانُ) بمعنَى زوالِ العلمِ، والمرادُ في الآيةِ: النسيانُ بمعنى التركِ عَمْدًا، وهو قولُه: ﴿فَلَمَّا نَسُوا﴾ [الأنعام: آية ٤٤] أي: تَرَكُو عَمْدًا ﴿مَا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ ما ذَكَّرَهُمُ اللَّهُ به من البأساءِ والضراءِ، فلم يتضرعوا في حالةِ الضُّرِّ، ولم يشكروا في حالةِ النعيمِ؛ لأن اللَّهَ بيَّن أن الكافرَ عند حالةِ النعماءِ أنه فَخُورٌ أَشِرٌ بَطِرٌ، وعند حالةِ الضراءِ يَؤُوسٌ قنوطٌ،
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤١) من سورة الأنعام.
(٢) زيادة ينتظم بها الكلام.
فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} _ ثم بَيَّنَ الحكمةَ فقال: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [هود: الآية ٧] وقال في أولِ الكهفِ: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا﴾ ثم بَيَّنَ الحكمةَ فَقَالَ: ﴿لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧)﴾ [الكهف: الآية ٧] ثم قال في المُلْكِ: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [الملك: الآية ٢] فَعَرَفْنَا أنا خُلِقْنَا لِنُبْتَلَى في إحسانِ العملِ، وَمَنْ عرفَ أنه خُلِقَ ليُختبرَ في شيءٍ تَاقَتْ نفسُه إلى أن يعرفَ النجاحَ في ذلك الشيءِ ما هو طريقُه؟ فجاءَ جبريلُ يُبَيِّنُ هذه النقطةَ العظيمةَ للصحابةِ، لَمَّا جاء في صورةِ الأعرابيِّ، في حديثِ جبريلَ المشهورِ فقال: «يَا مُحَمَّدُ- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ- أَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ؟» المهمُّ الذي خُلقوا من أجلِ الاختبارِ فيه. فالنبيُّ - ﷺ - بَيَّنَ له أن الإحسانَ لا يقعُ إلا بملاحظةِ هذا الزاجرِ الأكبرِ والواعظِ الأعظمِ. ففال له: «الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» (١).
فَعَلَيْنَا جميعًا أن نعرفَ رَبَّنَا في القرآنِ من أن اللَّهَ عليمٌ خبيرٌ، يعلمُ خائنةَ الأعينِ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ [ق: الآية ١٦]. فهذا أكبرُ زاجرٍ وأعظمُ واعظٍ، فَعَلَى المرءِ إذا هَمَّ بشيءٍ أن يراقبَ خالقَ السمواتِ والأرضِ، ويعلمَ أنه حاضرٌ يرى: ﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (٧)﴾ [الأعر اف: الآية ٧] ليُحَاسِب.
{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (١٣٠) ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (١٣١)
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٨) من سورة البقرة.
فحيث اجتمعت هذه الأمور الثلاثة - بأن كان العمل مطابقاً للشرع، وصاحبه مخلص فيه فيما بينه وبين الله، وكان صاحبه بانيه على عقيدة صحيحة - فهذا عمل صالح ينفعه يوم القيامة، وهو الذي وعد الله أهله بالجنة في هذه الآية التي نحن بصددها وغيرها من الآيات، وحيث اختل أحد تلك الأمور الثلاثة لم يكن عملاً صالحاً كما بَيَّنَّا.
وقوله: ﴿الصَّالِحَات﴾ [الأعراف: آية ٤٢] أصله يستشكل طالب العلم: ما مفرد الصالحات؟ لأن العمل الصالح لا يجمع على صالحات. وإذاً فما مفرد الصالحات؟
والتحقيق أن مفرد الصالحات: صالحة؛ لأن العرب تسمي الخصلة (١) الطيبة: حسنة، وتسميها: صالحة. وهذا معروف في كلامهم، تقول مثلاً: فعل فلان حسنة، وفعل صالحة. كما قال تعالى: ﴿مَن جَاءَ بالحَسَنَةِ﴾ [االأنعام: آية ١٦٠] أي: بالخصلة الحسنة، وكذلك من فعل الصالحة كالحسنة، أي: هي الخصلة الطيبة التي ترضي الله. وهذا معروف في كلام العرب. ومن إطلاق الصالحة على الخصلة الطيبة: قَوْلُ أبي العاص بنِ الرَّبِيع في زَوْجِهِ زينب بنت رسول الله ﷺ في أبياته المشهورة (٢):

ذَكَرْتُ زَيْنَبَ بَالأَجْزَاعِ مِنْ إِضَما فَقُلْتُ سَقْياً لِشَخْصٍ يَسْكُنُ الحَرَمَا
بِنْتُ الأَمِينِ جَزَاكِ اللهُ صَالِحَةً وَكُلُّ بَعْلٍ سَيُثْنِي بِالَّذِي عَلِمَا
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٦٠) من سورة الأنعام.
(٢) السابق.
بعض العلماء: هو الحجر الذي هرب بثوبه وقصته مشهورة، وسيأتي الكلام عليها في تفسير سورة الأحزاب في قوله تعالى: ﴿لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا﴾ [الأحزاب: آية ٦٩] لأن نبي الله موسى كان بنو إسرائيل في زمنه يذهبون إلى البحر فيغتسلون بعضهم ينظر إلى بعض وهم عراة، وكان نبي الله موسى لا يغتسل حيث يراه أحد، بل يبعد ويغتسل من حيث لا يراه أحد، وكانوا يقولون: ما منعه أن يغتسل بمرأى منا إلا أنه آدر، والآدر: المصاب بالأُدرة، والأُدرة انتفاخ إحدى الخصيتين حتى تعظم وتكبر من مرض. فيومًا وضع ثوبه على حجر فأجرى الله الحجر بالثوب إلى جماعة بني إسرائيل، فاشتد موسى يعدو في أثر الحجر يقول: ثوبي يا حجر، ثوبي يا حجر، حتى رآه بنو إسرائيل كأحسن ما يكون من الرجال، سالمًا من الأُدرة كل السلامة، فقالوا: والله ما بموسى من بأس (١). ويذكر بعضهم أنه قيل له: احتفظ بهذا الحجر فإن له لشأنًا، وأنه هو الذي كان يضربه بعصاه. وكل هذه مقالات إسرائيلية لا ثبوت لشيء منها، هذا معنى قوله: ﴿أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا﴾.
قال في سورة البقرة: ﴿فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا﴾ [البقرة: آية٦٠] وقال في سورة الأعراف هنا: ﴿فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا﴾ وأكثر علماء العربية على أن معنى (الانبجاس)
_________
(١) أخرجه البخاري في الغسل، باب من اغتسل عريانًا وحده، حديث رقم: (٢٧٨)، (٢/ ٣٨٥) وأطرافه: في (٣٤٠٤، ٤٧٩٩). ومسلم في الفضائل، باب من فضائل موسى، حديث رقم: (٣٣٩)، (٤/ ١٨٤١) وفي الحيض، باب جواز الاغتسال عريانًا في الخلوة، حديث ر قم: (٣٣٩) (١/ ٢٦٧).
بشيء خاص من مناسك الحج؛ لأن الوقوف وإن كان ركناً من أركان الحج فنفس اليوم لا يختص به عن الليلة لإجماع العلماء على أن من وقف بعرفة ليلة النحر أن ذلك يجزئه، بعضهم يقول: يلزمه دم لفوات النهار، وبعضهم يقول: حجه كامل -كمالك وأصحابه- ولا دم عليه. وقولهم: «الحج عرفة»، قالوا: لا يُرَدّ عَلَى هَذَا؛ لأن عَرَفَةَ شَامِلٌ للَّيْلِ والنَّهَارِ، فالوقوف الذي هو الركن الأعظم في الحج يكون في الليل، ولا يشترط أن يكون في النهار، والكلام في خصوص اليوم.
وقال بعض العلماء: يوم الحج الأكبر هو جميع أيام الحج، لأن العرب تقول: يوم صفين، ويوم الجمل، ويوم بُعَاث، وهو زمن يتناول أياماً معدودة متعددة، وأنه يشمل الجميع. وهذا أيضًا لا بأس به.
وجمهور العلماء على أن ابتداء تأجيل هذه الأشهر الأربعة هي من يوم النحر، وأن انقضاءها في العاشر من ربيع الثاني؛ لأن هذه الأشهر الأربعة عشرون منها من ذي الحجة من يوم الحج الأكبر، ثم منها المحرم كاملاً، وصفر كاملاً، وربيع الأول كاملاً، وعشر من ربيع الثاني، فتتم هنالك الأشهر الأربعة، وعلى هذا جماهير العلماء.
وقد اشتهر قول هنا عن الزهري لا شَكَّ فِي غَلَطِهِ، وإن كان قائله جَلِيلاً؛ لأنهم ذكروا عن الزهري (رحمه الله) أن أول هذه الأشهر الأربع أنه من ابتداء شوال، وأنها شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وتنتهي بانتهاء المحرم (١). وهذا لا يتمشى مع أن ابتداء
_________
(١) أخرجه ابن جرير (١٤/ ١٠١)، وابن أبي حاتم (٦/ ١٧٤٧)، والنحاس في الناسخ والمنسوخ (٢/ ٤١٢)، وذكره السيوطي في الدر (٣/ ٢١١) وعزاه لعبد الرزاق وابن أبي حاتم.


الصفحة التالية
Icon