لا يدعو اللَّهَ، ولا يضرعُ إليه، كما قال: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠)﴾ [هود: الآيتان ٩ - ١٠] هو فخورٌ فَرِحٌ أَشِرٌ بَطِرٌ وقتَ العافيةِ، يؤوسٌ قنوطٌ وقتَ الشدةِ.
وهذا قد اسْتَثْنَى اللَّهُ منه عبادَه المؤمنين، حيث قال في سورةِ هودٍ، لَمَّا ذكرَ هذه الصفاتِ الذميمةَ عن الإنسانِ، اسْتَثْنَى منها المؤمنين الطيبين، قال: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [هود: آية ١١] وقد بَيَّنَ النبيُّ - ﷺ - في الحديثِ الصحيحِ أن المؤمنَ الطيبَ مخالفٌ لهذه الصفاتِ الخبيثةِ حيث قال - ﷺ -: «عَجَبًا لِلْمُؤْمِنِ لاَ يَقْضِي اللَّهُ لَهُ قَضَاءً إِلاَّ كَانَ خَيْرًا لَهُ، إِنّ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ هَذَا إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ» (١). المؤمنُ عندما يَأْتِيهِ البأساءُ والضراءُ يَضَّرَّعُ إلى رَبِّ العالمين صابرًا محتسبًا فَيُثِيبُهُ اللَّهُ، وَيُعْظِمُ له الأجورَ، وإذا كان وقت السراءِ وأنعمَ اللَّهُ عليه كان شاكرًا نِعَمَ اللَّهِ، مُرَاعِيًا بذلك حقوقَ اللَّهِ (جل وعلا)، ويكونُ ذلك خيرًا له. وهذا أيضًا خيرٌ له، كما في الحديثِ الصحيحِ.
ومعنى قولِه: ﴿فَلَمَّا نَسُوا﴾ أي: تَرَكُوا وَأَعْرَضُوا عما ذُكِّرُوا به من البأساءِ والضراءِ، حَوَّلْنَا لهم البؤسَ إلى نعمةٍ ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ قرأَ هذا الحرفَ عامةُ السبعةِ ما عدا الشاميَّ - أعني ابنَ عامرٍ -: ﴿فَتَحْنَا﴾ بتخفيفِ التاءِ. وقرأه ابنُ عامرٍ من السبعةِ
_________
(١) أخرجه - بنحوه - مسلم في صحيحه، من حديث صهيب (رضي الله عنه)، كتاب الزهد والرقاق، باب: المؤمن أمره كله خير، حديث رقم (٢٩٩٩)، (٤/ ٢٢٩٥).
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُم مِّنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤)} [الأنعام: الآيات ١٢٩ - ١٣٤].
يقول اللَّهُ جل وعلا: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩)﴾ [الأنعام: الآية ١٢٩].
في هذه الآيةِ الكريمةِ أوجهٌ متقاربةٌ من التفسيرِ معروفةٌ عند العلماءِ، لا يُكَذِّبُ بعضُها بعضًا، بَلْ كُلُّهَا حَقٌّ. قولُه جل وعلا: ﴿وَكَذَلِكَ﴾ أي: كَمَا سَلَّطْنَا شياطينَ الجنِّ على شياطينِ الإنسِ حتى أَغْوَوْهُمْ واستكثروا منهم فَأَدْخَلُوهُمُ النَّارَ، كما تقدَّم في قولِه: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ﴾ [الأنعام: الآية ١٢٨] ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا﴾ في قولِه: ﴿نُوَلِّي﴾ أوجهٌ معروفةٌ (١):
أحدُها: أن معنَى: نُوَلِّيهِمْ عليهم أي: نُوَلِّيهِمْ ولايةَ تَسْلِيطٍ، أي: نسلطُ بعضَ الظالمينَ على بعضٍ فَيَضُرُّهُ ويؤذيه، ثم ننتقمُ من الجميعِ.

وَمَا مِنْ يَدٍ إِلاَّ يَدُ اللَّهِ فَوْقَهَا وَلاَ ظَالِمٌ إِلاَّ سَيُبْلَى بِظَالِمِ (٢)
فكما سَلَّطْنَا شياطينَ الجنِّ على شياطينِ الإنسِ فَأَغْوَوْهُمْ وَأَضَرُّوهُمْ حتى أَدْخَلُوهُمُ النارَ، كذلك نُسَلِّطُ بعضَ الظالمينَ على بعضٍ، فَنَنْتَقِمُ من بعضِ الظالمين ببعضِهم، ثم ننتقمُ من الجميعِ. واختارَ أبو جعفر بنُ جريرٍ الطبريُّ أن معنَى: ﴿نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا﴾
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ١١٨)، القرطبي (٧/ ٨٥)، البحر المحيط (٤/ ٢٢٢).
(٢) هذا البيت أورده ابن كثير في التفسير (٢/ ١٧٦).
فقوله: «صالحة» أي: خصلة حسنة. ومنه بهذا المعنى قول الحطيئة (١):
كيفَ الهجاءُ ولا تنفكُّ صالحة من آل لأْمٍ بظهرِ الغَيبِ تَأْتِينِي
يمدح بني لأم من الطائيين يقول:
كيفَ الهجاءُ ولا تنفكُّ صالحة....................................
أي: فعلة صالحة طيبة.
.............................. من آلِ لأْمٍ بظهرِ الغيبِ تأتيني
وسُئِل أعرابي فقيل له: ما الحب؟ فقال (٢):
الحُبُّ مَشْغَلةٌ عَنْ كُلِّ صَالحةٍ وسَكْرَةُ الحُبِّ تَنْفِي سَكْرَةَ الوَسَنِ
وقوله: «عن كل صالحة» أي: كل خصلة طيبة. فمعنى ﴿وَعمِلُوا الصَّالحَاتِ﴾ [الأعراف: آية ٤٢] فعلوا في دار الدنيا الفعلات - الخصلات - الطيبات من كونها مطابقة للشرع، وكون فاعلها مخلصاً فيها لله، مبنية على عقيدة صحيحة، وإيمان صحيح بالله وبِرُسُله، وبكل ما يجب الإيمان به.
وقوله: ﴿لاَ نُكَلّفُ نَفساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ [الأعراف: آية ٤٢] جملة اعتراضية بين المبتدأ وخبره، واعتراضها هنا من ألطف شيء؛ لأن الله لمَّا بين أنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات يدخلون الجنة كأنه قال: والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة، هم فيها خالدون. فكأن الإنسان يخطر في ذهنه أولاً: الجنةُ مع عظمها وما
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٦٠) من سورة الأنعام.
(٢) السابق.
و (الانفجار) أن معناهما واحد واللفظ مختلف، فكل من الانبجاس والانفجار انشقاق واسع ينحدر منه الماء بقوة (١). وزعم قوم أن الانبجاس أنه يكون أولاً قليلاً ثم لم يزل يكثر حتى يكون انفجارًا. وعلى هذا فقد ذكر في سورة الأعراف بدء انفجار الماء، وفي سورة البقرة منتهاه، والأظهر أنهما سواء، وهو معروف في كلام العرب، وقد قال العجاج (٢):
وانحَلَبتْ عيناهُ من فَرْطِ الأَسَى وَكِيْفَ غَرْبَيْ دالجٍ تبجَّسا
يعني بقوله: «تَبَجَّسَا» أي: أفرغ ماء كثيرًا في الحوض، وهذا معروف في كلام العرب.
وقوله: ﴿اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا﴾ العين معروفة، وهو كل ماء كثير تسميه العرب عينًا.
﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ﴾ (الأناس) اسم جمع لا واحد له من لفظه، والمعنى: أن كل أمة من أمم بني إسرائيل علموا مشربهم، أي: عينهم التي يشربون منها؛ لأنهم اثنتا عشرة أسباطًا أُممًا، والحجر فيه اثنتا عشرة عينًا، وكل أمة لها عين، وكل أمة عرفت عينها تشرب منها؛ وهذا معنى قوله: ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ﴾.
_________
(١) انظر: القرطبي (١/ ٤١٩)، الدر المصون (١/ ٣٨٥)، (٥/ ٤٨٧).
(٢) البيت في شواهد الكشاف ص٦٣، وشطره الثاني في اللسان (مادة بجس)، (١/ ١٦١)، والوكيف: مصدر؛ أي: وكفت. والغرب: الدلو العظيم. والدالج: من يأخذ الدلو من البئر فيفرغه في الحوض. والمعنى: انصبت دموع عينيه من شدة الحزن كانصباب دَلْوَي رجل مفرغ لهما في الحوض.
الأذان صرح الله بأنه يوم الحج أكبر. فالتحقيق هو ما قاله الجمهور لا ما قاله الزهري (رحمه الله)، إن صح عنه فهو غلط منه. وهذا معنى قوله: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ﴾ عامة ﴿يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ﴾ هذا الإعلام هو إعلام بأن الله بريء من المشركين، ورسوله بريء منهم أيضاً، فالله بريء من المشركين بريء من ذمتهم وعهدهم، لا عهد لهم عليه يأمر به، ولم يلتزم لهم بشيء، وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال لهم: ﴿فَإِن تُبْتُمْ﴾ عن ذنوبكم وكفركم وشرككم ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ وصيغة التفضيل هنا ليست على بابها؛ لأن الكفر بالله لا خير فيه أصلاً، فلا معنى للتفضيل فيه ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ﴾ أي: ثَبَتُّمْ على كفركم وما أنتم عليه من الشرك.
﴿فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ﴾ فسرناه الآن.
﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ اعلم أن التحقيق أن (البشارة) في لغة العرب هي الإخبار بما يسر، والإخبار بما يسوء أيضاً. فمن أخبرته بما يسره فقد بشرته، ومن أخبرته بما يسوؤه فقد بشرته (١)؛ ولذا قال: ﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران: آية ٢١] والقرآن في غاية الفصاحة والإعجاز، وإطلاق البشارة على الإخبار بما يسر معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر (٢):
أَبَشَّرْتَنِي يَا سَعْدُ أَنَّ أَحِبَّتِي جَفَوْنِي وَقَالوا الْودُّ مَوْعِدُهُ الحَشْرُ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٨) من سورة الأنعام.
(٢) السابق.


الصفحة التالية
Icon