شَدِيدٌ} [هود: آية ١٠٢].
وقولُه: ﴿بَغْتَةً﴾ مصدرٌ مُنَكَّرٌ بمعنى الحالِ (١). ومعنى البغتةِ: الفجأةُ. وذلك أَشَدُّ ما يُؤْخَذُ به الإنسانُ؛ لأنه إذا عَلِمَ بالعذابِ قبلَ نُزُولِهِ يكونُ مُتَجَلِّدًا مُسْتَعِدًّا. أما إذا بَغَتَهُ قبلَ استعدادٍ له فهذا أشدُّ وَأَنْكَى؛ ولأجلِ هذا بِعَيْنِهِ أخبرَ اللَّهُ المؤمنين بالبلايا التى تَرِدُ عليهم قبلَ أن تقعَ؛ ليكونوا مُسْتَعِدِّينَ لها، ولئلا تُفَاجِئَهُمْ. حيثُ قال لهم: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾ [البقرة: آية ١٥٥] أَخْبَرَهُمْ بأن الابتلاءَ سيأتيهم؛ لئلا يُبَاغِتَهُمْ، ويكونوا مستعدين له قبل نزولِه، ولذا قال: ﴿أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ﴾ (الفاء) فاءُ السببيةِ، و (إذا) هي الفجائيةُ (٢)، و (الْمُبْلِسُونَ): جَمْعُ المُبْلِسِ، والْمُبْلِسُ: اسمُ فاعلِ الإبلاسِ. و (الإبلاسُ) في لغةِ العربِ يُطْلَقُ على معانٍ متقاربةٍ، هو في الحقيقةِ يُرَادِفُ الوجومَ، والوجومُ هو: أن يكونَ الإنسانُ سَاكِتًا منقطعًا لا يقدرُ أن يتكلمَ؛ لشدةِ اليأسِ من الخلاصِ من البلايا والدواهي التي وَقَعَ فيها. ومعنى ﴿مُّبْلِسُونَ﴾: آيِسُونَ قَانِطُونَ مما وقعوا فيه من عذابِ اللَّهِ - والعياذُ بالله - إياسًا وقنوطًا يمنعهم من أن يتكلموا. فمعناه: ساكتونَ لا يُحِيرُونَ جوابًا من شدةِ اليأسِ والقنوطِ مِمَّا نَزَلَ بهم - والعياذُ بالله - وَكُلُّ مَنْ دَهَاهُ أمرٌ فَتَحَيَّرَ غيرَ قادرٍ أن يتكلمَ لشدةِ الأمرِ الذي دَهَاهُ تقولُ له العربُ: (أَبْلَسَ) (٣). وهو معنًى معروفٌ في
_________
(١) انظر: القرطبي (٦/ ٤٢٦).
(٢) انظر: البحر المحيط (٤/ ١٣١)، الدر المصون (٤/ ٦٣٤).
(٣) انطر: ابن جرير (١١/ ٣٦٠ - ٣٦٣)، القرطبي (٦/ ٤٢٦)، البحر المحيط (٤/ ١٣١)، الدر المصون (٤/ ٦٣٥).
يعنِي أنه سَقَى الناسَ به قبلَ أن يروبَ. وفي هذا الضربِ هو يريدُ الأَجْرَ؛ لأنه صدقةٌ منه؛ ولذا قال:

وَصَاحِبِ صِدْقٍ لَمْ تَرِبْنِي شَكَاتُهُ ظَلَمْتُ وَفِي ظُلْمِي لَهُ عَامِدًا أَجْرُ
ومن هنا كانت العربُ تُسَمِّي الأرضَ التي لم تُحْفَرْ، وليست مَحلاًّ للحفرِ إذا حُفِرَتْ: (مظلومةٌ) لأَنَّ الحفرَ وُضِعَ في غيرَ موضعِه. ومنه على التحقيقِ قولُ نابغةِ ذبيانَ (١):
إِلاَّ الأَوَارِيَّ لأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ
أَيْ: بالأرضِ التي ليست مَحَلاًّ لأَنْ يُحْفَرَ فيها، وحفر النؤيِ فيها حَفْرٌ فِي غَيْرِ محلِّه؛ لأنها في فلاةٍ من الأرضِ. هذا هو التحقيقُ، دونَ قولِ مَنْ قال: إن الأرضَ المظلومةَ: التي تَأَخَّرَ عنها المطرُ. هذا ليس بالصحيحِ في معنَى البيتِ. ومنه تقولُ العربُ للترابِ الذي يُخْرَجُ من القبرِ إذا حُفِرَ، تقولُ لَهُ: ظليمٌ، (فَعِيل) بمعنَى (مَفْعولٍ) أي: مظلومٌ؛ لأن العادةَ أن القبورَ إنما تُحْفَرُ في المَحَالِّ التي ليس من شأنِها أن يُحْفَرَ فيها سابقًا، وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الشاعرِ يذكر ميتًا (٢):
فَأَصْبَحَ فِي غَبْرَاءَ بَعْدَ إِشَاحَةٍ مِنَ الْعَيْشِ، مَرْدُودٍ عَلَيْهَا ظَلِيمُهَا
يعنِي بـ (غبراءَ): القبر و (مَرْدُود عليها ظَليْمُها) أي: الأرضُ التي أُخْرِجَتْ منها عندَ الحفرِ رُدَّتْ عليها عندَ الدفقِ. هذا أصلُ الظلمِ في لغةِ العربِ، هو وضعُ الشيءِ في غيرِ موضعِه. وَقَدْ جاءَ في القرآنِ في موضعٍ واحدٍ معناه: النقصُ، وهو قولُه: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا
_________
(١) السابق.
(٢) السابق.
آية ١٠٨] ﴿عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ [هود: آية ١٠٨] ﴿إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ (٥٤)﴾ [ص: آية ٥٤] لا يمرضون، ولا يشيبون، ولا يزول عنهم النعيم، بل هم في سرور ونعيم دائم، يتمتعون بأنواع المآكل، والمشارب، والمفارش، والمناكح، إلى غير ذلك ممَّا بَيَّنَهُ الله في آيات كثيرة. وقد قدمنا (١) أن الجنة في لغة العرب: البستان؛ لأن أشجاره الملتفة تجن الداخل فيه.
وجاء في القرآن إطلاق الجنة على البستان كقوله: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ﴾ [القلم: آية ١٧] وهي قصة بستان معروف في أطراف اليمن، كما يأتي في تفسير سورة القلم إن شاء الله. وكقوله جلّ وعلا: ﴿وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ﴾ [الكهف: آية ٣٥] إلى غير ذلك من الآيات. ومن إطلاق العرب الجنة على البستان كما قدمنا قول زهير (٢):
كَأَنَّ عَيْنَيَّ في غَرْبَي مُقَتَّلَةٍ من النَّواضِحِ تَسْقِي جَنَّةً سُحُقا
يعني بقوله: «جنة»: بستان نخل. وقوله: «سُحُقا» جمع سَحُوق، والسَّحوق: النخلة الطويلة.
أما الجنة في اصطلاح الشرع: فهي دار الكرامة التي أعد الله لعباده المؤمنين، وهي شجرة مثمرة، ونهر مطَّرد، وغرفة عالية، وزوجة حسناء، ورضى لا سخط بعده، والمؤمنون فيها ينظرون إلى وجه الله الكريم، كما جاء في آيات وأحاديث صحيحة، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله. وهذا معنى قوله: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [الأعراف: آية ٤٢] ومن أعظم السرور: الخلود؛
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٧٦) من سورة الأنعام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٩٩) من سورة الأنعام.
طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} كهذا الطائر اللذيذ الذي هو السُّمانَى وهذه الفاكهة العظيمة التي هي المن، أو غير ذلك على أنه أعم من الترنجبين. والطِّيب هنا شامل طِيبَ الإباحة وطِيبَ اللذاذة؛ لأن الطِّيبَ يطلق إطلاقين: يطلق طَيِّبًا من جهة الإباحة وعدم الشُّبْهة، ويُطلق طَيِّبًا من جهة اللذاذة وحسن المأكل، وهو جامع لهما هنا في قوله: ﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾.
﴿وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٦٠] فهؤلاء اليهود لمَّا أنْعَمَ الله عليهم هذه النعم وخالفوا ادَّخَرُوا من المن والسلوى وهم منهيون عن الادِّخَار، وسيأتي ما بدلوا من القول والفعل ما سلط الله عليهم بسببه من العذاب، قال الله: إن مخالفاتهم عند الإنعام عليهم، ومقابلاتهم إنعام الله بمعاصيه أنهم ما ظلموا الله في ذلك، وما ظلموا إلا أنفسهم، أي: وما ظلمونا بمقابلتهم إنعامنا بالمعاصي ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
وقوله: ﴿وَمَا ظَلَمُونَا﴾ هو نص صريح على أن نفي الفعل لا يدل على إمكانه؛ لأن الله نفى ظلمهم له، ونفيه (جل وعلا) ظلمهم له لا يدل على إمكان ذلك سبحانه عن ذلك علوًّا كبيرًا (١).
﴿وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ قدَّم المفْعُول لأجْلِ الاختصاص؛ أي: لا يظلمون بذلك إلا أنفسهم.
[٢٢/ب] / يقول الله جل وعلا: ﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١)﴾ [الأعراف: آية ١٦١].
_________
(١) راجع ما سبق عند تفسير الآية (٧٥) من سورة البقرة.
ينقصوكم شيئاً، وكان بعض العلماء يقولون (١): هؤلاء أهل مكة، ومعلوم أن أهل مكة نقضوا. والتحقيق أنها في قبائل من كنانة بقوا على عهدهم ولم ينكثوا فأُمر النبي ﷺ بأن يفي لهم بعهدهم حتى تنتهي مدتهم، ومعلوم أن صلح الحديبية قد عاهد النبيّ فيه قبائل من كنانة، ذكرنا أن منهم بني الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وبني ضمرة، وبني مدلج، وبني جذيمة بن عامر، وقد قَدَّمْنَا في تفسير سورة النساء في الكلام على قوله تعالى: ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً (٨٩) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ﴾ [النساء: الآيتان ٨٩، ٩٠] إن هؤلاء القوم الذين بينكم وبينهم ميثاق الذين شرطوا أن من وصل إليهم فحكمه كحكمهم، منهم هلال بن عويمر الأسلمي، وسراقة بن مالك بن جعشم حيث عقد العهد لبني مدلج مع النبي صلى الله عليه وسلم، وبنو جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة، فهؤلاء القبائل كانت أربع قبائل من كنانة، وكان غيرهم عقد ذلك، كبني أسلم عقد لهم الصلح هلال بن عويمر الأسلمي، فهؤلاء لم ينقضوا.
وجرى على ألسنة علماء التفسير (٢) أنه في هذه الآية الكريمة وهي قوله: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ﴾ [التوبة: آية ٤] وفي الآية الآتية: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ﴾ [التوبة: آية ٧] يقولون: هؤلاء الذين ثبتوا وأُمر النبي أن يفي لهم بعهدهم حتى تَنْقَضِيَ مدتهم هم خصوص بَنِي ضَمْرَة
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٤/ ١٣٣).
(٢) انظر: القرطبي (٨/ ٧١).


الصفحة التالية
Icon