كلامِ العربِ، ومنه قولُ رؤبةَ بنِ العجاجِ (١) في رجزه:
يَا صَاحِ هل تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسَا (٢)... قَالَ: نَعَمْ أَعْرِفُهُ وَأَبْلَسَا
أي: تَحَيَّرَ مندهشًا لا يقدرُ أن يتكلمَ. وهذا معنى قولِه: ﴿فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ﴾.
قال بعضُ العلماءِ: اشتقاقُ (إبليسَ) من (الإبلاسِ) (٣)، وهو اليأسُ الشديدُ، والقنوطُ من الخيرِ، حتى يَبْقَى صاحبُه ساكتًا لا يُحِيرُ جَوَابًا.
ثم قال جل وعلا: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ [الأنعام: آية ٤٥] (الدابر): اسمُ فاعلِ دَبَرَ القومَ يَدْبُرُهُمْ، العربُ تقولُ: «دَبَرَهُ يَدْبُرُهُ» إذا كان يمشي خلفَه؛ لأنه يمشي عندَ دُبُرِهِ (٤). كما تقولُ العربُ: «قَفَّاهُ». إذا كان
يمشي عند قَفَاهُ ﴿وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾ [البقرة: آية ٨٧] وأولادُ الناسِ كأنها دابرٌ لهم يَدْبُرُهُمْ ويتبعهم، كُلَّمَا انْقَضَى قَرنٌ دَبَرَهُ قرنٌ. أي: كان ذلك القرنُ تابعًا له، كأنه يَمْشِي عند دُبُرِه كما يمشي التابعُ عندَ دُبُرِ المتبوعِ، فالدابرُ يُقال للخَلَفِ وآخِرِ القومِ كأولادِهم. ومعنى (قُطِعَ دَابِرُهُمْ): استؤصلوا ولم يَبْقَ منهم تابعٌ؛ لإهلاكِ الأولادِ مع الآباءِ، حتى يَنْقَرِضُوا كُلاًّ - والعياذُ بالله
_________
(١) البيت في: ابن جرير (١/ ٥٠٩)، (١١/ ٣٦٣)، القرطبي (٦/ ٤٢٧).
(٢) المكرس: الذي صار فيه الكرس، وهو أبوال الإبل وأبعارها يتلبد بعضها على بعض في الدار.
(٣) انظر: ابن جرير (١/ ٥٠٩)، القرطبي (٦/ ٤٢٧).
(٤) انظر: ابن جرير (١١/ ٣٦٤)، القرطبي (٦/ ٤٢٧)، البحر المحيط (٤/ ١٣١).
وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: الآية ٣٣] أي: ولم تَنْقُصْ منه شَيْئًا. إذا عَرَفْتُمْ أن الظلمَ في لغةِ العربِ هو وضعُ الشيءِ في غيرِ موضعِه، اعلموا أَنَّ وضعَ الشيءِ في غيرِ موضعِه على نَوْعَيْنِ:
أحدُهما: أن يكونَ بَالِغًا في غايةِ القباحةِ والشناعةِ.
والثاني: أن يكونَ دونَ ذلك.
أما وضعُ الشيءِ في غيرِ موضعِه البالغ غايةَ الشناعةِ: فهو وضعُ العبادةِ في غيرِ خالقِ السماواتِ والأرضِ، فَمَنْ عَبَدَ غيرَ الذي خَلَقَهُ ورَزَقَهُ فَقَدْ وضعَ الأمرَ في غيرِ موضعِه، فهو أعظمُ الظالمين، وأخبثُ الواضعين للشيءِ في غيرِ موضعِه؛ ولهذا المعنَى (١) كَثُرَ في القرآنِ العظيمِ إطلاقُ الظلمِ مُرَادًا به الكفرُ، وهو أخبثُ أنواعِه، ومنه قولُه: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠)﴾ [الكهف: الآية ٥٠] وقولُه: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤)﴾ [البقرة: الآية ٢٥٤] وقولُه: [وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦)} [يونس: الآية١٠٦] وقال عن العبدِ الحكيمِ لقمانَ: ﴿يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣)﴾ [لقمان: الآية ١٣] وقد ثَبَتَ في صحيحِ البخاريِّ عن النبيِّ - ﷺ - أنه فَسَّرَ قولَه في هذه السورةِ الكريمةِ- سورةِ الأنعامِ-: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: الآية ٨٢] قال: معناه: لَمْ يَلْبِسُوا إيمانَهم بِشِرْكٍ (٢).
النوعُ الثاني من أنواعِ الظلمِ: هو وضعُ الطاعةِ في غيرِ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة البقرة.
(٢) السابق.
لأن أكبر ما يُنكد اللَّذائذ، وينغص اللذات، أن يعلم صاحبها أنه زائل عنها، وأنها زائلة عنه، فترى الإنسان في سرور متمتعاً بنسائه الحسان، وماله، ونعيمه، ولذاته في الدنيا، فإذا خطر على قلبه أنه يموت، وتنكح نساؤه بعده، وتقسم أمواله، تكدرت عليه تلك اللذائذ وبقي مهموماً؛ ولذا كان الخلود الأبدي وعدم الانقطاع هو ما تتم به اللذة في [الآخرة] (١)؛ ولذا قال الله: ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ لا يزولون عنها أبداً، فلا تورث ديارهم من بعدهم، ولا تُنكح نساؤهم من بعدهم، ولا يصير ما عندهم من النعيم لأحدٍ بعدهم، هم خالدون في ذلك النعيم، وقد صدق من قال (٢):

أَشَدُّ الغَمِّ عِنْدِي فِي سُرُورٍ تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالا
فالسرور إذا تيقن صاحبه الانتقال عنه صار عليه غمّاً. وقد أوضح هذا بعض الشعراء فقال (٣):
أُحِبُّ لَيَالي الهَجْرِ لاَ فَرَحاً بِهَا... عَسَى الدَّهْرُ يَأْتِي بَعْدَهَا بِوِصَالِ...
وَأُبْغِضُ أَيَّامَ الْوِصَالِ لأَنَّنِي أَرَى كُلَّ وَصْلٍ مُعْقَباً بِزَوَالِ
فالفكرة بالزوال تُكَدِّرُ اللَّذَّات الحاضِرَة؛ ولذا كان النبي ﷺ يأمرهم أن يكثروا من ذكر الموت، ويقال للموت: هاذم اللذات؛ لأن مَنْ تَذَكَّرَهُ ضَاعَتْ عليه لذته التي هو فيها؛ لأنه يقطعها؛ ولذا قال: ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [الأعراف: آية ٤٢] لا يزول عنهم ذلك النعيم حتى تتكدر غبطتهم به بزواله.
_________
(١) في الأصل: «الدنيا»، ولعله سبق لسان.
(٢) البيت للمتنبي، وهو في ديوانه (بشرح العكبري ٣/ ٢٢٤)، شواهد الكشاف ص١٠٠.
(٣) البيتان في كتاب ألف ليلة وليلة ص١٤٣٦.
واذكر يا نبي الله خسائس هؤلاء اليهود العريقة في أسلافهم؛ ليُعلم بذلك أن تكذيبهم لك وإنكارهم لما عندهم من صفاتك أنه أمر أصله فيهم وفي أسلافهم. واذكر ﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ﴾ حين قال لهم الله على ألسنة أنبيائه ﴿اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ﴾ قوله: ﴿اسْكُنُواْ﴾ أمر من السكنى لا من السكون الذي هو ضد الحركة؛ لأن الأمر بالسكون الذي هو ضد الحركة سجن وحبس، فهو أمر بالسُكنى، وأن يتخذ ذلك البلد مسكنًا، وكون البلد مسكنًا له لا ينافي أن يتجول في أنحائه ويتنعم فيها، كما قال هنا بعد الأمر بقوله: ﴿اسْكُنُواْ﴾ ﴿وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ﴾ هذا معنى قوله: ﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ﴾.
وأكثر المفسرين على أن هذه القرية هي بيت المقدس. وبعض المفسرين يقول: هي أريحا. وبعضهم يقول غير ذلك، فهي قرية في فلسطين من قرى الشام (١)؛ لأن الشام كان يطلق أولاً على ما يضم دمشق وفلسطين والأردن وغير ذلك من نواحيه، وهذا معنى قوله: ﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ﴾ القرية: هي المحل الذي يجتمع فيه السكان، من: قريتَ الماء في الحوض: إذا جمعته.
﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا﴾ أي: كلوا من ثمارها وحبوبها وزروعها حيث شئتم؛ لأنهم كانوا في التِّيهِ يَتَمَنَّوْن الأكْلَ من ذلك كما قدمنا في سورة البقرة في الكلام على قوله: ﴿فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا﴾ وقد قال لهم: ﴿اهْبِطُواْ مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ﴾ [البقرة:
_________
(١) راجع ما سبق عند تفسير الآية (٥٨) من سورة البقرة.
من قبائل بكر بن عبد مناة بن كنانة، ومنهم عمرو بن أمية الضمري المشهور. والتحقيق أن قبائل كنانة لم يُعرف أنه نقض منهم العهد إلا بنو الديل هم وقريش، أما قبائلهم الأخرى كَبَنِي جذيمة بن عامر وبني مدلج وبني ضمرة فلا يعلم أنهم نقضوا عَهْدَ رَسُول الله ﷺ وإن جرى على ألسنة العلماء أنها في خصوص بني ضمرة دون غيرهم من قبائل كنانة، ومعنى الآية الكريمة: هذا الحكم الذي ذكرنا من نقض العهود وتأجيلهم أربعة أشهر فقط، كل هذا في جميع المعاهدين ﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً﴾ ﴿لَمْ يَنقُصُوكُمْ﴾ من الشروط التي اشترطتم عليهم شيئاً، ولم يخيسوا بشيء من عهدكم، ولم ينقصوكم مالاً ولا نفساً ولا دماً، بل ثَبَتُوا على عهدهم ولم ينقضوا، ولم يظاهروا عليكم أحداً، ولم يعينوا عليكم أحداً كقريش الذين أعانوا بني الديل بن بكر على خزاعة ﴿فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ﴾ ولا تعدوا عليهم حتى ينتهي عهدهم كاملاً إلى مدتهم التي اتفقتم أنتم وهم عليها أنها مدة الصلح والمهادنة بينكم حتى تنقضي.
قال بعض العلماء: كان وقت نزول هذه البراءة بقي من عهد هؤلاء تسعة أشهر، فأمر النبي ﷺ أن يفي لهم بها (١). وهذا معنى قوله: ﴿فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة: آية ٤] ومن المتقين الذين يوفون بعهدهم ولا ينقضونه، فَدَلَّتِ الآيَةُ على أن الوفاء بالعهود وعدم النكث والنقض أنه من تقوى الله (جل وعلا) وهو كذلك.
_________
(١) انظر: البحر المحيط (٥/ ٨).


الصفحة التالية
Icon