جل وعلا - وهذا معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ أميةَ بنِ أبي الصلتِ الثقفيِّ (١):
فَأُهْلِكُوا بِعَذَابٍ حَصَّ دَابِرَهُمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ صَرْفًا وَلاَ انْتَصَرُوا
(حَصَّ دَابِرَهُمْ): يعني قَطَعَ دابرَهم، وأهلكَ البقيةَ، فلم يَبْقَ منهم تابعٌ؛ لأن الولدَ كأنه دابرٌ للوالدِ، أي: تابعٌ له يقفوه من بعدِه ويُحيي ذِكْرَه بعد موتِه. ومعنى: (قَطْعُ الدابرِ) أنه هَلَكَ الأولادُ والآباءُ، وانقضى الجميعُ، فلم يَبْقَ منهم تابعٌ. وهذا معنى قولِه: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾.
و (الظلمُ) هنا معناه: الشركُ. كقولِه: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: آية ١٣] ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة: آية ٢٥٤] ﴿وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ﴾ [يونس: آية ١٠٦].
ثم قال: ﴿وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: آية ٤٥] أَثْنَى اللَّهُ (جل وعلا) على نفسِه الكريمةِ بهذا الثناءِ العظيمِ؛ لِيُعَلِّمَ خلقَه أن يحمدوا اللَّهَ (جل وعلا) وَيُثْنُوا عليه عندَ إهلاكِه الظلمةَ الذين ليس فيهم خيرٌ، وليس فيهم إلا الشرُّ للبلادِ والعبادِ، فإراحةُ المسلمين من الظلمةِ الذين ليس فيهم إلا الضررُ، من غيرِ أن يكونَ هنالك نَفْعٌ نعمةٌ من نِعَمِ اللَّهِ، عَلَّمَ اللَّهُ خَلْقَهُ أن يحمدوه عليها.
_________
(١) البيت في ابن جرير (١١/ ٣٦٤)، القرطبي (٦/ ٤٢٧)، الدر المصون (٤/ ٦٣٥).
موضعِها، والمعصيةِ في غيرِ معصيتِها (١) بما لا يُؤَدِّي إلى الكفرِ، كَأَنْ يُزَيِّنَ لكَ الشيطانُ أن تعملَ عَمَلاً يُخَالِفُ الشرعَ فتطيعُ الشيطانَ، وتعصِي اللَّهَ، وأنتَ عَالِمٌ أَنَّكَ عاصٍ مُجْرِمٌ، وأنكَ فعلتَ قبيحًا، فهذا ظلمٌ دونَ ظلمٍ، ووضعٌ للطاعةِ في غيرِ موضعِها، والمعصيةِ في غيرِ موضعِها، وليسَ بِكُفْرٍ، وهو ظلمٌ دونَ ظلمٍ. ومنه بهذا المعنَى: قولُه تعالى في سورةِ (فاطر) لَمَّا نَوَّهَ بشأنِ القرآنِ العظيمِ، وأنه أعظمُ فضلٍ أُعْطِيهِ الخلق، وأن جميعَ الأمةِ التي أُعْطِيَ لها هي قد اصطفاها اللَّهُ، وأن كُلَّهَا في الجنةِ، قال: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ [فاطر: الآية ٣٢] وَبَيَّنَ أن هذا النورَ الْمُنَزَّلَ لا يُعْطِيهِ اللَّهُ إلا لِمَنِ اصطفاهُ واختارهُ، وهو النصيبُ الأعظمُ الأكبرُ الذي يُعْطِيهِ اللَّهُ، ثم قال: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ﴾ وهذا ظلمٌ دونَ ظلمٍ، كالذي يَعْصِي تارةً ويطيعُ أخرى، مِنَ الذين قال اللَّهُ فيهم: ﴿خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: الآية ١٠٢] والعلماءُ يقولونَ: «عسى» مِنَ اللَّهِ واجبةٌ (٢).
﴿وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ ثم قال: ﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢)﴾ أي: إِيرَاثُنَا الكتابَ إياهم عن نَبِيِّهِمْ هو الفضلُ العظيمُ عليهم منا؛ فَلِذَا عَلَّمَنَا اللَّهُ أن نحمدَه على هذا الفضلِ العظيمِ في قولِه في أولِ سورةِ الكهفِ:
_________
(١) أي: تكون طاعته تبعًا للنفس، والهوى والشيطان. وتكون معصية لله بدلاً من أن يعصي هواه وشيطانه.
(٢) انظر: ابن جرير (٨/ ٥٧٩) (١٤/ ١٦٧، ٤٤٧)، حجج القرآن ص٨٣، تفسير ابن كثير (٣/ ٣٩٧)، البرهان للزركشي (٤/ ٥٧، ١٥٨، ٢٨٨) الإتقان (٢/ ٢٠٤_٢٠٥)، الكليات ص٢٩٧، ٦٣٥، فتح البيان (٧/ ١١٠_١١١، ١٦٩).
قال تعالى: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣)﴾ [الأعراف: آية ٤٣].
﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ﴾ [الأعراف: آية ٤٣] لما كان أهل الدنيا على مصادقتهم والقرابات بينهم يكون بينهم الغل، والغش، والبغضاء، والحسد، بيّن الله أن أهل الجنة سالمون من هذا الداء الذي يصاب به أهل الدنيا.
﴿وَنَزَعْنَا﴾ صيغة الجمع للتعظيم، والله (جلَّ وعلا) هو الذي نزع ﴿مَا فِي صُدُورِهِم﴾ أي: صدور عبادنا المؤمنين الذين هم أصحاب الجنة، نزعنا جميع ما في صدورهم من غلّ. واختلفت عبارات العلماء في الغلّ إلى معاني متقاربة (١)، والظاهر أنه يشملها كلها، فبعضهم يقول: الغلّ: الحقد الكامن، وبعضهم يقول: هو البغض، وبعضهم يقول: هو الحسد والكراهية. وهو يشمل ذلك كله؛ لأن الإنسان قد يكون في قلبه للآخر حقد كامن، وحسد، وبغض، يكون هذا بين الآدميين، فالله (جلّ وعلا) يوم القيامة ينزع من صدور المؤمنين في الجنة جميع الأحقاد، فلا يكون هنالك أحدٌ يضمر حقداً لأخيه، ولا بغضاً، ولا حسداً، ولا غشّاً، بل ليس بينهم إلا التوادّ الكامل، والتعاطف والتناصح، يحب بعضهم بعضاً، ومن آثار ذلك أن منازلهم متفاوتة ينظر بعضهم منازل بعضٍ فوقه كما ننظر النجم في السماء، ومع ذا لا يحسده على ارتفاع منزلته عليه، بل هو يحبه
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ٤٣٨)، القرطبي (٧/ ٢٠٨).
آية ٦١] ولما أُمروا بدخول هذه القرية وبسُكْنَاها أُمروا بالأكل من ذلك أمر إباحة وتكريم ﴿وَكُلُواْ مِنْهَا﴾ أي: من ثمارها وحبوبها وزروعها وغير ذلك.
وقوله: ﴿حَيْثُ شِئْتُمْ﴾ أصل (حيث) في لغة العرب كلمة تدل على المكان كما تدل (حين) على الزمان، وربما ضُمِّنت معنى الشرط، ويجوز في العربية لا في القراءة تثليث فائها وإبدال يائها واوًا كما هو معروف في علم العربية (١).
قوله: ﴿شِئْتُمْ﴾ أي: مِنْ أَيّ مكان من هذه القرية أرَدْتُمْ أن تأكلوا مِنْ ثِمَارِهَا وحبوبها، وهذا معنى قوله: ﴿وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ﴾ وهذا الأكل رَغدًا بدليل ما تقدم في سورة البقرة: ﴿فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا﴾ [البقرة آية ٥٨].
وقوله: ﴿وَقُولُواْ حِطَّةٌ﴾ لما كان في التيه مات نبي الله هارون أولاً، ثم مات موسى في التيه كما أطبق عليه المؤرخون (٢). ثم إن خليفة موسى كان يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف، وهو الذي فتح الله عليه هذه القرية قرية الجبارين بيت المقدس أو أريحا، وقيل غير ذلك. لما فتح الله عليهم أَمَرَهم أن يشكروا لله نعمته التي أنعمها عليهم فأمرهم بقول، وأمرهم بفعل، أما الفعل: فقد أمرهم بأن يدخلوا الباب سُجَّدًا، أي: يدخلوا من باب القرية التي فتحها الله لهم سُجَّدًا. قال بعض العلماء: المُراد بالسجود هنا: الركوع تواضعًا وانحناءً وتعظيمًا لله، وشكرًا له على نعمة الفتح. وقال بعض
_________
(١) السابق.
(٢) السابق.
وقد قدمنا في هذه الدروس مراراً (١) أن المتقين جمع تصحيح للمتقي، وأن أصل هذه المادة من (وقى)، ففاء هذه المادة واو، وعينها قاف ولامها ياء. مادة التقوى فاؤها واو، وعينها قاف، ولامها ياء، فهي مما يسميه الصرفيون «اللفيف المفروق» هذا أصلها، إلا أنها دخلها تاء الافتعال كما تقول في قرب: اقترب، وفي كسب: اكتسب، وفي قطع: اقتطع، وفي «وقى» اوتقى.
والقاعدة المقرَّرَة في التصريف: أن كل فعل (مثال) -أعني معتل الفاء بالواو- إذا دخله تاء الافتعال وجب إبدال الواو تاء، وإدغام التاء في التاء، فقيل فيها: «اتقى» هكذا (٢).
وأصل الاتِّقَاء في لغة العرب (٣): هو أن تتخذ وقاية تكون بينك وبين ما تَكْرَهُهُ فَتَقِيكَ منه. تقول العرب: اتقيت الرمضاء بنعلي، واتقيت السيوف بمجني، ومنه قول نابغة ذبيان (٤):

سَقَطَ النَّصِيْفُ ولم تُرِدْ إسْقَاطَهُ فَتَنَاولتْهُ وَاتَّقَتْنَا بِالْيَدِ
أي: جَعَلَتْ يَدَهَا وقايَةً بَيْنَنَا وبَيْنَ وَجْهِهَا. وتفسير من قال: (اتقتنا: استقبلتنا) تفسير بالمعنى الإجمالي لا بالحقيقة. وهذا أصله معنى التقوى.
وهي في اصطلاح الشَّرْعِ: أن يجعل العبد وقاية بينه وبين عذاب رَبِّه، هذه الوقاية مركبة من شيئين هما: امتثال أمر الله، واجتناب نهي الله (٥)، والوفاء بالعهود من ذلك؛ لأن الوفاء بالعهود امتثال لأمر الله،
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٨) من سورة البقرة.
(٢) السابق.
(٣) السابق.
(٤) السابق.
(٥) مضى عند تفسير الآية (٤٨) من سورة البقرة.


الصفحة التالية
Icon