هوازنَ (١). قوله: «يَرُبَّنِي» يعني: يَسُودُنِي فَيَسُوسُنِي ويدبرُ شؤوني.
هذا أصلُه معنى (الرَّبِّ). والربُّ الحقيقيُّ الذي يُدَبِّرُ خلائقَ الكونِ هو خالقُ السماواتِ والأرضِ (جل وعلا)، لا تقعُ في الدنيا تحريكةٌ ولا تسكينةٌ إلا بمشيئتِه وتدبيرِه.
و ﴿الْعَالَمِينَ﴾: يُطْلَقُ على أهلِ السماواتِ وأهلِ الأرضِ وما بَيْنَهُمَا (٢)، فَالعَالَمُ اسمٌ لِمَا سِوَى اللَّهِ، وقد دَلَّتْ آيةٌ من سورةِ الشعراءِ أن (العالمين) شاملٌ لأهلِ السماواتِ والأرضِ وما بَيْنَهُمَا، حيث قال اللَّهُ: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (٢٣) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤)﴾ [الشعراء: الآيتان ٢٣ - ٢٤] وهذا معنَى قولِه: ﴿وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ﴾ [الأنعام: آية ٤٦].
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ﴾ ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾: معناه: أَخْبِرُونِي. وقد قَدَّمْنَا (٣) أن العربَ تُطْلِقُ (أَرَأَيْتَ) بمعنى: أَخْبِرْنِي، وتستعملُها اسْتِعْمَالَيْنِ، إذا جعلتَ معها الكافَ، كقولِه: «أَرَأَيْتُكَ» أو: «أَرَأَيْتُكُمْ» لَزِمَتِ التاءُ الفتحَ، وكانت الكافُ تتغيرُ بحسبِ تغيرِ
_________
(١) أخرجه البيهقي في الدلائل (٥/ ١٢٨)، والطبري في تاريخه (٣/ ١٢٨)، وذكره ابن هشام في السيرة ص ١٢٨٦، ١٢٩٠، والهيثمي فى المجمع (٦/ ١٧٩ - ١٨٠) وابن كثير في تاريخه (٤/ ٣٢٧) وصححه الألباني في تعليقه على فقه السيرة ص ٤٢٢، وانظر: مرويات غزوة حنين (١/ ١٤٣، ١٦٣).
(٢) مضى عند تفسير الآية (٤٧) من سورة البقرة.
(٣) مضى عند تفسير الآية (٤٠ - ٤١) من هذه السورة.
﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا﴾ أي: نُوَلِّي البعضَ منهم البعضَ الآخرَ، كما بَيَّنَا.
﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩)﴾ وهذه التوليةُ بينَهم هي: تسليطُ بعضِهم على بعضٍ لِيُؤْذِيَهُ وَيَضُرَّهُ، أو: جعل بعضهم وَلِيًّا للآخَرِ أو قرينًا له، كُلُّهَا بسببِ ما كانوا يعملونَه، فعلى أنها تسليطٌ فهي انتقامٌ منه لعملِه السيئِ، وعلى أنها ولايةُ بعضِهم البعضَ فهي بسببِ اتحادِهم بالعملِ الخبيثِ والعملِ السيئِ؛ لأن الخبيثَ وَلِيُّ الخبيثِ، والكافرُ وَلِيُّ الكافرِ، والناسُ يومَ القيامةِ أزواجٌ، أي: أصنافٌ، كُلُّ خبيثٍ يُحْشَرُ مع من يُطَابِقُهُ من الخبثاءِ. كما سيأتِي في قولِه: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ﴾ [الصافات: الآية ٢٢] أي: أَصْنَافَهُمْ وأشكالَهم الْمُلاَئِمِينَ لهم بالخبثِ، والعياذُ بالله. وهذا معنَى قولِه: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩)﴾ [الأنعام: الآية ١٢٩].
﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (١٣٠)﴾ [الأنعام: الآية ١٣٠].
هذا يُقَالُ لهم يومَ القيامةِ، يُقال لأَهْلِ النارِ يومَ القيامةِ من الجنِّ والإنسِ: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ﴾ يا جماعةَ الجنِّ وجماعةَ الإنسِ، الذين طَغَيْتُمْ وكفرتُم في دارِ الدنيا حتى دخلتُم النارَ، وقيل لكم: ﴿النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ [الأنعام: الآية ١٢٨] أَلَمْ تَصِلْكُمْ في دارِ الدنيا وقتَ إمكانِ الفرصةِ رُسُلٌ ينذرونكم من هذا اليومِ، ويحذرونَكم من العذابِ الذي أنتم فيه، ويبينونَ لكم طرقَ النجاةِ من هذا قبلَ أن تضيعَ الفرصةُ، فتكونوا قد حذرتم هذا العذابِ، ونجوتُم مع مَنْ
وقال بعض العلماء: ينشئهم النشأة الجديدة على فطرة سليمة خالية من الأحقاد. فظاهر الآية أنَّهُمْ يَوْمَ القيامة يبعثون وهو موجود فيهم، إلا أن الله يسله وينزعه منهم (١)، بدليل قوله: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ﴾ [الأعراف: آية ٤٣] وقد قال في سورة الحجر ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (٤٧)﴾ [الحجر: آية ٤٧] وهذا من أعظم كمال اللذات حيث يكون الإنسان خالداً مخلداً، وحيث يكون هو وإخوانه ورفقاؤه في ذلك النعيم ليس بين اثنين منهم شحناء، ولا عداوة، ولا حقد، ولا حسد، ولا مخاصمة، وكل هذا من كمال النعيم.
وقوله: ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ﴾ [الأعراف: آية ٤٣] أعربه بعضهم حالاً، وبعضهم منع إتيان الحال هنا لأنه قال: ﴿وَنَزَعنَا﴾ فاعلها لا دخل له في الجملة فلا يمكن أن تكون حالاً، وبعضهم يقول: يصح أن تكون حالاً. فعلى أن الجملة حالية فلا إشكال، وعلى امتناع الحالية فيها -كما زعمه بعض علماء العربية- فهي كلام آخر مستأنف مما يعطيهم الله (٢).
﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ﴾ أي: من تحت قصورهم وغرفهم العالية ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ﴾ سائلة. يقول بعض العلماء: أنهار الجنة تجري في غير أخدود (٣). ويذكرون أن المؤمن في غرفته العالية قد يشير إلى النهر تحته فيصعد إليه حتى يقضي منه حاجته. كما يأتي في تفسير قوله: ﴿عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (٦)﴾ [الإنسان: آية ٦]
_________
(١) في هذه المسألة انظر: ابن جرير (١٢/ ٤٣٩)، ابن كثير (٢/ ٢١٥).
(٢) انظر: البحر المحيط (٤/ ٢٩٨)، الدر المصون (٥/ ٣٢٣).
(٣) انظر: ابن جرير (١/ ٣٨٤).
خَطِيئَاتِكُمْ} بكسر التاء جمعًا مؤنثًا سالمًا، والكسرة علامة النصب. هذه القراءة -في الآية- الصحيحة، ومعناها شيء واحد كما ترون.
الغفران في لغة العرب: هو الستر والتغطية.
والخطايا والخطيئات: جمع خطيئة وهي الذنب العظيم الذي يستحق صاحبه النكال يُقال لها: (خَطِيئَة) و (خِطْء) ومنه قوله: ﴿إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: آية ٣١] ويقال لمرتكبها عمدًا: (خاطِئ) ومنه قوله: ﴿نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (١٦)﴾ [العلق: آية ١٦] وقوله: ﴿وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لاَ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ (٣٧)﴾ [الحاقة: الآيتان ٣٦، ٣٧] فالخاطئ بصورة الفاعل إنما هو على مرتكب الخطيئة عمدًا، أما مرتكب الذنب غير عامد فهو المُسمَّى بالمخطئ، فلا يقال له: خاطئ كما هو معلوم.
وعلى قراءة (نغفر) فصيغة الجمع للتَّعْظِيمِ، عظم الله (جل وعلا) نفسه، هذا معنى قوله: ﴿نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ﴾.
﴿سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: آية ١٦١] هذا استئناف، فكأن قائلاً قال: وماذا بعد غفران الخطايا؟ قال: سنزيد المحسنين. السين للتنفيس، وهو وعد صادق من الله.
واختلفت عبارات المفسرين في المراد بالمحسنين، ولا ينبغي أن يُختلف فيه؛ لأن خير ما يُفسر به كتاب الله بعد كتاب الله سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد فسر المحسنين تفسيرًا ثابتًا في الصحيح فلا ينبغي العدول عنه لغيره وذلك ما هو مشهور في حديث جبريل لما جاء في صورة الأعرابي وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: «يا محمد أخبرني عن الإحسان».
الأصوب، ثم ظهر لنا بعد ذلك أن أصوب القولين وأولاهما بالصواب أن تَحْرِيم الأشهر الحرم باق لم ينسخ. ومن أصْرَحِ الأدِلَّة في ذلك: أنه دَلَّت عليه الأحاديث الصحاح في حجة الوداع في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن قوله (صلوات الله وسلامه عليه) في حجة الوداع قبل موته بنحو ثمانين يوماً قوله: «إن اللهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا» (١)
نص دال على أَنَّ تَحْرِيمَ الأشهر الحُرُمِ بَاقٍ لم يُنْسَخْ، وهَذا هو الأظْهَر، والله أعلم.
_________
(١) رواه عن النبي ﷺ جماعة من الصحابة (رضي الله عنهم)، منهم:
١ - ابن عباس، عند البخاري في الحج، باب الخطبة أيام منى، حديت رقم: (١٧٣٩) (٣/ ٥٧٣) وطرفه (٧٠٧٩).
٢ - أبو بكرة (رضي الله عنه)، عند البخاري في الحج، باب الخطبة أيام مِنًى، حديث رقم: (١٧٤١) (٣/ ٥٧٣) وأطرافه (٦٧، ١٠٥، ٣١٩٧، ٤٤٠٦، ٥٥٥٠، ٧٠٧٨، ٧٤٤٧) ومسلم في القَسَامَة والمحاربين والقصاص والديات، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، حديث رقم: (١٦٧٩) (٣/ ١٣٠٥).
٣ - عبد الله بن عمرو، عند البخاري في الحدود، باب ظهر المؤمنِ حِمًى إِلا فِي حَدِّ أو حَقِّ، حديث رقم: (٦٧٨٥) (١٢/ ٨٥) وأطرافه (١٧٤٢، ٤٤٠٣، ٦٠٤٣، ٦١٦٦، ٦٨٦٨، ٧٠٧٧) ومسلم في الإيمان، باب بيان معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّاراً... » حديث رقم: (٦٦) (١/ ٨٢).
٤ - سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه. عند الترمذي في التفسير، باب: ومن سورة التوبة، حديث رقم: (٣٠٨٧) (٥/ ٢٧٣). وأخرجه في موضع آخر، حديث رقم: (٢١٥٩). وقال: وفي الباب عن أبي بكرة وابن عباس وجابر وحُذيم بن عمرو السعدي.


الصفحة التالية
Icon