المخاطَبِ، وإذا حَذَفُوا منها الكافَ كانت التاءُ تتغيرُ بحسبِ تغيرِ المخاطَبِ، وهي معناها: أَخْبِرْنِي.
والمحققونَ من علماءِ العربيةِ: أنها مع تحويلِ معناها إلى (أَخْبِرْنِي) أنها تطلبُ مَفْعُولَيْنِ، وهي وَمَفْعُولاَهَا بمعنَى: أَخْبِرْنِي عن كذا. وعليه فقولُه هنا: ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ﴾ أَخْبِرُونِي. المفعولُ الأولُ: أرأيتم سَمْعَكُمْ وأبصارَكم إن أَخَذَهَا اللَّهُ مَنْ هُوَ الذي يَأْتِيكُمْ بها؟ فالمفعولُ الأولُ في قولِه: أرأيتُم سَمْعَكُمْ وأبصارَكم إِنْ أَخَذَهَا اللَّهُ، مَنْ هُوَ الذي يَأْتِيكُمْ [بها] (١)؟ والمفعولُ الثاني: الجملةُ (٢).
أَوَّلاً: هذه الآيةُ تهديدٌ للخلائقِ، وهو أن اللَّهَ (جل وعلا) أَعْطَاهُمْ هذه العيونَ التي يُبْصِرُونَ بها، وهذه الآذانَ التي يَسْمَعُونَ بها، وهذه القلوبَ المشتملةَ على العقولِ التي يفهمونَ بها، وهذا أَعْطَاهُ لهم لأَجْلِ أن يَعْتَبِرُوا هذه النعمَ فَيَشْكُرُوا لِمَنْ مَنَّ بها فَيُطِيعُوهُ، كما قال: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: آية ٧٨] أي: لأَجْلِ أن تَشْكُرُوا له هذه النعمَ فَتُطِيعُوهُ، كأنه يقولُ لهم هنا: هذه النعمُ الجلائلُ التي أَنْعَمْتُ بها عليكم من هذا البصرِ الذي تُبْصِرُونَ به، والسمعِ الذي تَسْمَعُونَ به، والقلبِ الذي تَفْهَمُونَ به، مَنَحْتُكُمْ إياها لِتَشْكُرُونِي ﴿هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ﴾ [المؤمنون: آية ٧٨] لَمَّا كَفَرْتُمْ نِعَمِي أَخْبِرُونِي إن
_________
(١) زيادة يقتضيها السياق.
(٢) قال في الدر المصون (٤/ ٦٣٥): «المفعول الأول محذوف تقديره. أرأيتم سمعكم وأبصاركم إن أخذها الله. والجملة الاستفهامية في موضع الثاني» اهـ ولأبي حيان نحوه في البحر المحيط (٤/ ١٣٢).
نَجَى؟ وهذا معنَى قولِه: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ﴾. قال بعضُ (١) علماءِ التفسيرِ: كُلُّ فعلٍ مضارعٍ في القرآنِ مجزومٍ بـ (لم) إذا تَقَدَّمَتْهُ همزةُ الاستفهامِ؛ فيه وجهانِ معروفانِ من التفسيرِ في جميعِ القرآنِ:
أحدُهما: أن الاستفهامَ استفهامُ تقريرٍ، وهو الظاهرُ في هذه الآيةِ. ومعنى استفهامِ التقريرِ: هو الاستفهامُ الذي لا يريدُ الْمُخَاطِبُ به أن يُفْهِمَ الشيءَ، وإنما يريدُ أن يَحْمِلَ المخاطَب على أن يُقِرَّ ويقولَ: بلى، ويقرَّ بالحقيقةِ، كقولِ جريرٍ لعبدِ الملكِ بنِ مروانِ (٢):

أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ
مقصودُ جريرٍ أن يقولَ عبدُ الملكِ: بلى، فيقول: هذه [منزلتُكم] (٣) ما دمتُم بهذه المثابةِ، هذا قَصْدُهُ.
الثاني: أن يَخْتَلِجَ المُضَارَعَةَ مَاضَوِيَّةٌ، وينقلب النفيُ إثباتًا، فيصيرَ المضارعُ المنفيُّ بـ (لم) معناه الماضي المُثْبَت، كقولِه: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١)﴾ [الانشراح: الآية ١] معناه: شَرَحْنَا لكَ صدركَ، وقولِه: ﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (٨)﴾ [البلد: الآية ٨] جَعَلْنَا له عينين، ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ﴾ أَتَاكُمْ رسلٌ منكم.
وطالبُ العلمِ يعرفُ أن انقلابَ المُضَارَعَةِ ماضَوِيَّةً أنه هنا واضحٌ لا إشكالَ فيه؛ لأن لفظةَ (لم) حرفُ قَلْبٍ، تقلبُ المضارعَ من معنَى الاستقبالِ إلى معنَى
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٣) من سورة الأنعام.
(٢) السابق.
(٣) في هذا الموضع كلمة غير واضحة، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.
ولا غرابة في ارتفاع الماء إلى ولي الله في غرفته من الأرض؛ لأنه يشاهد في الدنيا ما هو أعظم من هذا وأغرب؛ لأنك أيام البلح تأخذ بلحة من نخلة طويلة سحوق، فإذا ضغطت على البلحة بضرسك طار منها الماء!! وهذا الماء إنما أَخَذَتْهُ من عروقها، فصعد من ثرى الأرض ومن عروق النخلة وطلع مع هذا الجذع القوي الخشن، طلع معه الماء ورفعه الله من هذا البعد العالي بقدرته، فمن فعل هذا فلا يصعب عليه أن يرفع الماء إلى غرف المؤمنين العالية. وهذه الأنهار مختلفة الألوان والأشكال، كما قال تعالى: ﴿فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى﴾ [محمد: آية ١٥]. وهذا معنى: ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ﴾.
﴿فِي جَنَّاتِ النَّعِيم﴾ (١) [يونس: آية ٩] تارة يفرد الجنة نظراً إلى أنها اسم جنس، وتارة يجمعها. وإضافتها إلى النعيم لأنهم يتنعمون فيها بجميع اللذائذ، وتظهر على وجوههم نضرة النعيم، فهم في غاية النعيم، والنعيم ضدّ البؤس، فهم في نعمة دائمة ظاهرة آثارها على أبدانهم، في نضرة وجمال وسرور وغبطة، لا يشيبون ولا يهرمون ولا يمرضون؛ ولذا قال: ﴿فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ [يونس: آية ٩].
﴿وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾ [الأعراف: آية ٤٣] بين الله
_________
(١) في هذا الموضع وقع للشيخ (رحمه الله) سهو حيث ساق خاتمة الآية التي في سورة يونس: ﴿فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ وفسر هذا القدر منها، وقد نُبِّه الشيخ -رحمه الله- على ذلك أثناء الدرس ولم يتفطن له. وعلى كلٍّ فلم يفت من تفسير آية الأعراف شيء، وإنما صار الكلام على ذلك القدر من سورة يونس من باب الزيادة.
فقال صلى الله عليه وسلم: «الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» (١). وقد قدمنا في هذه الدروس مرارًا (٢) أن سؤال جبريل هذا ليُعَلِّم أصحاب النبي ﷺ معنى الإحسان أنه سؤال عظيم مُحتاج إليه غاية الحاجة، وذلك أن الله (جل وعلا) بيّن في آيات من كتابه أن الحكمة التي خلق مِنْ أجْلِهَا خَلْقَهُ وسَمَاوَاتِه وأرضه هي أن يبتلي الخلق، أي: يختبرهم في شيء واحد هو إحسانهم العمل ليظهر مَنْ يُحْسِن منهم عمله ومن لا يُحْسِنُهُ، كما قال تعالى في أول سورة هود: ﴿خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء﴾ ثم بَيَّن الحِكْمَة فقال: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [هود: آية ٧] ولم يقل: أيكم أكثر عملاً. وقال في أول سورة الكهف: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا﴾ ثم بيَّن الحكمة بقوله: ﴿لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [الكهف: آية ٧] وقال في أول سورة الملك ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾ ثم بيّن الحكمة فقال: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [الملك: آية ٢] فاتضح في هذه الآيات أن الإحسان (٣)
هو الذي خُلقتم من أجل الابتلاء فيه -ولا ينافي هذا قوله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦)﴾ [الذاريات: آية ٥٦] أي: إلا لآمرهم بالعبادة على ألسنةَ رُسُلِي فأبْتَلِي مُحْسِنَهُمْ من غير محسنهم، كما لا يخفى- صار الإحسان محتاجًا إلى معرفته؛ ولذا سأل جبريل عنه وأجابه النبي ﷺ بأنه: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ». والإحسان مصدر أحْسَن العَمَلَ يُحْسِنُهُ إِحْسَانًا: إذا جاء به حَسَنًا مُتْقَنًا
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٨) من سورة البقرة.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٩) من سورة الأنعام.
(٣) السابق..
القول الثاني في هذه الآية الكريمة: أن المراد بقوله: ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ﴾ أنها أشهر الإمهال الأربعة التي قدمنا أن التحقيق أن أولها من يوم النحر من ذي الحجة عام تسع، وأنها تنقضي بالعشر من ربيع الثاني من ذلك العام، وإنما قيل لها «حُرُم» لأن الله حرّم فيها قتال المشركين، وقال لهم فيها: سيحوا في الأرض أربعة أشهر، أي: آمِنِينَ مُدْبِرِينَ ومقبلين، قتالكم والتَّعَرُّضُ لَكُمْ حَرَامٌ. وهذا أظهر القَوْلَيْنِ هنا؛ لأن اللام في قوله: ﴿الأَشْهُرُ الْحُرُمُ﴾ [التوبة: آية ٥] الألف واللام فيها للعهد، والأشهر الحُرم المذكورة لم تكن معهودة هنا، والمعهود هنا هي الأربعة المذكورة في قوله: ﴿فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ [التوبة: آية ٢] وعلى هذا فانسلاخها هو ما قدمنا بعد انتهاء العشر الأول من ربيع الثاني كما لا يخفى. وقد بيّنا أن قول الزهري (رحمه الله) أن ابتداء أشهر الإمهال من شوال (١) [أنه إن صح عنه فهو غلط منه. والصحيح قول الجمهور، وهو أن ابتداء تأجيل هذه الأشهر الأربعة من يوم النحر، وتَنْقَضِي في اليوم العاشر من ربيع الثاني].
وانسلاخ الأشهر: معناه انْقِضَاء مُدَّتِهَا. تقول العَرَبُ: انْسَلَخَ الشَّهْرُ، وانْسَلَخَ العَامُ: إذا مَضَى زَمَانُهُ، وسلخته: إذا كنت في آخر يوم من أيامه وقد مضى علي. وهذا معروف في كلام العرب (٢)، ومنه قول لبيد في مُعَلَّقَتِهِ (٣):
_________
(١) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.
(٢) انظر ابن جرير (١٤/ ١٣٣ - ١٣٤)، القرطبي (٨/ ٧٢)، الدر المصون (٦/ ١١).
(٣) شرح قصائد المشهورات (١/ ١٤٤).


الصفحة التالية
Icon