أي: أَنْفُسًا. ﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ [التحريم: آية ٤] مظاهرون. وهو كثيرٌ جِدًّا.
ومن أمثلتِه في القرآنِ واللفظُ مُعَرَّفٌ قولُه جل وعلا: ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾ [آل عمران: آية ١١٩] يعني: بالكتبِ كُلِّهَا، بدليلِ قولِه: ﴿وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ [البقرة: آية ٢٨٥] ﴿وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ﴾ [الشورى: آية ١٥] وقوله: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ﴾ [الفجر: آية ٢٢] يعني: الملائكةَ، بدليلِ قولِه: ﴿صَفًّا صَفًّا﴾ لأن الملَك الواحدَ لا يكونُ صفًّا صفًّا، وكما يدل عليه قولُه في البقرةِ: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ﴾ [البقرة: آية ٢١٠] وكقولِه: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ [القمر: آية ٤٥] يعني: الأدبارَ، بدليلِ قولِه: ﴿فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ﴾ [الأنفال: آية ١٥] وكقولِه: ﴿أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ﴾ [الفرقان: آية ٧٥] يعني: الغرفَ، بدليلِ قولِه: ﴿لَهُمْ غُرَفٌ مِّنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ﴾ [الزمر: آية ٢٠] ﴿هُمُ الْعَدُوُّ﴾ يعني: الأعداءُ. وهو كثيرٌ جِدًّا.
ومن أمثلتِه واللفظُ مُضَافٌ قولُه: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾ [النور: آية ٦٣] أي: أوامره، وقولُه: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ﴾ [إبراهيم: آية ٣٤] أي: نِعَمَ اللَّهِ، وقولُه: ﴿أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ﴾ [النور: آية ٦١] أي: أَصْدِقَائِكُمْ. وهو كثيرٌ في القرآنِ.
والشيخُ سيبويه في كتابِه (١) يقولُ: «إِنَّ اسمَ الجنسِ إذا كان مُفْرَدًا: يُوجَدُ قَصْدُ الجمعِ به بِقِلَّةٍ»، ونحن نقولُ: بتتبعِ القرآنِ واللغةِ
_________
(١) الكتاب (١/ ٢٠٩ - ٢١٠).
وَجَمَعَ بعضُ العلماءِ بينَ الْقَوْلَيْنِ فقالَ: رسلُ الإنسِ هم الذين يُرْسِلُهُمُ اللَّهُ بواسطةِ الملكِ، ورسلُ الجنِّ هم الذين يُنْذِرُونَ قَوْمَهُمْ بما سَمِعُوا من الأنبياءِ، فَهُمْ رُسُلُ الرُّسُلِ [١٧/ب] / ولذا أَطْلَقَ عليهم (الرسل) هنا. وَيُطْلَقُ عليهم (النُّذُرُ)، كما يأتي في قولِه: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنْذِرِينَ﴾ [الأحقاف: الآية ٢٩]، فالنُّذرُ كأنهم جاؤوهم منذرينَ مُرْسَلِينَ من النبيِّ - ﷺ -، وقد ثَبَتَ في الأحاديثِ - وكما يأتِي في سورةِ الجنِّ - أن الجنَّ جاؤوا النبيَّ - ﷺ - وكادوا يكونونَ عليه لِبَدًا، وأنه دَعَاهُمْ إلى الإسلامِ، وَعَلَّمَهُمُ الدينَ، وَأَمَرَهُمْ أن يُبَلِّغُوا قومَهم. ومن هنا قال جمهورُ العلماءِ: الرسلُ من الإنسِ والجنِّ ليسوا بِرُسُلٍ [وإنما يكونُ منهم نُذُرٌ] (١) إلى قومِهم، كما قال: ﴿وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (٢٩)﴾.
وقد أجمعَ جميعُ المسلمين أن نَبِيَّنَا - ﷺ - مرسلٌ إلى الجنِّ والإنسِ مَعًا، وأنه بَلَّغَ الرسالةَ لِمَنِ استطاعَ أن يبلغَه من الجنسين، وَأَمَرَ كُلاًّ منهم أن يبلغَ مَنْ لَقِيَ، وقال: «فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» (٢)، وقد يأتي صريحًا في سورةِ الرحمنِ لَمَّا قَرَأَ على الجنِّ سورةَ الرحمنِ، وقال: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الرحمن: الآية ٣٣] كلما قال: ﴿فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: الآية ٣٢] والتثنيةُ للجنِّ والإنسِ، والجنُّ
_________

(١) في هذا الموضع كلام غير واضح. وما بين المعقوفين [ ]، زيادة يتم بها الكلام.
(٢) هذه الجملة جزء من خطبة النبي - ﷺ - في حجة الوداع، وسيأتي عند تفسير الآيتين (٨٩ - ٩٠) من سورة التوبة.
الجنة، وأهل النار النار اطلع أهل الجنة على مساكنهم في النار -لو أنهم كفروا بالله وعصوه- لتزداد غبطتهم وسرورهم، وعند ذلك يقولون: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله﴾ [الأعراف: آية ٤٣] ثم إنه يطلع الكفار على منازلهم في الجنة -لو أنهم آمنوا وأطاعوا الله - لتزداد ندامتهم وحَسْرَتُهُمْ، وعند ذلك يقول الواحد منهم: ﴿لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [الزمر: آية ٥٧] قالوا: ثم إن الله يُعْطِي مَنَازِلَ أهْلِ النَّارِ في الجنة لأهل الجنة، وكأَنَّ أهل النار أموات؛ لأن من في العذاب الذي هم فيه ميت؛ لأنهم يتمنون الموت فلا يجدونها (١)، فكأنهم ورثوها عنهم. وهذا وإن جاء به حديث فلا يصلح لتفسير الآية؛ لأن الله قال: ﴿بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: آية ٤٣] ولم يقل: «أورثتموها من أهل النار». فصرح أنه أورثهم إياها بما كانوا يعملون، أي: بسبب ما كنتم تعملون في دار الدنيا من طاعة الله.
وتمسك المعتزلة بظاهر هذه الآية وأمثالها من الآيات فقالوا: إن العبد هو الذي خلق فعل نفسه في الطاعات، واستحق به الجنة لا بفضلٍ من الله -جل وعلا- أعاذنا الله من مقالتهم. وهنا يشنع الزمخشري في تفسير هذه الآية (٢) -لأنه معتزلي- على من يقول: إنهم دخلوا الجنة بفضل الله ورحمته فيقول: قال المبطلة: إنهم دخلوها بفضل الله، والله يقول: إنهم دخلوها بأعمالهم. وهذا جهل من المعتزلة وعدم علم بالسنة؛ لأن النبي ﷺ قد ثبت عنه في الحديث الصحيح
_________
(١) هكذا العبارة، ويمكن حملها على الأمنية.
(٢) انظر: الكشاف (٢/ ٦٣).
هذا معروف في كلام العرب، وإذا عرفتم أن الظلم في لغة العرب معناه: وضع الشيء في غير موضعه فاعلموا أن أعظم أنواع وضع الشيء في غير موضعه: وضع العبادة في غير من خلق، فمَنْ أكَلَ رِزْقَ اللهِ الذي خلقَهُ ورزقه وعبد غيره فقد وَضَعَ العبادة في غير موضعها فهو ظالم، ولذا كثر في القرآن إطلاق الظلم على الشرك بالله، كما قال تعالى: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة: آية ٢٥٤] وقال تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: آية ١٣] وقال تعالى: ﴿وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦)﴾ [يونس: آية ١٠٦] وقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي ﷺ أنه فسر قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: آية ٨٢] قال: بشرك. ثم تلا قوله تعالى عن لقمان الحكيم: ﴿يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ (١) [لقمان: آية ١٣] فوضع العبادة في غير مَنْ خَلَقَ هو أكبر أنواع الظلم. وكذلك وضع الطاعة في غير موضعها، كالذين يعصون الله ويطيعون الشيطان وذُرِّيَّتَهُ فقد وضعوا الطاعة في غير موضعها حيث أطاعوا عدوهم إبليس ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً﴾ [الكهف: آية٥٠]. وقد عصوا الله فوضعوا المعصية في غير موضعها، والطاعة في غير موضعها. ومن هنا كان الظلم ظلمان: ظلم بالكفر المخرج عن الإسلام، وظلم دون ظلم، وهو ظلم النفس بارتكاب المعاصي؛ لأن كلاً منهما وضع الشيء في غير موضعه، وقد جاء في موضع واحد من القرآن في سورة الكهف وضع الظلم بمعنى النقصان، وهو قوله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ
_________
(١) السابق.
فيكون عموماً، فهو لفظ عام على كلا التَّقْدِيرَيْنِ يصدق بكل مشرك، إلا أن النبي ﷺ بيّن تخصيص هذا اليوم بنهيه عن بعض مَنْ يَتَّصِفُ بالشرك، من ذلك: النساء والصبيان من الكفار فإنهم من المشركين، وقد نهى ﷺ عن قتلهم، وكذلك الرهبان في الصوامع نهى عن قتلهم، وكذلك الشيوخ الفانية نهى عن قتلهم، إلا إذا كان الشيخ الفاني يُستعان برأيه فإنه يُقتل؛ لأن رأيه عظيم على المسلمين؛ ولأجل ذلك قتل الصحابة دُريد بن الصمة يوم حنين، وكان ذا شيبة أعمى للاستعانة برأيه؛ لأنه وضع لهم الرأي الحكيم السديد، وخالفه مالك بن عوف النصري كما سيأتي إيضاحه في غزوة حنين في هذه السورة الكريمة. وكذلك المُعاهدون.
وهذه الآية الكريمة قال بعض العلماء (١): قد لا تتناول أهل الكتاب؛ لأن آيتهم مذكورة في هذه السورة؛ لأن الله يقول: ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (٢٩)﴾ [التوبة: آية ٢٩] فالكتابي إذا أعطى الجزية يخرج من عموم هذه الآية.
واعلم أن بعض العلماء (٢) قالوا: إن الكتابيّ لا يدخل في اسم المشركين. قالوا: لأن الله غاير بينهما في آيات كثيرة كقوله: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ﴾ [البينة: آية ١] فعطف المشركين على أهل الكتاب، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
_________
(١) انظر: القرطبي (٨/ ٧٢).
(٢) السابق.


الصفحة التالية
Icon