العربيةِ فهو بكثرةٍ، عكس ما قاله الشيخُ عمرو سيبويه - رحمه الله - وهو كثيرٌ في كلامِ العربِ، ومن أمثلتِه في كلامِ العربِ: ما أنشدَه سيبويه في كتابِه من قولِ علقمةَ بنِ عَبَدَةَ التميميِّ (١):

بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى فَأَمَّا عِظَامُهَا فَبِيضٌ، وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ
يعني: وأما جلودُها فصليبةٌ. وأنشد له أيضا سيبويه قولَ الآخَرِ (٢):
كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمْ تَعُفُّوا فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ
أنشد له هذين البيتين فقط، وهو في كلامِ العربِ كثيرٌ، ومنه قولُ عقيلِ بنِ عُلفةَ المريِّ (٣):
وَكَانَ بَنُو فَزَارَةَ شَرَّ عَمٍّ وَكُنْتُ لَهُمْ كَشَرِّ بَنِي الأَخِينَا
يعني بقوله: «شَرَّ عَمٍّ» شَرَّ أَعْمَامٍ. ومنه قولُ العباسِ بنِ مرداسٍ السُّلَمِيِّ (٤):
فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إِنَّا أَخُوكُمْ وَقَدْ سَلِمَتْ مِنَ الإِحَنِ الصُّدُورُ
يعني: إنَّا إخوانُكم. ومنه قولُ جريرٍ (٥):
إِذَا آبَاؤُنَا وَأَبُوكَ عُدُّوا أَبَانَ الْمُقْرِفَاتِ مِنَ الْعِرَابِ
_________
(١) البيت في المصدر السابق، المفضليات ص ٣٩٤، الدر المصون (١/ ١١٤).
(٢) البيت في الكتاب (١/ ٢٠٩)، المحتسب (٢/ ٨٧).
(٣) البيت في الخزانة (٢/ ٢٧٦)، اللسان (مادة: أخا) (١/ ٣١).
(٤) البيت في ديوانه ص٧١؛ الخصائص (٢/ ٤٢٢)، الخزانة (٢/ ٢٧٧)، اللسان (مادة: أخا) (١/ ٣١).
(٥) ديوان جرير ص٢٩.
يقولونَ: ولا بشيءٍ من آلاءِ رَبِّنَا نكذبُ (١). وَذَكَرَ اللَّهُ كثيرًا من قِصَصِهِمْ في سورةِ الجنِّ، وبَيَّنَ أَنَّهُمْ ما كانوا يظنونَ أن اللَّهَ يُمَكِّنُ أَحَدًا أن يفتريَ عليه، قالوا: ﴿وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّنْ تَقُولَ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (٥)﴾ [الجن: الآية ٥] وَبَيَّنُوا أن منهم طَيِّبِينَ وخبثاءَ: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (١١)﴾ [الجن: الآية ١١] وتحصَّل أن قولَه: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ﴾ جمهورُ العلماءِ على أن الرسلَ كُلَّهُمْ من الإنسِ، وأنه أُطْلِقَ المجموعُ مُرَادًا بعضُه، لا أن الجنَّ رُسُلٌ أُرْسِلُوا إلى قومِهم.
وخالفَ بعضٌ قليلٌ من أهلِ العلمِ وقالوا: أُرْسِلَتْ للجنِّ رسلٌ منهم لظاهرِ هذه الآيةِ الكريمةِ، قالوا: ولأَنَّ كَوْنَ الرسلِ منهم أَدْرَى بأحوالهم، وأقدرُ على تبليغِهم، وذلك ليس بقاطعٍ؛ لأن النبيَّ - ﷺ - لما جَاءَهُ جِنُّ نصيبين تَكَلَّمَ معهم، وَخَاطَبُوهُ في كُلِّ ما يفيدُ، وأباحَ لهم ما أباحَ لهم من الزادِ، كما هو معروفٌ في الأحاديثِ الصحيحةِ، وَدَعَاهُمْ إلى الإسلامِ (٢). وهذا معنَى قولِه:
_________
(١) ورد ذلك في حديث مرفوع أخرجه الترمذي في التفسير، باب «ومن سورة الرحمن»، حديث رقم: (٣٢٩١) (٥/ ٣٩٩)، والحاكم (٢/ ٤٧٣) وقال: «صحيح على شرط الشيخين» ووافقه الذهبي. من حديث جابر رضي الله عنه. وللحديث شاهد من حديث ابن عمر (رضي الله عنهما) عند البزار (كشف الأستار ٣/ ٧٤)، وابن جرير (٢٧/ ١٢٣ - ١٢٤). وانظر: السلسلة الصحيحة رقم: (٢١٥٠)، صحيح الترمذي (٣/ ١١٢).
(٢) جاء في وفد نصيبين من الجن عدة أحاديث، منها:
١ - حديث أبي هريرة (رضي الله عنه)، عند البخاري في مناقب الأنصار، باب ذكر الجن، حديث رقم: (٣٨٦٠)، (٧/ ١٧١).
٢ - حديث ابن عباس (رضي الله عنهما)، عند الطبري في التفسير (٢٦/ ٣٠، ٣١، ٣٣).
٣ - حديث الزبير بن العوام (رضي الله عنه)، عند الطبراني في الكبير (١/ ١٢٥) وحسنه الهيثمي في المجمع (١/ ٢١٠).
٤ - حديث ابن مسعود (رضي الله عنه)، وقد جاء بروايات وطرق كثيرة بألفاظ متفاوتة، وممن أخرج حديثه: الإمام أحمد في المسند (١/ ٤٥٨)، وابن جرير في التفسير (٢٦/ ٣٢)، والطبراني في الكبير (١٠/ ٧٧، ٧٩، ٨٠) وابن أبي عاصم في السنة (٢/ ٦١١)، والخطيب في تاريخه (٢/ ٣٩٨). وللوقوف على بعض روايات أحاديث استماع الجن للنبي - ﷺ - انظر:
دلائل النبوة للبيهقي (٢/ ٢٢٥ - ٢٣٣)، مجمع الزوائد (٨/ ٣١٣ - ٣١٤)، فتح الباري (٧/ ١٧١ - ١٧٢)، الدراية (١/ ٦٣ - ٦٧)، نصب الراية (١/ ١٣٩ - ١٤٧).
أنه قال: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الجَنَّةَ». قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «وَلاَ أَنَا، إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ» (١) وهذا الحديث الصحيح أصله فيه إشكال بينه وبين هذه الآيات التي يستدل بها المعتزلة، كقوله هنا: ﴿أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً (٦٣)﴾ [مريم: آية ٦٣] وأمثال ذلك.
وللعلماء أجوبة كثيرة عن الإشكال بين الحديث وبين هذه الآيات وما جرى مجراها من الآيات (٢)، وأظهر أوجه التوفيق عندنا: أن العمل الصالح لا ينفع صاحبه إلا إذا تَقَبَّلَهُ الله منه، ولا يَعْمَلُ عَمَلاً صالحاً إلا إِذا وفَّقَه الله إليه وأعانَهُ عليه. فلما كان العمل الصالح الذي
_________
(١) روى هذا الحديث جماعة من الصحابة، منهم:
١ - أبو هريرة (رضي الله عنه)، عند البخاري في الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل، حديث رقم (٦٤٦٣)، (١١/ ٢٩٤). ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم، باب:
لن يدخل أحد الجنة بعمله ، حديت رقم (٢٨١٦)، (٤/ ٢١٦٩).
٢ - عائشة (رضي الله عنها)، عند البخاري في الموضع المتقدم، حديث رقم (٦٤٦٤، ٦٤٦٧)، (١١/ ٢٩٤)، ومسلم في الموضع المتقدم من صحيحه، حديث رقم (٢٨١٨)، (٤/ ٢١٧١).
٣ - جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما)، عند مسلم، في الموضع المتقدم من صحيحه. حديث رقم (٢٨١٧)، (٤/ ٢١٧٠).
(٢) انظر: شرح الطحاوية ص٦٤١، ولشيخ الإسلام (رحمه الله) رسالة تعرف بـ (رسالة في دخول الجنة، هل يدخل أحد الجنة بعمله أم ينقضه قوله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَدْخُلُ أَحَدٌ الجَنَّةَ بِعَمَلِهِ» وهي ضمن جامع الرسائل (١/ ١٤٣)، وانظر حادي الأرواح ص٦١.
شيئًا} [الكهف: آية ٣٣] يعني: ولم تنقص منه شيئًا كما سيأتي. وهذا معنى قوله: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾ [الأعراف: آية ١٦٢] يعني وضعوا الأمر في غير موضعه حيث قابلوا نعم الله بالعصيان، وعصوا الله، وأطاعوا إبليس.
بدَّل الذين ظلموا بالقول الذي قيل لهم وهو (حطة) بدلوه قولاً غير الذي قيل لهم فقالوا: حبة في شعرة، أو حنطة في شعيرة، أو غير ذلك من الألفاظ. وقد قدمنا أن كون الذي قالوه (حبة في شعرة) ثابت في صحيح البخاري عن النبي ﷺ من حديث أبي هريرة (١).
وقوله: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ﴾ هو معنى: ﴿فَأَنزَلْنَا﴾ [البقرة: آية ٥٩] عليهم في سورة البقرة.
﴿رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ﴾ الرجز بكسر الراء: العذاب. قال المفسرون: هو طاعون أنزله الله بهم فأهلك منهم سبعين ألفًا في مدة قليلة.
وقوله: ﴿بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٦٢] الباء سببية و (ما) مصدرية. أي: بسبب كونهم ظالمين واضعين الأمر في غير موضعه حيث يعصون الله ويطيعون الشيطان، ويقابلون النعم بالمعاصي. وهذا معنى قوله: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٦٢].
﴿واسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣)﴾ [الأعراف: آية ١٦٣].
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٩) من سورة البقرة.
وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: آية ٦] وقال: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ﴾ [آل عمران: آية ١٨٦]. وقال تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ﴾ [المائدة: آية ٨٢] فَدَلَّت هذه الآية على المغايرة بين المشركين وأهل الكتاب، والتحقيق أنَّ الكتابيين نوعٌ من المشركين، وقد أوضح الله في هذه السورة الكريمة أنَّ أهل الكتاب من المشركين حيث قال فيهم: ﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١)﴾ [التوبة: آية ٣١] فَصرّح تعالى بأنهم مُشْرِكُونَ إلا أنّهم نوعٌ خاصٌّ من المشركين، ربما أُدخِل في عمومهم، وربما أُفرد منهم، كأنَّه غيرُ داخلٍ فيهم؛ للفوارق التي بين الكتابيين وعبَدَة الأصنام كما هو معروف، وهذا معنى قوله: ﴿فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ [التوبة: آية ٥].
قال بعض العلماء: يؤخذ من عموم هذه الآية أنَّ المسلم لَوْ قدر على اغتيال الحربي لجاز له أن يغتاله.
وأخذ بعض العلماء من هذا قالوا: إذا لم يُقدر عليهم إلا بالقتل بالنار كالضرب بمنجنيق من بعيدٍ ونحو ذلك، أنَّ هذا يتناوله العُمُوم (١). وبعض العلماء يقول: هذا مُثْلة، وقد نهى ﷺ عن المُثلة (٢).
وهذا معنى قوله: ﴿فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾
_________
(١) انظر: السابق (٨/ ٧٢).
(٢) أخرجه البخاري في الذبائح والصيد، باب ما يكره من المثلة والمصبورة والمُجثَّمة، حديث رقم: (٥٥١٦) (٩/ ٦٤٣) من حديث عبد الله بن يزيد (رضي الله عنه).
وأخرجه في المغازي (باب قصة عُكْل وعُرَيْنَة) عن قتادة -بلاغاً- «بلغنا أن النبي ﷺ بعد ذلك كان يحث على الصدقة ويَنْهَى عن المثْلة». وقد وصله الحافظ (رحمه الله) في الْفَتْحِ (٧/ ٤٥٩).
وفي الباب أحاديث كثيرة رواها جماعة من الصحابة منهم: يعلى بن مرة، والمغيرة بن شعبة، وعمران بن حصين، والحكم بن عمير، وعابد بن قرط، وعليّ بن أبي طالب، وأبو أيوب الأنْصَارِيّ، وابن عمر، وزيد بن خالد، وأسماء بنت أبي بكر، وعمر بن الخطاب، وغيرهم (رضي الله عنهم أجمعين).


الصفحة التالية
Icon