يعني: وأباؤك. ومنه قولُ قُعْنُبِ ابْنِ أُمِّ صَاحِبٍ (١):
مَا بَالُ قَوْمٍ صَدِيقٍ ثُمَّ لَيْسَ لَهُمْ عَقْلٌ وَلَيْسَ لَهُمْ دِيْنٌ إِذَا ائْتُمِنُوا
قال: «ما بال قوم صديق» يعني: أصدقاءَ. ومن هذا المعنى - بنفسِه - قولُ جريرٍ قال (٢):
نَصَبْنَ الْهَوَى ثُمَّ ارْتَمَيْنَ قُلُوبَنَا بِأَعْيُنِ أَعْدَاءٍ وَهُنَّ صَدِيقُ
يعني: وهن صديقاتٌ. ومن هذا المعنى قولُ الآخَرِ (٣):
يَا عَاذِلاَتِي لاَ تَزِدْنَ مَلاَمَةً إِنَّ الْعَوَاذِلَ لَيْسَ لِي بِأَمِيرِ
وهو كثيرٌ جِدًّا. والقصدُ التمثيلُ، وعلى هذا خرَّج بعضُهم [إفرادَ] (٤) (السمعِ)؛ لأنه اسمُ جنسٍ أُطْلِقَ وأُرِيدَ به الجمعُ، كما بينَّا نظائرَه في القرآنِ، وفي لغةِ العربِ.
الجوابُ الثاني: عن رجوعِ ضميرٍ مذكرٍ مفردٍ إلى أشياءَ متعاطفةٍ حيث قال: ﴿إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ﴾ يُجابُ عنه بجوابين (٥):
_________
(١) البيت في اللسان (مادة: صدق) (٢/ ٤٢١)، أضواء البيان (٥/ ٣٠) ولفظ شطره الثاني فيهما:
........................
دين وليس لهم عقل إذا ائتمنوا
(٢) ديوان جرير ص٣١٥.
(٣) البيت في الخصائص (٣/ ١٧٤)، مغني اللبيب (١/ ١٧٧) ولفظه فيهما:

يا عاذلاتي لا تردن ملامتي إن العواذل لسن لي بأمير
وأما اللفظ الذي ذكره الشيخ هنا فهو المثبت في الأضواء (٥/ ٣٠).
(٤) ما بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق.
(٥) انظر: ابن جرير (١١/ ٣٦٦ - ٣٦٧)، القرطبي (٦/ ٤٢٨)، البحر المحيط (٤/ ١٣٢)، الدر المصون (٤/ ٦٣٦).
﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ﴾.
﴿يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي﴾ معنَى: ﴿يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي﴾ أي: يقرؤون عليكم آياتِي التي أُنْزِلَتْ، وَيُبَيِّنُونَ لكم ما فيها من العقائدِ، ومن الحلالِ والحرامِ، وَمِمَّا أَمَرْتُ به وَبَيَّنْتُ أنه يُدْخِلُ الجنةَ، ومما بَيَّنْتُ في آياتِي أنه سببٌ لدخولِ النارِ - وهي التي أنتم فيها - وَحَذَّرْتُ جميعَكم على ألسنةِ الرسلِ من ذلك الفعلِ الذي يكونُ سَبَبًا لدخولِها.
وقد أجمعَ جميعُ العلماءِ على أن الكفرةَ من الجنِّ في النارِ، هذا لا نِزَاعَ فيه بينِ العلماءِ، والآياتُ الدالةُ عليه كثيرةٌ في القرآنِ العظيمِ، كقولِه جَلَّ وعلا: ﴿قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ﴾ [الأعراف: الآية ٣٨] فَصَرَّحَ بأن أُمَمًا منهم كثيرةٌ في النارِ في آياتٍ كثيرةٍ، وقالوا لقومِهم: إنهم إن لم يُجِيبُوا داعيَ اللَّهِ يعذبهم: ﴿يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ﴾ إلى أن قال: ﴿وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأحقاف: الآية ٣١] فلا خلافَ أن الجنَّ يُعَذَّبُ كافرُهم وعاصيهم، كما يُعَذَّبُ كافرُ الإنسِ وعاصيهم، وإنما
هو سَبَب دخول الجنة لا ينفع إلا إذا تَقَبَّلَه الله، ولو شاء لم يَتَقَبَّلْهُ، ولا ينفع إلا إذا وفَّقَ الله إليه ولو شاء لم يوَفِّق إليه، صار كل شي بفضله ورحمته -جلّ وعلا- كما هو الحق وهو الصواب. وهذا معنى قوله: ﴿وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: آية ٤٣] أي: في دار الدنيا من طاعات الله، ودخلتموها بفضل الله ورحمته حيث تقبل منكم تلك الأعمال الصالحة، ووفقكم إلى فعلها في دار الدنيا، وأعانكم عليها برحمته وفضله، وتقبلها منكم، فلو لم يوفقكم لها ويعنكم عليها لما قدرتم على فعلها، ولو لم يَتَقَبَّلْهَا منكم لما نفعتكم أبداً، وكل هذا بفضله ورحمته جلّ وعلا.
﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤)﴾ [الأعراف: آية ٤٤] بين (جلّ وعلا) أنه إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، وبيّن ما يقوله أهل النار في النار من التخاصم، ولَعن بعضهم لبعض: ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا﴾ وسؤال بعضهم مضاعفة العذاب لبعض، وما يقوله أهل الجنة من حمد الله، والثناء عليه للتوفيق، والغبطة بالخلود، ونزع الأحقاد والغلال (١) التي كانت بينهم، لما بيّن هذا كله بيَّن أن أهل الجنة ينادون أهل النار كالموبخين على نوع من التوبيخ والشماتة بهم؛ لأنهم كانوا يكذبون في الدنيا بالنار والجنة.
﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ﴾ وهذا النداء للعلماء فيه سؤالات: هل نادى جميع أهل الجنة جميع أهل النار؟ أو نادى بعضهم بعضاً؟ وظاهر القرآن أنه نداءٌ عام. وقال بعض العلماء: كل
_________
(١) هكذا العبارة. ولم أقف على من جمع (الغِلّ) على (الغِلاَل).
قصة هذه القرية كان يخفيها اليهود لأنها سُبة عليهم، وإخبار النبي ﷺ لهم بها وسؤالهم عنها مع أنه نبي أمي من معجزاته وأدلة نبوته؛ لأنه ما علمها إلا عن طريق الوحي.
وسنذكرها ملخصة موجزة ثم نذكرها مفصلة في الآيات التي شَرَحَتْها. وقد ألممنا بهذه القصة في هذه الدروس في سورة البقرة (١) في الكلام على قوله: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (٦٥)﴾ [البقرة: آية ٦٥] فآيات سورة الأعراف هنا بسط وشرح لقوله في البقرة: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (٦٥)﴾.
هذه القرية يزعم المفسرون -أغلبهم وأكثرهم- أنها قرية تسمى (أيلة) قريب من العقبة، على ذلك الشاطئ، بين الطور ومدين، وأنها في زمن داود (عليه السلام) كان محرم عليهم الاصطياد في السبت كما تقدم في قوله: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ [المائدة: آية ٧٨] وكان يشتد قرمهم إلى لحم السمك -والقَرَمُ بفتحتين: شهوة اللحم- وكان الله افتتنهم فتنة، كان إذا كان يوم السبت جاءهم السمك على وجه البحر أفواجًا أفواجًا كالكباش البيض حتى يتمكن كل إنسان من أخذ ما شاء منه في أحسن حال وأسمنها، فإذا غربت شمس يوم السبت تمنَّع في البحر فلا يقدرون على شيء منه!! وهذا ابتلاء وامتحان لهم، فمكثوا من الزمن بهذا ما شاء الله، ثم بعد ذلك اشتدت شهوتهم إلى اللحم فصاروا يحتالون على السمك يوم الجمعة -مثلاً- فيحفرون فَيُجْرُون
_________
(١) راجع ما سبق عند تفسير الآية (٤٧) من سورة البقرة.
أي: في أي مكانٍ من أمكنةِ الأرض وجدتموهم.
وقوله: ﴿وَخُذُوهُمْ﴾ يعني: بالأَسْرِ، فمَعْنَى ﴿وَخُذُوهُمْ﴾: ائسروهم.
وهذه الآية الكريمة من براءة -وهي من آخر ما نَزَلَ مِنَ القُرْآن- تدل على أنه يجوز قتل المشركين وأخذهم بالأسْر، وقال بعض العلماء: هذه الآية من سورة براءة نسخت قوله تعالى: ﴿فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء﴾ [محمد: آية ٤] فليس هناك إلا القتل (١). وقال بعض العلماء: بل آية القِتَال هِيَ الَّتِي نَسَخَتْ آيَةَ بَرَاءَة، فلا يقتل الأسير، إما أن يُمَنَّ عليه وإما أن يُفْدَى (٢).
والتحقيق: أنَّ كل هذه الآيات محكم، وأنها لا يُنْسَخُ بَعْضُها بعضاً؛ لأن النبي ﷺ منذ قاتل الكفار، ربما قتل الأسير، وربما فدى الأسير، وربما مَنَّ على الأسير، كل هذا يفعله صلى الله عليه وسلم، فمعلومٌ أنَّه قتل بعض الأُسارى يوم بدر، قتل النضر بن الحارث يوم بدر أسيراً (٣)،
_________
(١) انظر: القرطبي (٨/ ٧٢).
(٢) انظر: القرطبي (٨/ ٧٢).
(٣) راجع ما سبق عند تفسير الآية (١٢) من سورة الأنفال.


الصفحة التالية
Icon