أحدُهما: أن قولَه: (به) أي: بما ذُكِرَ، أي: بذلك الشيءِ المأخوذِ، وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، ولما قال رؤبةُ بنُ العجاجِ في رجزيته القَافِيَّةِ المشهورةِ، قال فيها (١):
فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ
فقال له واحدٌ: لِمَ قلتَ: كأنه بالإفرادِ؟ إذا كنتَ تعني (الخطوطَ) لا بد أن تقولَ: «كأنها»، وإذا كنتَ تعني (السوادَ والبلقَ) لا بد أن تقولَ: «كأنهما»، فَمِنْ أين قلتَ «كأنه» بالإفرادِ؟
قال له: (كأنه) أي: ما ذُكِرَ.
الوجهُ الثاني: هو ما عُرِفَ في القرآنِ وفي لغةِ العربِ أنه قد تأتي المتعاطفاتُ سواء كانت متعاطفاتٍ بـ (واو)، أو متعاطفاتٍ بـ (أو)، أو متعاطفاتٍ بـ (فاء)، ويرجعُ الضميرُ على واحدٍ منها، وتكونُ الأُخَرُ مفهومةً من ذلك (٢)؛ لأنه لَمَّا رَجَعَ على واحدٍ فُهِمَ أن الباقيَ مثلُه، وهذا كثيرٌ في القرآنِ وفي كلامِ العربِ. فمن أمثلتِه في القرآنِ في العطفِ بـ (أو): ﴿وَمَا أَنْفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ﴾ [البقرة: آية ٢٧٠] وقال جل وعلا: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ﴾ [النساء: آية ١١٢] بالإفرادِ، وقال (جل وعلا) في مثلِ هذا: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا﴾ [الجمعة: آية ١١] فَرَدَّهُ إلى التجارةِ دونَ اللهوِ. وفُهِمَ منه أن اللهوَ كذلك انْفَضُّوا إليه أيضا. مع أنه رَبُمَّا رَجَعَ لهما معًا، كقوله: ﴿إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾ [النساء: آية ١٣٥] وهو في العطفِ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة البقرة.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٤٥) من سورة البقرة.
الخلافُ المشهورُ بينَ العلماءِ: هل الجنُّ يدخلونَ الجنةَ أو لا يدخلونَ الجنةَ؟؟ (١) وهذا خلافٌ معروفٌ قديمٌ بينَ العلماءِ، وَيُرْوَى عن الإمامِ أَبِي حنيفةَ رحمه اللَّهُ أنه من الطائفةِ الذين يقولونَ: لا يدخلُ الجنُّ الجنةَ، وأن الجنةَ لاَ يدخلُها أحدٌ من الجنِّ. وغالبُ ما استدلَّ به هؤلاءِ: أن اللَّهَ جَعَلَ جزاءَهم هو الإجارةَ من العذابِ فقط، وغفرانَ الذنوبِ فقط، حيث قال: ﴿يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٣١)﴾ [الأحقاف: الآية ٣١] ولم يَقُلْ: ويدخلكم الجنةَ. بخلافِ الإنسِ، فإنه إذا ذُكِرَ ثوابُ الطاعةِ تُذْكَرُ الجنةُ جزاءً لها، ولم يَذْكُرِ اللَّهُ في القرآنِ جَزَاءً للجنِّ إلا غفرانَ الذنوبِ، والإجارةَ من العذابِ الأليمِ. ومن هنا قال مَنْ قال: إن مُؤْمِنِي الجنِّ لاَ يدخلونَ الجنةَ.
والتحقيقُ الذي عليه جمهورُ العلماءِ: أنهم كما أن كَافِرَهُمْ في النارِ فمؤمنُهم المطيعُ في الجنةِ، وقد دَلَّتْ على هذا بعضُ ظواهرِ آياتٍ، ومنها قولُه تعالى: ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ (٥٦)﴾ [الرحمن: الآية ٥٦] فَعُلِمَ أن في الجنةِ جَانًّا يطمثونَ النساءَ، ومن أَصْرَحِ الأدلةِ في ذلك: قولُه تعالى مُخَاطِبًا الجنَّ والإنسَ: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: الآية ٤٦] ثم قال مُبَيِّنًا دخولَ الجنِّ والإنسِ فيه: ﴿فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن الآية ٤٧]. فلو لم يكن من الآلاءِ على الجنِّ دخولُهم الجنةَ لَمَا قال فيهم وفي الإنسِ مَعًا: ﴿فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ بعدَ قولِه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ
_________
(١) انظر: القرطبي (١٦/ ٢١٧ - ٢١٨)، ابن كثير (٤/ ١٧٠ - ١٧١) طريق الهجرتين ٤١٧ - ٤٢٧، أضواء البيان (٧/ ٤٠٢ - ٤٠٧) دفع إيهام الاضطراب ٢٦٣ - ٢٦٨.
ناسٍ من المؤمنين ينادون من كانوا يعرفونهم في الدنيا من الكفار: يا أصحاب النار هل وجدتم ما وعد ربكم حقّاً؟ فنحن وجدنا ما وعدنا من النعيم حقّاً، فهل وجدتم ما كان يقال لكم من الوعيد بالعذاب حقّاً (١)؟
﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا﴾ (أَنْ) هذه كالتي قبلها في القول بأنها تفسيرية أو مخففة من الثقيلة. وقد ذكرنا الكلام عليها آنفاً (٢).
﴿أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا﴾ من الجنة، والنعيم المقيم، والخلود الأبديّ في نعمِ الله، وجدناه حقّاً من الله، وصَدَقَنا وعده ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء﴾ [الزمر: آية ٧٤] فوجدنا وعد الله بالنعيم، والخلود الأبدي في الجنة على ألسنة الرسل، وجدناه حقّاً، فهل وجدتم أنتم ما وعدكم ربكم من العذاب، والنكال، ودخول النار، هل وجدتموه حقّاً؟ وهذا سؤال توبيخ وتقريع وشماتة، والعياذ بالله. قالوا في ذلك الوقت معترفين حيث لا ينفع الاعتراف، نادمين حيث لا ينفع الندم: ﴿قَالُواْ نَعَمْ﴾ [الأعراف: آية ٤٤] وجدنا ما وعده الله من العذاب والنكال على ألسنة الرسل حقّاً، ووجدنا أن تكذيبنا به في دار الدنيا سفاهة منا وجناية على أنفسنا.
وقرأ هذا الحرف عامة القراء ما عدا عليّاً الكسائي ﴿قَالُواْ نَعَمْ﴾ بفتح النون والعين. وقرأه الكسائي وحده: ﴿قالوا نَعِم﴾ (٣) و (نَعَم)
_________
(١) انظر: الألوسي (٤/ ١٢٢).
(٢) انظر: الدر المصون (٥/ ٣٢٥)، وراجع ما سبق عند تفسير الآية السابقة.
(٣) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢٠٩.
في الماء أخاديد يسيل فيها الماء، فإذا انتهت حفروا حُفرًا عميقة، فإذا جاء الحوت مع تلك الأخاديد المائية نزل في الحفر فلا يَقْدِر على الرجوع فأخذوه يوم [الأحد]!! (١) وكان بعضهم -فيما يقولون- يجعل في ذنب الحوت خيطًا ويدُقّ وتدًا على الشَّاطِئِ، ويمسك رأس الخيط فيه، فيبقى الحوت في الماء ممسكًا بالخيط، فإذا غَرَبَتِ شَمْسُ يَوْمِ السبت جاء وأخذه، فلمَّا فعلوا هذه الحيل ولم يعاجلهم العذاب كأنهم تجرءوا وتشجعوا وقالوا: لعل حرمة صيد السمك رفعها الله؛ لأنه لم يفعل بنا بأسًا، فلم يزالوا يتدرجون في الحيل حتى صار بعضهم يصطاده علنًا ويملحونه ويبيعونه في الأسواق، وكانوا ثلاث طوائف:
طائفة باشرت العدوان يوم السبت واصطياد السمك، وطائفة نهتهم عنه وقالوا: ﴿مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٦٤] وطائفة قالوا للذين نهتهم: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾، والله بيّن أن الذين اعتدوا في السبت عَذَّبَهُمْ عَذَابًا بئيسًا وهو مسخهم قِرَدَة، وقيل: بعضهم خنازير، كما يأتي تفصيله، كما ذكره في قوله: ﴿فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (١٦٦)﴾ [الأعراف: آية ١٦٦] وفي قوله: ﴿وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٦٥].
والطائفة الذين نهت أنجاهم الله كما ذكره بقوله: ﴿أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ﴾ [الأعراف: آية ١٦٥] وبقيت الطائفة التي قالت: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ﴾ فبعض العلماء يقول: هم مع الهالكين،
_________
(١) في الأصل: «السبت» وهو سبق لسان.
وقتل عقبة بن أبي معيط يوم بدرٍ أسيراً (١)، وقد دلت القصة التي ذكرناها في غزاة بدر في سورة الأنفال على أنَّ قَتْلَهُ للنَّضْرِ بن الحارث لم يكن عن وَحْي (٢)، ولذا لما جاءه شعر أخته -أو ابنته- قُتيلة بنت الحارث -أو قُتيلة بنت النضر بن الحارث- لما أرسلت شعرها المشهور إلى النبي ﷺ الذي أبكاه حتى أخضل الدمع لحيته، وقال فيه: «لو بَلَغَنِي شِعْرُهَا قَبْلَ أَنْ أَقْتُلَهُ لَعَفَوْتُ عَنْهُ» (٣) فدلَّ على أنَّه لم يقتله بوحي من الله. وشعرها مشهورٌ قَدَّمْنَاه برمته في سورة الأنفال (٤)، تقول فيه:

يَا راكبًا إنَّ الأُثَيْلَ مَظِنَّةٌ مِنْ صُبحِ خَامِسَةٍ وأَنْتَ موفَّقُ
أَبْلِغْ بها مَيْتًا بأنَّ تَحِيَّةً مَا إِنْ تَزَالُ بها النَّجَائِبُ تَخْفِقُ
مني إليكَ وعبرةً مسفُوحةً جَادَتْ بِوَاكِفِهَا وأُخْرى تخنُقُ
هل يسمعنَّ النضرُ إن ناديتُه أم كيف يسمعُ ميتٌ لا ينطقُ
أمحمدٌ يا خيرَ ضَيْءِ كريمة في قومِهَا والفَحْلُ فحلٌ مُعْرِقُ
ما كان ضَرَّكَ لو مَنَنْتَ ورُبَّما مَنَّ الفَتى وهو المغيظُ المُحْنَقُ
فالنَّضْرُ أقربُ مَنْ أَسَرْتَ قرابةً وأحقُّهم إن كانَ عِتْقٌ يُعْتَقُ
ظَلَّتْ سيوفُ بني أبيهِ تَنُوشُه للهِ أرحامٌ هُنَاكَ تُشَقَّقُ
صَبْرًا يُقادُ إلى المنيةِ مُتْعَبًا رَسْفُ المُقَيَّدِ وهو عان مُوثَقُ
فهذا يدل على أنَّ الأمر في ذلك إلى الإمام، إن رأى المصلحة
_________
(١) السابق.
(٢) السابق.
(٣) السابق.
(٤) السابق. وقد سقط بعد البيت الخامس بيت من القصيدة، وهو قولها:


الصفحة التالية
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
أوكنتَ قابلَ فديةٍ فَلَيُنْفِقَنْ بِأَعَزَّ مَا يَغْلُو بِهِ مَا يُنْفَقُ