بـ (الواو) - كما هنا - كثيرٌ جِدًّا، ومنه قولُه: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا﴾ [التوبة: آية ٣٥] وقوله: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا﴾ [البقرة: آية ٤٥] وقوله جل وعلا: ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: آية ٦٢] وقول جل وعلا: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ﴾ [الأنفال: آية ٢٠] وهو كثيرٌ في القرآنِ، ومن أمثلتِه في كلامِ العربِ قولُ نابغةِ ذبيانَ (١):

وَقَدْ أَرَانِي وَنُعْمًا لاَهِيَيْنِ بِهَا وَالدَّهْرُ وَالْعَيْشُ لَمْ يَهْمِمْ بِإِمْرَارِ
ولم يقل: «يَهْمِمَا».
وقولُ الآخَرِ (٢):
إِنَّ شَرْخَ الشَّبَابِ وَالشَّعَرَ الأَسْـ ـوَدَ مَا لَمْ يُعَاصَ كَانَ جُنُونَا
ولم يقل: (ما لم يُعَاصَيَا). هذا كثيرٌ في كلامِ العربِ.
ومن أمثلتِه في المتعاطفاتِ بالفاءِ: قولُ امرئِ القيسِ في معلقتِه (٣):
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٥) من سورة البقرة.
(٢) البيت لحسان (رضي الله عنه)، وهو في الموضع السابق.
(٣) هذا هو الشطر الأول من البيت، وأما شطره الثاني فقوله:
................ لِمَا نَسَجَتها من جَنُوب وشَمْأَل
وقبله:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وسقط اللوى: منقطع الرمل، والدخول وحومل. قيل إنهما موضعان في شرق اليمامة.
وتوضح والمقراة: قيل إنهما موضعان قريبان من الدخول وحومل.
انظر: ديوانه ص١١٠.
جَنَّتَانِ} فَدَلَّ قولُه: ﴿فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ الصادقُ على الجنِّ والإنسِ، على أن قولَه: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ أي: للجنِّ والإنسِ. وهذا هو الأظهرُ. وهذا معنَى قولِه: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾. (ينذرونَ) هو مضارعُ فعلِ الإنذارِ. والإنذارُ في لغةِ العربِ: هو الإعلامُ المقترنُ بتخويفٍ وتهديدٍ، فكلُّ إنذارٍ إعلامٌ، وليس كُلُّ إِعْلاَمٍ إنذارًا، وَكُلُّ إعلامٍ اقترنَ بتخويفٍ وتهديدٍ فهو المسمَّى بالإنذارِ (١). ومعنَى: ﴿وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ أي: يُعْلِمُونَكُمْ بِمَا في هذا اليومِ من الأهوالِ والأوجالِ وشدَّةِ عذابِ النارِ، في حالِ كونِهم مُهَدِّدِينَ لكم وَمُخَوِّفِينَ من الأعمالِ التي تُؤَدِّي إليه. وهذا [معنى] (٢)
قولِه: ﴿وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ وَعَبَّرَ عن اليومِ باللقاءِ لأنهم يُلاَقُونَ ما فيه من الأهوالِ والأوجالِ، وعادةُ العربِ أن تُذَكِّرَ اليومَ ومرادُها ما فيه من البلايا والأوجالِ (٣)، كقولِ نبيِّ اللَّهِ لوطٍ: ﴿هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧)﴾ [هود: الآية ٧٧] والزمنُ بنفسِه كسائرِ الأزمانِ، وإنما المرادُ ما فيه؛ وَلِذَا قال تعالى: ﴿يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (١٧)﴾ [المزمل: الآية ١٧] والذي يَجْعَلُ الولدانَ شِيبًا إنما هو ما فيه من الأهوالِ الأوجالِ؛ لأَنَّ نفسَ اليومِ ظرفٌ من الظروفِ كسائرِ غيرِه من الظروفِ. ومنه قولُ الشاعرِ (٤):
_________
(١) انظر: المفردات (مادة: نذر) ٧٩٧، القاموس (مادة: النذر) ٦١٩، الأضواء (٢/ ٢٨٨).
(٢) ما بين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق..
(٣) انظر: المزهر (١/ ٣٣٦).
(٤) البيت لعدي بن زيد. وهو في تفسير ابن جرير (١٥/ ٤٠٩)، تاريخ دمشق (٤٠/ ١١٩)، الدر المصون (٦/ ٣٦١). وقوله: «لزاز» أي: ملازم. وقوله: «لم أُعرد» أي: لم أُحجم.
و (نَعِم) لغتان كلاهما تأتي بمعنى الأخرى على الصواب. و (نَعَم) لا تكون جواباً إلا لاستفهام مُثْبَت، ولا تكون جواباً لاستفهام منفي، فلو كانت الآية: «ألم تجدوا ما وعدكم ربكم حقاً؟» بالنفي لما جاز أن يجاب بـ (نعم) وإنما يجاب بـ (بلى) هذا هو المعروف؛ لأن المكان الذي تصلح به (بلى) لا تصلح به (نعم) والمكان الذي تصلح به (نعم) لا تصلح به (بلى). و (بلى) تأتي في اللغة العربية وفي القرآن العظيم لمعنيين لا ثالث لهما:
أحدهما: أن (بلى) تأتي لنفي النفي، فهي نقيضه (لا) لأن (لا) لنفي الإثبات، و (بلى) لنقيض النفي، فإذا جاء نفي في القرآن ثم جاءت بعده (بلى) فإن (لا) تنفي ذلك النفي، ونفي النفي إثبات. فيصير ما بعد (بلى) إثبات؛ لأنها نفت النفي الذي قبلها، ونفي النفي إثبات. وهذا كثيرٌ في القرآن، كقوله: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا﴾ نفوا البعث بأداة النفي التي هي (لن) ﴿قُلْ بَلَى﴾ فنفى الله نفيهم للبعث، فثبت البعث؛ ولذا قال: ﴿وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ﴾ [التغابن: آية ٧] وكقوله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ﴾ [سبأ: آية ٣] نفوا إتيان الساعة بحرف النفي الذي هو (لا)، قال الله: ﴿بَلَى﴾ [سبأ: آية ٣] فنفت نفيهم، وأثبتت إتيان الساعة؛ ولذا قال بعده: ﴿لَتَأْتِيَنَّكُمْ﴾ [سبأ: آية ٣] وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب.
المعنى الثاني: أن تأتي (بلى) جواباً لاستفهام مقترن بالنفي خاصة، لا لاستفهام إيجابي، كقوله: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى﴾ [الأعراف: آية ١٧٢] ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى﴾ [يس: آية ٨١] وهكذا. ولا يجوز أن يقال في هذا: نعم. أما إن كان السؤال بالإثبات فالجواب بـ (نعم) لا بـ (بلى) فلو
والمحققون يقولون: هم ناجون؛ لأنهم كرهوا ما هم عليه وخالفوهم وقالوا لقومهم: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ [الأعراف: آية ١٦٤] وذكروا عن عكرمة أنه كان يقول: إن ابن عباس ما كان يدري هل نجوا أو هلكوا حتى أقنعه عكرمة بأنهم نجوا فكساه حُلَّة (١). ومن أظهر الأدلة في أنهم نجوا قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً﴾ [البقرة: آية ٦٥] فرتب بالفاء قوله: ﴿قِرَدَةً﴾ لخصوص الذين اعتدوا، وهؤلاء لم يعتدوا بل إنما لم يُذكر عنهم أنهم نهوا. ولما كانوا يفعلون هذا، وصاروا يصطادون السمك علنًا، ونهاهم قومهم قال لهم قومهم: والله لا نساكنكم؛ لأنا نخاف أن ينالنا العذاب الذي سينزل عليكم. فيذكر المفسرون في قصتهم أنهم قسموا القرية، ويزعمون أن الذين اصطادوا قُربًا من سبعين ألفًا، وأن الذين نهوا قُربًا من اثني عشر ألفًا، والله أعلم. فهي إسرائيليات لم يثبت فيها شيء. قالوا: فجعلوا بينهم حائطًا، وقسموا القرية بينهم نصفين، لكل منهم مدخل ومخرج غير مدخل الثاني ومخرجه، فمكثوا على ذلك ما شاء الله، ثم لما كان ذات يوم فإذا قرية المعتدين لم يفتح بابها، ولم يخرج منها أحد، فتسوروا عليهم الحائط فوجدوهم -والعياذ بالله- مُسخوا قردة.
يذكر المفسرون أن الواحد من القردة يعرف نسيبه من
_________
(١) أخرحه ابن جرير (١٣/ ١٨٧، ١٨٨، ١٩٣)، وأورده السيوطي في الدر (٣/ ١٣٨) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر. وقد جاء في هذا المعنى رواية أخرى أخرجها عبد الرزاق (١٢/ ٢٤٢)، وابن جرير (١٣/ ١٨٩ - ١٩٠)، وذكره السيوطي في الدر (٣/ ١٣٧) وعزاها لعبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في السنن.
للمسلمين القَتْل قَتَل، وإن رأى أنها الفِدَاء فَدَى، وإِنْ رَأَى أنَّهَا المَنُّ مَنَّ، وهذا هو التحقيق -إن شاء الله- وأنَّ الآياتِ كلها محكمة لم ينسخ بعضها بعضاً، والنبي ﷺ قد فعل كل ذلك، أطلق أبا عزةَ في غزاة بدر لما قال له: إنَّه ذو بَنات. ولما أمسكه بحمراء الأسد من صبيحة أُحد بعد أن اشترط عليه ألاَّ يعين عليه المشركين وقال له: يا محمد، عفوك مرةً أخرى. فقال له: لا والله، لا تحك عارضيك بين نساء مكة وتقول: غررت محمداً مرتين!! فقتله (صلوات الله وسلامه عليه) (١). وهذا معنى قوله: ﴿فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ﴾ [التوبة: آية ٥] بالأسر ﴿وَاحْصُرُوهُمْ﴾ معناه: ضَيِّقُوا عَلَيْهِمْ واحْصُروهُمْ في مَعَاقِلِهِمْ حتى لا يستطيعوا أن يخرجوا وينتشروا في الأرض، فضلاً عن أن يصلوا إليكم، فالمراد بالحصر هنا: حصرهم في أماكنهم وفي معاقلهم، والتضييق عليهم ومنعهم من الانتشار في الأرض. هذا معنى قوله: ﴿وَاحْصُرُوهُمْ﴾.
﴿وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾: المراد بالمرصد هنا: اسم مكان، وقد تقرر في فن التصريف: أن جميع المصادر الميمية، وأسماء الأمكنة، وأسماء الأزمنة إذا لم تكن يعني: من واوي الفاء كانت كلها على (مَفْعَل)، إلا اسمُ الزمان والمكان خاصة إذا كان من (فَعَلَ) بالفتح (يَفْعِلُ) بالكسر (٢). والمرصد هنا القياس فيه:
_________
(١) أخرجه البيهقي في السنن (٦/ ٣٢٠)، (٩/ ٦٥)، وأورده الشافعي في الأم (٤/ ٢٣٨)، وابن سعد في الطبقات (٢/ ٣٠)، والطبري في تاريخه (٣/ ١٠)، وابن هشام في سياقه لغزوة أُحد.
(٢) انظر: التوضيح والتكميل (٢/ ٨٣ - ٨٤).


الصفحة التالية
Icon