فَتُوضِحَ فَالْمِقرَاةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُهَا............................
فَرَدَّ الضميرَ على أحدِهما، وهذا كثيرٌ في كلامِ العربِ.
وَأَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ: الأولُ، أن المعنَى ﴿مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ﴾ أي: بما ذُكِرَ مِمَّا أَخَذَهُ اللَّهُ منكم. كقولِه جل وعلا: ﴿لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ [البقرة: آية ٦٨] أي: ذلك المذكور، ولم يقل: «ذَلِكُمَا»، ونظيرُه قولُ ابنِ الزبعرى (١):
إِنَّ لِلشَّرِّ وَلِلْخَيْرِ مَدًى وَكِلاَ ذَلِكَ وَجْهٌ وَقَبَلْ
هذا معروفٌ في كلامِ العربِ، وهذا معنَى قولِه: ﴿مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ﴾ وهذه الآيةُ الكريمةُ ينبغي لِكُلِّ مسلمٍ أن يعتبرَ بها، فيعلمَ أن اللَّهَ شقَّ له في وجهه عَيْنَيْنِ، وصبغَ له بعضَهما بصبغٍ أسودَ، وبعضَهما بصبغٍ أبيضَ، وأعطاه لهما سِلْكًا من جفونِه، وجعلَ لعينيه شحمًا لئلا يُجَفِّفَهَا الهواءُ، وجعلَ ماءَ عينِه مِلْحًا لئلا تُنْتِنَ الشحمةُ، وجعلَ له عقلاً، وهو هذا العقلُ الذي يُمَيِّزُ به بين الأشياءِ، ويفعلُ (٢) به هذه الأفعالَ الغريبةَ العجيبةَ، وأعطاه حاسةَ السماعِ، كُلُّ هذا أعطاه له ليبذلَ هذه النعمَ فيما يُرْضِي رَبَّهُ (جل وعلا)، فلا ينبغي منه ولا يَجْمُلُ به أن يستعينَ بِنِعَمِ رَبِّهِ على معصيةِ خالقِه (جل وعلا)، فهذا عملٌ لا يليقُ بعاقلٍ. ثم إنه يُلاَحِظُ قدرةَ اللَّهِ وعظمتَه وجلالَه، وأنه قادرٌ على أن ينزعَ منه السمعَ والبصرَ والعقلَ فيتركَه كالجمادِ لا يسمعُ شيئًا، ولا يبصرُ شيئًا، ولا يعقلُ شيئًا، فلا ملجأَ له غيرُ اللَّهِ يُزِيلُ ذلك عنه؛ وَلِذَا قال: ﴿مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ﴾.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة البقرة.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٤٦) من سورة الأنعام.
وَكُنْتُ لِزَازَ خَصْمِكَ لَمْ أُعَرِّدْ... وَقَدْ سَلَكُوكَ فِي يَوْمٍ عَصِيبِ
(... ) (١) هذه عادةُ العربِ، والقرآنُ نَزَلَ بلسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ.
لَمَّا وَبَّخَهُمُ اللَّهُ هذا التوبيخَ، وقرعهم هذا التقريعَ، أَقَرُّوا نَادِمِينَ حيثُ لاَ ينفعُ الندمُ، فَبَيَّنَ (جلَّ وعلا) في سورةِ الملكِ أن ذلك الاعترافَ في الوقتِ الذي لا ينفعُ فيه الاعترافُ والندمُ: ﴿فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ (١١)﴾ [الملك: الآية ١١]. ﴿قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا﴾ أَقَرُّوا في ذلك الموضعِ على رؤوسِ الأشهادِ ﴿شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا﴾ [الأنعام: الآية ١٣٠] أن الرسلَ بَلَّغُونَا وَحَذَّرُونَا وَأَنْذَرُونَا لقاءَ هذا اليومِ، فَحَذَّرُونَا مِمَّا نحنُ فيه من البلايا غايةَ التحذيرِ، لكنهم - والعياذُ بالله - عَصَوْا، وأَبَوْا وَتَمَرَّدُوا، فَأَقَرُّوا بالحقيقةِ كما هي.
ثم بَيَّنَ اللَّهُ السببَ الذي كَذَّبُوا به الرسلَ ولم يَعْتَنُوا بالإنذارِ، قال: ﴿وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ لأَنَّ الدنيا دارُ الغرورِ، تَغُرُّ الجاهلَ فيشتغلُ بشهواتِها ولذاتِها وراحتِها عن موجباتِ الجنةِ؛ لأن ما يُدْخِلُ الجنةَ فيه تكاليفُ شَاقَّةٌ، تَشُقُّ على مَنْ لم يَهْدِهِمُ اللَّهُ، وإن الصلاةَ يقولُ اللَّهُ فيها: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (٤٥)﴾ [البقرة: الآية ٤٥] فالرجلُ يكونُ عزيزًا مُطَاعًا، فإذا دَخَلَ الإسلامَ كان وَاحِدًا من عامةِ الناسِ، مَأْمُورًا مَرْؤُوسًا من غيرِه، فيشقُّ هذا عليه، وكذلك أوقاتُ التكاليفِ يتكاسلونَ عنها ويختارونَ عنها لَذَّاتِ الدنيا، فالذي يصومُ ويجوعُ ويعطشُ يُفَضِّلُ على ذلك أن يأكلَ ويشربَ ويجامعَ إلى غير ذلك من لَذَّاتِ الدنيا، فَلَذَّاتُ الدنيا عاجلةٌ، وتشغلُ الإنسانَ عن مَعَادِهِ، حتى يضيعَ عُمْرُهُ فيما لا يَنْبَغِي، فيدخلُ النارَ، فيندمُ
_________
(١) في هذا الموضع كلمة غير واضحة، والكلام مستقيم بدونها.
قلت: هل جاء زيد؟ فالجواب: نعم قد جاء زيد. وقلت: أليس زيد قد جاء؟ فالجواب: بلى. لا بـ (نعم) (١).
وما سُمع من كلام العرب في إتيان (نعم) بعد الاستفهام المقترن بالنفي الذي هو موضع (بلى) فإنه شاذّ يُحفظ ولا يُقاس عليه. وقد سُمع في كلام العرب إتيان لفظة (نعم) في محل (بلى) في الاستفهام المقترن بالنفي، ومن شواهده قول الشاعر (٢):
أَلَيْسَ اللَّيْلُ يَجْمَعُ أُمَّ عَمْرٍو... وَإِيَّانَا؟ فَذَاكَ لنَا تَدَانِ...

نَعَمْ، وَتَرَى الهِلالَ كَمَا أَرَاهُ وَيَعْلُوهَا النَّهَارُ كَمَا عَلانِي
فالمحل هنا (بلى) لا لـ (نعم) لأن الاستفهام مقترن بنفي، وإنما يُحفظ مثل هذا ولا يقاس عليه.
وقوله: ﴿قَالُواْ نَعَمْ﴾ [الأعراف: آية ٤٤] هو حرف إثبات، جوابٌ لاستفهام إثبات. معناه: وجدنا ما وعدنا ربنا من العذاب الأليم والنكال وجدناه حقّاً.
﴿فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ﴾ [الأعراف: آية ٤٤] التأذين في لغة العرب: الإعلام. تقول العرب: أذّن الرجل: إذا أَعْلَم. ومنه الأذَان لِلصَّلاةِ؛ لأنه الإعلام بدخول وقتها، ودعاء الناس ﴿فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء﴾ [الأنبياء: آية ١٠٩] أعلمتكم، وآذَنَهُ: إذا أعْلَمَهُ (٣). ومنه
_________
(١) انظر: القرطبي (٧/ ٢١٠)، الدر المصون (٥/ ٣٢٦)، رصف المباني ص١٥٧، ٣٦٤.
(٢) البيتان في الأمالي للقالي (١/ ٢٨٢)، رصف المباني ص٣٦٥، الدر المصون (١/ ٤٥٦).
(٣) انظر: المفردات (مادة: أذن) ص٧٠.
الآدميين الذين لم يُمسخوا فيجيئه ويتمسح به ويبكي، وأن الآدميين يقولون: ألم ننهكم عن انتهاك حرمات الله؟ وأنهم يشيرون برؤوسهم أن نعم -هكذا- وسيأتي هذا مفصلاً بحسب الآيات التي ذكره الله فيها من سورة الأعراف هذه. وهذا معنى قوله: ﴿واسْأَلْهُمْ﴾ يا نبي الله.
قرأه أكثر السبعة: ﴿واسْأَلْهُمْ﴾ وخفف بعضهم بنقل الحركة (١) ﴿وسَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ﴾.
﴿حَاضِرَةَ الْبَحْرِ﴾ معناها: مَبْنِيَّةً على شاطئه بحضرته قريبًا منه، وهو على ما يقوله أكثر المفسرين قرية تسمى (أيلة) خلافًا لمن زعم أنها (مدين)، ومن زعم أنها (طبرية)، ومن زعم أنها تُسمى مَعَنَّى (٢)، ومن زعم أنها تُسمى (مقنات) فكل هذا إسرائيليات، ولكن أكثر الأخبار والروايات أنها (أيلة) كما ذكرنا (٣). وهذا معنى قوله: ﴿واسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ﴾ [الأعراف: آية ١٦٣] اسألهم عنهم حين ﴿يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ﴾.
_________
(١) انظر: الإتحاف (٢/ ٦٦).
(٢) جاء في تفسير مبهمات القرآن (١/ ٤٩٥) ما نصه: «... وقيل: (مقْنَا) بالقاف ساكنة، ويقال: (مقْنات)، و (معَنَّى) بالعين المفتوحة ونون مشددة، وهي ساحل مدين» اهـ. وقد أفاد محقق الكتاب أن (مغَنَّى) كُتبت في جميع نُسخ الكتاب بالعين المهملة المفتوحة، وقد اعتمد في كتابتها بالغين على المحرر الوجيز لابن عطية؛ لأن المؤلف صرح بنقلها عنه. والمقصود أن (معَنَّى) سواء كانت بالغين أم بالعين هي و (مقْنات) مكان واحد.
(٣) انظر: ابن جرير (١٣/ ١٨٠ - ١٨٢)، القرطبي (٧/ ٣٠٤)، الدر المنثور (٣/ ١٣٦)، تفسير مبهمات القرآن للبلنسي (١/ ٤٩٤ - ٤٩٥).
(المَفْعَل) وهو اسم مكان. معناه: مكان الرصد. والرصد: هو مراقبة الشيء ليُتَمَكَّنَ مِنْهُ في حَالَةِ غِرّته.
﴿وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ أي: في كل مكانٍ ترصدونهم وترقبونهم فيه، حتى يمروا عليكم فتأخذوهم، فكل شيء هو في طريق شيء مختفياً عنه لتمكنه غرته فهو رصد له. وهذا معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول عامر بن الطفيل (١):
وَلَقَدْ عَلِمْتُ وَمَا إِخَالُكَ نَاسِياً أَنَّ المَنِيَّةَ لِلْفَتَى بالمَرْصَدِ
ومن هذا قولُ الآخر، وهو عدي بن زيد حيث قال (٢):
أَعَاذِلَ إِنَّ الجَهْلَ مِنْ لَذَّةِ الفَتَى وَإِنَّ المَنَايَا لِلنُّفُوسِ بِمَرْصَدِ
ومن هذا معنى قوله: ﴿يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً﴾ [الجن: آية ٩] ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (١٤)﴾ [الفجر: آية ١٤] فمعنى: ﴿وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾: اقعدوا لهم في جميع الطرق التي ترصدونهم فيها ليمروا عليكم في حال غرتهم فتتمكنوا منهم. والعرب تقول للإنسان الذي يختفي عند الماء لترد عليه الوَحْش في اللَّيْلِ فيرميها: هذا راصد لها، ومكانه الذي هو فيه: مرصدٌ لها، وهذا معنى معروف.
وقوله: ﴿كُلَّ مَرْصَدٍ﴾: قال بعض العلماء: هو منصوبٌ على أنَّه ظرف، ولمّا قاله الزجاج (٣) غلَّطهُ فيه أبو عليّ الفارسي (٤) وقال: إنَّ مثل هذا لا ينصب على الظرف؛ لأنَّ الطريق مكانٌ محصور
_________
(١) البيت في القرطبي (٨/ ٧٣).
(٢) السابق.
(٣) معاني القرآن (٢/ ٤٣١).
(٤) انظر: الدر المصون (٦/ ١١).


الصفحة التالية
Icon