ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عجَّب نَبِيَّهُ من جراءةِ الإنسانِ وجهلِه وإعراضِه عن الحقِّ مع فقرِه وحاجتِه وفاقتِه إلى رَبِّهِ (جل وعلا)، فقال له: ﴿انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ﴾ معنى تصريفِ الآياتِ: هو نقلُها من حالٍ إلى حالٍ بأساليبَ واضحةٍ بينةٍ، تارةً - يعني - بالوعيدِ وتارةً بالوعدِ وتارةً بالابتلاءِ بالسراءِ، وتارةً بالضراءِ بأنواعٍ مختلفةٍ من جهاتٍ مختلفةٍ، ومع هذا ﴿ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ﴾ بعضُ الْمُحَقِّقِينَ من العلماءِ يقولُ: إن (ثم) في هذا المكانِ (١) للاستبعادِ (٢)، وأن التراخيَ المفهومَ بـ (ثم) أنها للاستبعادِ؛ لأنه يُسْتَبْعَدُ عندَ العقولِ السليمةِ أن يكونَ اللَّهُ مع عظمتِه وجلالِه، ومع ما يُحْسِنُ به إلى الإنسانِ يُصرِّفُ له الآياتِ، ومع هذا هو يصدفُ، أي: يُعْرِضُ. فمعنى قولِه: ﴿يَصْدِفُونَ﴾ أي: يُعْرِضُونَ ويصدون، والعربُ تقولُ: «صَدَفَ عنه، يَصْدِفُ، صَدْفًا وصُدُوفًا»، إذا أَعْرَضَ عنه وَمَالَ (٣).
و (صَدَفَ) تُسْتَعْمَلُ استعمالين (٤): تستعملُ مُتعديةً للمفعولِ، تقولُ: «صَدَفْتُهُ عن قولِه». أي: صَدَدْتُهُ عنه حتى أعرضَ عنه. وَتُسْتَعْمَلُ لازمةً، صدفَ فلانٌ عن كذا: إذا أَعْرَضَ عنه، وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ ابنِ رواحةَ (٥):
_________
(١) في الأصل زيادة: (إنها).
(٢) انظر: تفسير أبي السعود (٣/ ١٣٤).
(٣) انظر: ابن جرير (١١/ ٣٦٥ - ٣٦٦)، القرطبي (٦/ ٤٢٨)، الدر المصون (٤/ ٦٣٦).
(٤) انظر: ما سيأتي عند تفسير الآية (١٥٧) من سورة الأنعام.
(٥) البيت في الدر المنثور (٣/ ١٢)، والأضواء (٢/ ٢٨٣)، وعزاه لأبي سفيان بن الحارث، ولفظ الشطر الثاني فيهما:
........................... له صدفنا عن كل حق منزل
حيث لا ينفعُ الندمُ.
وهذا [معنَى] (١) قوله: ﴿وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ والعياذُ بالله ﴿أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (١٣٠)﴾ في دارِ الدنيا، مع أن الرسلَ أَنْذَرَتْهُمْ وَحَذَّرَتْهُمُ الكفرَ، وقد نَصَّ اللَّهُ على أنهم شَهِدُوا على أنفسِهم بالدنيا بالكفرِ، والظاهرُ أنها شهادةٌ صريحةٌ منهم، وَنَصَّ على شهادتِهم في دارِ الدنيا بالكفرِ أيضًا حيث قال في سورةِ التوبةِ: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ﴾ [التوبة: الآية ١٧] وهذه الشهادةُ قِيلَ: هي شهادةُ لسانِ الحالِ، وقيل أيضًا: شهادةُ مقالٍ (٢)، ونظيرُه قولُه في العادياتِ: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (٧)﴾ [العاديات: الآيتان ٦، ٧]. بِنَاءً على التحقيقِ من أن الضميرَ عائدٌ إلى الإنسانِ (٣).
وفي هذه الآيةِ الكريمةِ سؤالٌ معروفٌ، وهو أن يقولَ طالبُ العلمِ: اللَّهُ في آيةِ الأنعامِ هذه بَيَّنَ أنهم لَمَّا سُئِلُوا اعترفوا، وهذا جاء في مواضعَ كثيرةٍ - هذا الاعترافُ - كقولِه في سورةِ الزمرِ التي وَصَفَ فيها يومَ القيامةِ كأنك تنظرُ إليه: ﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ﴾ [الزمر: الآية ٦٩] وقال فيه: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ﴾ يَعْنُونَ في دارِ الدنيا: ﴿يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى﴾ [الزمر: الآية ٧١] وَلَمَّا قالوا في سورةِ المؤمنِ لخزنةِ النارِ:
_________

(١) ما بين المعقوفين [ ] زيادة يقتضيها السياق.
(٢) انظر: فتح القدير (٢/ ٣٤٤).
(٣) انظر: أضواء البيان (١/ ١٢)، قواعد التفسير (١/ ١١٦، ٢٧٩، ٤١٩).
قول الحارث بن حِلِّزة (١):
آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ رُبَّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ
﴿فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ﴾ أي: نادَى مُنَادٍ بِصَوْتٍ عَالٍ، وأعلم مُعلم ﴿بَيْنَهُمْ﴾ قرأ هذا الحرف عامة القراء إلا ورشاً عن نافع: ﴿فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ﴾ بهمزة محققة. وقرأه ورش وحده عن نافع: ﴿فَأَذَّنَ مُوَذِّنٌ﴾ بإبدال الهمزة واواً. انفرد بهذه القراءة ورش عن نافع عن جميع القراء (٢).
﴿بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [الأعراف: آية ٤٤] قرأ هذا الحرف نافع، وعاصم، وقنبل عن ابن كثير، وأبو عمرو، قرأوا كلهم: ﴿أَن لَّعْنَةُ الله﴾ بتخفيف (أن) وضم [٨/ أ] تاء (لعنة). وقرأه الباقون وهم حمزة، والكسائي، وابن عامرٍ، والبزي عن ابن كثير:/ ﴿أنّ لعنة الله﴾ (٣). بتشديد (أَنَّ) ونصب (تاء) ﴿لَعْنَةَ﴾.
واللعنة في لغة العرب (٤): الإبعاد والطرد. فالرجل إذا كان ذا جرائم، وذا جرائر، يطلبه هؤلاء بدم، وهؤلاء بدم، ثم إن قومه تبرءوا منه وطردوه لئلا تقاتلهم القبائل التي يطالبونه بالدم، إذا نفوه وطردوه يُسمى رجلاً لعيناً، ومنه قول الشماخ أو غيره (٥):
ذَعَرْتُ به القَطَا، ونَفَيْتُ عنه مَقامَ الذئبِ، كالرجُل اللَّعينِ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٢٨) من سورة الأنعام.
(٢) انظر: المبسوط لابن مهران ص١٠٥، إتحاف فضلاء البشر (٢/ ٤٩).
(٣) انظر: السبعة لابن مجاهد ص٢٨١، المبسوط لابن مهران ص٢٠٩.
(٤) انظر: اللسان (مادة: لعن) (٣/ ٣٧٤).
(٥) البيت للشماخ، وهو في اللسان (مادة لعن) (٣/ ٣٧٤).
﴿يَعْدُونَ﴾ معناه: يجاوزون حدود الله، وينتهكون أوامره باصْطِيَادِ السَّمَكِ يَوْمَ السبت ﴿إِذْ تَأْتِيهِمْ﴾ حين تأتيهم ﴿حِيتَانُهُمْ﴾ الحيتان: جمع حوت، وياؤه مبدلة من واو؛ لأن أصل الحوت ثلاثي واوي العين، زيدت في جمعه الألف والنون وأُبدلت الواو ياء لسكونها بعد كسرة، كما في (الميزان) من الوزن، و (الميعاد) من الوعد، و (الميقات) من الوقت، و (الحيتان) ياؤه مبدلة من واو جمع حوت (١).
﴿إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ﴾ السبت مصدر سَبَتَ اليهود سَبتًا إذا عظموا يوم السبت بالانقطاع للعبادة فيه وترك صيد السمك. وهذا معنى قوله: ﴿إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا﴾ [الأعراف: آية ١٦٣] ﴿شُرَّعًا﴾ جمع شارع. قال بعض العلماء: تأتيهم مقبلة، تأتيهم الحيتان مقبلة ظاهرة على وجه الماء كأنها صفوف كثيرة حتى تستر وجه الماء من كثرتها، فالشُرَّع على هذا بمعنى الظاهرة المقبلة على وجه الماء، والعرب تقول: شرعت على فلان فوجدته يفعل كذا. معناه: أقبلت عليه حتى قربت منه فوجدته يفعل كذا.
﴿وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ﴾ أي يوم لا يعظمون السبت؛ لأنه يوم آخر من أيام الأسبوع ﴿لاَ تَأْتِيهِمْ﴾ فتنة لهم وامتحانًا ﴿كَذَلِكَ نَبْلُوهُم﴾ ﴿كَذَلِكَ﴾ البلاء العظيم ﴿نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾. ﴿نَبْلُوهُم﴾ معناه: نختبرهم بسبب كونهم فاسقين، فقد ابتُلوا بالطمع ولم ينجحوا، وقد ابتُلوا بالخوف ولم ينجحوا؛ لأن الابتلاء الذي يميِّز
_________
(١) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص٨٧.
كالمسجد والبيت، فلا يكون ظرفاً، وإنما هو منصوبٌ بنزع الخافض، ويدل على أنه منصوبٌ بنزع الخافض: هو ما قَدَّمْنَا في سورة الأعراف في قوله: ﴿وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ﴾ [الأعراف: آية ٨٦] فعدَّاهُ بِالْبَاءِ التي هي حَرْفُ الجر، ومعلومٌ عند علماء العربية أنَّ النَّصْبَ بنزع الخافض لا يكون على المشهور قِيَاساً مُطَّرِداً، يُحفظ ما سُمع منه ولا يقاس عليه، خِلافاً للأَخْفَشِ الصَّغِير وهو عَلِيّ بن سُلَيْمَان؛ لأنه يقول: إنَّ النزع بالخافض مطَّرِدٌ في كل ما أُمِنَ فيه اللَّبْس، وقد عقد مذهبه ابن مالكٍ في الكافية فقال (١):
وابنُ سُليمانَ اطرادَه رَأَى إِنْ لم يُخَفْ لَبْسٌ كـ (مَنْ زَيْداً نَأَى)
وعلى هذا فمعنى ﴿وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾: اقعدوا لهم في كل طريق ترقبونهم وترصدونهم فيها حتى تأخذوهم في غرتهم، وعلى هذا فهو منصوبٌ بنزع الخافض. ونظيره من كلام العرب -في نصب الطريق، المرصد: هو الطريق، في نصبه وتقدير حرف الجر الذي هو منصوبٌ بنزعه- قول ساعدة بن جُؤَيَّة الهذلي في بيته المشهور الذي هو من شواهد سيبويه في كتابه (٢):
لَدْنٌ بِهَزِّ الكَفِّ يَعْسِل مَتْنُهُ فِيهِ كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ
يعني: كما عسل -أي: جرى العَسَلاَن- الثعلبُ في الطريق.
وقال بعضُ العلماء: اختار بعض المتأخرين أنَّه ظرف، وإن كان محصوراً (٣)، وبذلك أعرب قوله: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ
_________
(١) شرح الكافية (٢/ ٦٣٣).
(٢) الكتاب (١/ ٣٦، ٢١٤).
(٣) انظر: البحر (٥/ ١٠)، الدر المصون (٦/ ١٢).


الصفحة التالية
Icon