عَجِبْتُ لِلُطْفِ اللَّهِ فِينَا وَقَدْ بَدَا لَهُ صَدْفُنَا عَنْ كُلِّ وَحْيٍ مُنَزَّلِ
(صَدْفُنَا) أَيْ: إِعْرَاضُنَا. ومن هذا المعنى قولُ ابنِ الرّقاعِ يمدحُ نسوةُ، قال (١):
إِذَا ذَكَرْنَ حَدِيثًا قُلْنَ أَحْسَنَهُ وَهُنَّ عَنْ كُلِّ سُوءٍ يُتَّقَى صُدُفُ
جمع صادفةٍ، أي: مُعْرِضَاتٍ صاداتٍ عنه، وهذا يُسْتَبْعَدُ؛ لأن (ثُمَّ) هنا للاستبعادِ كما حَقَّقَهُ بعضُ العلماءِ؛ لأنه يُسْتَبْعَدُ مِمَّنْ صَرَّفَ له خالقُه الآياتِ، وبيَّن له هذا من البيانِ، يستبعدُ منه بعدَ هذا: الإعراضَ والصدودَ عن اللَّهِ جل وعلا.
وَمِنْ إتيانِ (ثُمَّ) للاستبعادِ قولُ الشاعرِ (٢):
وَلاَ يَكْشِفُ الْغَمَّاءَ إِلاَّ ابْنُ حُرَّةٍ يَرَى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا
لأن مَنْ عَايَنَ غمراتِ الموتِ يُسْتَبْعَدُ منه اقتحامُها والوقوعُ فيها. وهذا معنَى قولِه: ﴿ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ﴾.
﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الأنعام: آية ٤٧] ﴿قُلْ﴾ لهم يا نَبِيَّ اللَّهِ: ﴿أَرَأَيْتَكُمْ﴾ أَخْبِرُونِي ﴿إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً﴾ كان الحسنُ البصريُّ يقولُ: ﴿بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً﴾ أي: ليلاً أو نهارًا (٣)، وهذا التفسيرُ ليس كما ينبغي، بل التحقيقُ أن معنَى بغتة: أي: أَتَاكُمُ العذابُ في
_________
(١) البيت في ابن جرير (١١/ ٣٦٦)، القرطبي (٦/ ٤٢٨)، البحر المحيط (٤/ ١١٧)، الدر المصون (٤/ ٦٣٦)، الأضواء (٢/ ٢٨٣).
(٢) مضى عند تفسير الآية (٧٤) من سورة البقرة.
(٣) انظر: القرطبي (٦/ ٤٢٩).
﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ (٤٩) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ (٥٠)﴾ [غافر: الآيتان ٤٩، ٥٠] وهذه الآياتُ تدلُّ على أنهم أَقَرُّوا بما كانوا فيه.
ونظيرُها قولُه في النساءِ: ﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (٤٢)﴾ [النساء: الآية ٤٢] بل يُقِرُّونَ بكل ما فَعَلُوا. قد يقولُ طالبُ العلمِ: هذه الآياتُ وأمثالُها تدلُّ على أنهم أَخْبَرُوا بالواقعِ ففي القرآنِ آياتٌ أُخَرُ تدلُّ على إنكارِهم وحلفِهم على الإنكارِ، كقولِه عنهم: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣)﴾ [الأنعام: الآية ٢٣] ﴿فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ﴾ [النحل: الآية ٢٨] وقولُه جلَّ وعلا: ﴿بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا﴾ [غافر: الآية ٧٤]. فهذه الآياتُ تدلُّ على إنكارِهم لِمَا جاؤوا به من الكفرِ، وهذه تدلُّ على إقرارِهم. وقد سُئِلَ ابنُ عباسٍ رضي اللَّهُ عنهما عن قولِه: ﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (٤٢)﴾ [النساء: الآية ٤٢] مع قولِهم: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣)﴾ [الأنعام: الآية ٢٣] فأجابَ ترجمانُ القرآنِ عبدُ اللهِ بنُ عباسٍ قال: إنهم إذا رأوا أهلَ الشركِ لاَ خلاصَ لهم قالوا: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣)﴾ فعندَ ذلك يختمُ اللَّهُ على ألسنتِهم وتشهدُ أيديهم وأرجلُهم بما كانوا يكسبونَ (١). فهذه الأسرارُ التي يقولُها ويفصحُ عنها إنما هي أَيْدِيهِمْ وألسنتُهم وجلودُهم، كما قال: ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢)﴾ [فصلت: الآية ٢٢] وقال: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [فصلت: الآية ٢١] {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ
_________
(١) أخرجه ابن جرير (٨/ ٣٧٣ - ٣٧٤)، وهو في الدر المنثور (٢/ ١٦٤).
فـ (لعنة الله) معناها: طرده وإبعاده.
﴿فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ﴾ [الأعراف: آية ٤٤] أي: نادى مناد وأعلم مُعلم.
﴿أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ الذين ظلموا أنفسهم في دار الدنيا وكانوا يضعون العبادة في غير موضعها -والعياذ بالله- وهم الكفرة. وهذا من النكال بالكافرين لما اعترفوا بأن الوعيد حق عليهم نادى مناد يدعو عليهم باللعنة -والعياذ بالله- ويصفهم بالظلم الذي استحقوا به عذاب الله ونكاله.
ثم قال: ﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾ [الأعراف: آية ٤٥] ﴿الَّذِينَ﴾ في محل خفض لأنه نعت للظالمين.
﴿يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾ العرب تستعمل (صد) استعمالين (١): تستعملها متعدية إلى المفعول، تقول: صد زيد عَمْراً يصُده، ومصدر هذه (الصد) لا غير. ومنه: ﴿وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله﴾ [النساء: آية ١٦٠] صده يصُده صدّاً، على القياس؛ لأن كل فعل ثلاثي متعدٍّ إلى المفعول ينقاس مصدره إلى (فَعْل) بفتح فسكون، فصده صدّاً؛ لأن مصدرها: (الصد) على القياس. وهذه مضمومة الصاد، وليس فيها إلا الضم. تقول: صده يصُدُّه صدّاً، لا غير.
الثانية: يستعملون (صدَّ) لازمة غير متعدية إلى المفعول، تقول: كان زيد ذاهباً إلى الشام فَصَدَّ عنه إلى العراق. أي: مال عنه إلى العراق، لازماً، ومصدر هذه: (الصدود) على القياس أو الغلبة. وفي مضارعها ضم الصاد وكسرها. تقول: صد زيد عن الأمر يصِد
_________
(١) انظر: الدر المصون (٥/ ٣٢٨).
ذهب الرجال من زائفهم هو الطمع والخوف، فإن المحن التي يظهر بها ذهب الرجال وإِبْرِيزهم إنما هي محن الخوف والطمع، وقد ابتلى الله أمة موسى بالخوف والطمع، وابتلى أمة محمد بالخوف والطمع، فنجحت أمة محمد ولم تنجح أمة موسى؛ لأن الطمع الذي ابتلى الله به بني إسرائيل هو هذه القرية التي ذكرنا، وسيأتي أنهم اصطادوا السمك في السبت فمُسخوا قردة كما يأتي في قوله: ﴿فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً﴾ [الأعراف: آية ١٦٦] والعياذ بالله؛ لأنهم لم يصمدوا أمام الطمع، ولم تَقْوَ شكائمهم أمام الطمع، بل ذابوا وانْمَاعُوا أمام طمع شهوة اللحم. وكذلك لما ابتلاهم بالخوف في جهاد الجبارين وقال لهم: ﴿ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾ [المائدة: آية ٢١] فجبنوا ولم يشجعوا.
وقال تعالى عنهم إنهم قالوا: ﴿إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا﴾ [المائدة آية ٢٢] وقد قالوا لنبيهم: ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (٢٤)﴾ [المائدة: آية ٢٤] فلم يثبتوا أمام عواصف الطمع، ولم يثبتوا أمام عواصف الخوف، بخلاف هذه الأمة الكريمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد ابتلاهم بالطمع بنفس الصيد، وذلك في غزوة الحديبية في ذي القعدة من عام ست، ابتلاهم الله وهم في سفر وشدة قَرَم -أعني شدة شهوة إلى اللحم- ابتلاهم بأن يسر لهم جميع أنواع الصيد وهم محرمون، كبير الصيد وصغيره من أنواع الوحوش والطير وغير ذلك فلم يمد رجل منهم يده إلى شيء من ذلك، فنجحوا ولم تُزعزعهم عواصف الطمع، بل ثبتوا أمامه ثبوت الرجال، وهذا قد تقدم (١)
في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٧) من سورة البقرة..
الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: آية ١٦] وهذا معنى: ﴿وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾: اقتلوهم أولاً، وأْسروهم، وحاصروهم في معاقلهم وأماكنهم، وخذوا عليهم الطرق، وارصدوا لهم فيها لتأخذوهم.
وهذه أوامرُ من الله بأنه يُبذل في التضييق على المشركين وقتلهم وأخذهم كل غاية المجهود. وهذا معنى قوله: ﴿وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾.
﴿فَإِن تَابُواْ﴾ من كُفْرِهِمْ وَرَجَعُوا عن شِرْكِهِمْ ﴿وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ﴾ أقاموا صلاة المسلمين ﴿وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ﴾ وهي الحقوق الواجبة عليهم في الأموال، فالصلاة والزكاة معروفتان، وإقامة الصلاة: هي الإتيان بها على وجهها الأكمل من مراعاة أركانها، وشروطها، وسننها، وصلاتها في الجماعات، وأوقاتها، إلى غير ذلك. وإقامة الزكاة: هي إعطاء الواجب من الأنْصِبَاء التي بيَّنَهَا النَّبِي صلى الله عليه وسلم. إذا فعلوا هذا كله، بأن تابوا من شركهم، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة ﴿فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ﴾ السبيل (١) في اللغة: الطريق. والتخلية: معناه الترك. فمعنى ﴿فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ﴾ اتركوا طريقهم لا تقعدوا عليها، والعرب تقول: خَلِّ سبيل فلان. أي: اترك له الطريق، ولا تقعد له في طريقه، ولا تتعرض له. فإذا خَلَّيت له طريقه يمر ويذهب بها كيف شاء، معناه: أنك لم تتعرض له، وهذا معروف في كلام العرب كثيرٌ مبتذل، يقولون: خَلِّ سبيله، أي: اتْرُكْه ولا تَتَعَرَّضْ لَهُ؛ لأن سبيله: طريقه الذي يمشي بها، فإذا لم تقعد له فيها ولم تتعرض له فقد تركته يذهب ويقبل ويدبر من غير أن تتعرض له،
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١١٦) من سورة الأنعام.


الصفحة التالية
Icon