حالِ كونِه بَاغِتًا. أي: مُفَاجِئًا (١) من أن تعلمونَه بأسبابٍ، ولا عِلْمَ لكم به.
وقولُه: ﴿جَهْرَةً﴾ أن يَأْتِيَكُمُ العذابُ بعدَ أن تُعَايِنُوا أسبابَه، وتَرَوْا أَوَائِلَهُ، حتى يقعَ بكم ﴿جَهْرَةً﴾ عيانًا وأنتم تنظرون إليه (٢).
هذا التحقيقُ في الفرقِ بين البغتةِ والجهرةِ هنا. إن أتاكم عذابُ اللَّهِ مفاجئًا من غيرِ أن يتقدمَ لكم به علم، أو جهرةً بأن عَايَنْتُمْ مبادئَه، ورأيتم أولَ نزولِه، حتى وقعَ جهارًا وأنتم تنظرونَ. ﴿هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ﴾ هذا الاستفهامُ بمعنى النفيِ؛ ولذا جَاءَ مُقَابِلاً بـ (إلا) التي تُقَابِلُ النفيَ (٣). والمعنى: ما يُهْلَكُ إلا القومُ الظالمونَ الكافرونَ.
وفي الآيةِ سؤالٌ معروفٌ: جاء في الأحاديثِ الصحيحةِ (٤) أن العذابَ إذا نَزَلَ بقومٍ كفارٍ شَمِلَ مَنْ فيهم مِنَ المسلمين، وهذه الآيةُ بَيَّنَتْ أنه لاَ يُهْلَكُ إِلاَّ القومُ الظالمون؟
أُجِيبَ عن هذا: بأن العذابَ لو شَمِلَ وَأَهْلَكَ مَنْ هو معهم، أن هذا الهلاكَ تمحيصٌ له، وأنه يُبْعَثُ يومَ القيامةِ في نعمةٍ من اللَّهِ ورحمةٍ وأجور.
وقال بعضُ العلماءِ: لا يتعينُ هذا كما دَلَّتْ عليه قصصُ
_________
(١) انظر: ابن جرير (١١/ ٣٨٦)، القرطبي (٦/ ٤٢٩).
(٢) انظر: ابن جرير (١١/ ٣٨٦).
(٣) انظر: الدر المصون (٤/ ٦٣٧).
(٤) ورد في هذا المعنى من حديث أم سلمة، وعائشة، وزينب بنت جحش (رضي الله عنهن). انظر: جامع الأصول (٢/ ٢٣١)، (١٠/ ٤١٥)، (١١/ ٧٢٦).
أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥)} [يس: الآية ٦٥] قال ابنُ عباسٍ: فالاثنانِ من جهةِ اللسانِ والإقرارِ والإيضاحِ من جهةِ الجوارحِ والجلودِ والأَرْجُلِ والأَيْدِي.
وقال بعضُ العلماءِ: وجهُ الجمعِ بينَ الآياتِ: أن يومَ القيامةِ يومٌ طويلٌ؛ لأَنَّ اللَّهَ قال فيه: ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤)﴾ [المعارج: الآية ٤] ولا خلافَ بينَ العلماءِ أن اليومَ الذي قيلَ فيه خمسينَ ألفَ سنةٍ أنه يومُ القيامةِ (١). أما يومُ الألفِ السنةِ في (الحجِّ) ويومُ الألفِ السنةِ في (السجدةِ) ففيهما أقوالٌ غيرُ هذا (٢)؛ لأن اللَّهَ يقولُ في الحجِّ: ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (٤٧)﴾ [الحج: الآية ٤٧] ويقولُ في السجدةِ: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [السجدة: الآية ٥] وقال في سورةِ المعارجِ: ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً (٥)﴾ [المعارج: الآيتان ٤، ٥] ويوم الخمسين ألف سنةً: هو يومُ القيامةِ بلاَ خلافٍ (٣)، إلا أن العلماءَ ذَكَرُوا أنه إنما يطولُ هذا الطولَ على الكافرينَ خاصةً، أَمَّا على المؤمنينَ فهو كنصفِ نهارٍ، وجاءت آيةٌ في سورةِ الفرقانِ تدلُّ على ذلك، وهي قولُه تعالى: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً﴾ [الفرقان: الآية ٢٤] لأنه سَمَّاهُ ﴿مَقِيلاً﴾ والمقيلُ: الاستراحةُ بالقيلولةِ في
_________
(١) ذكر فيه ابن كثير (رحمه الله) أربعة أقوال. انظر: تفسير ابن كثير (٤/ ٤١٨ - ٤٢٠)، القرطبي (١٨/ ٢٨١ - ٢٨٣).
(٢) انظر: القرطبي (١٢/ ٧٨) (١٤/ ٨٧)، ابن كثير (٣/ ٢٢٨، ٤٥٧)، أضواء البيان (٥/ ٧١٨).
(٣) في الجمع بين هذه الآيات انظر: الأضواء (٦/ ٥٠٣).
ويصُد. وعليه القراءتان السبعيتان (١): ﴿إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ﴾ ﴿إذا قومك منه يصُدون﴾ [الزخرف: آية ٥٧] و (صد): هنا في هذه الآية هي (صد) المتعدية للمفعول.
﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾ أي: يصدون الناس عن سبيل الله. و (السبيل): الطريق. وإنما أُضيفت الطريق إلى الله؛ لأنها السبيل التي أمر بسلوكها، وَوَعَدَ بالثَّوَاب مَنْ سَلَكَهَا، ونَهَى عن عدم سلوكها، ووعَدَ بالْعِقَابِ مَنْ لم يَسْلُكْهَا.
والسبيل في لغة العرب وفي القرآن تُذَكَّر وتؤنث (٢)، فمن تأنيثها في القرآن: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله﴾ [يوسف: آية ١٠٨] وقوله: ﴿وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الأنعام: آية ٥٥] على من قرأ ﴿سبيلُ﴾ بالرفع: تستبين هي أي: سبيل المجرمين (٣).
وقد يذكَّر السبيل كقوله: ﴿وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً﴾ [الأعراف: آية ١٤٦].
وسبيل الله: هي دين الإسلام وطاعة الله التي جاءت بها رسله.
﴿وَيَبْغُونَهَا﴾ أي: يطلبونها، وهي السبيل، أَنَّثها في هذه الآية. يطلبونها ﴿عِوَجَا﴾ هذا مصدر بمعنى الوصف، أي: في حال كونها معوجة، يبغونها معوجة زائغة مائلة، فيها عبادة الأوثان، والشركاء، والأولاد لله. يطلبون هذه السبيل العوجاء التي ليس فيها استقامة. أما القرآن العظيمِ فسبيله ليس فيها عوج، بل هي مستقيمة، كما
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص٣٩٩.
(٢) مضى عند تفسير الآية (١١٦) من سورة الأنعام.
(٣) مضى عند تفسير الآية (٥٤ - ٥٥) من سورة الأنعام.
لَيَبْلوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشيء مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٩٤)} [المائدة: آية ٩٤] فثبتوا ولم تزعزعهم عواصف الطمع، وكذلك ابتلاهم بالخوف لما سافر النبي ﷺ سفره في غزوة بدر الكبرى كما سيأتي تفاصيله في سورة الأنفال -إن شاء الله تعالى- وقد خرج لأجل عير في ثلاثمائة رجل وثلاثة عشر رجلاً يريدون عيرًا ليأخذوها، فجاءهم جيش عرمرم، نفير مسلح، فلما علم النبي ﷺ بالجيش وذكر أمرهم لقومه -وهو أمر مخيف؛ لأنه جيش عظيم في عَدَدِه وعُدَدِه وهم قليلون كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ [آل عمران: آية ١٢٣] هم قليل عَددهم وعُددهم بالنسبة إلى عدوهم فلما عرض ذلك عليهم- قال له المقداد بن عمرو المعروف بالمقداد بن الأسود من بني بهراء من قبائل اليمن، حليف قريش، قال له: والله لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا من دُونَهُ معك، ولو خضت بنا البحر لخضناه، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى فلما أعاد الكلام قال له سعد بن معاذ (رضي الله عنه وأرضاه): كأنك تعنينا معشر الأنصار؟ قال: نعم. لأن الأنصار اشترطوا عليه ليلة العقبة أنهم يحمونه مما يحمون منه أبناءهم ونساءهم في نفس المدينة، ولم يشترطوا له الخارج عن بلادهم، فكان ﷺ يتخوف ألا يكونوا معه في الخارج عن ديارهم، فلما قال له سعد بن معاذ (رضي الله عنه): كأنك تعنينا معشر الأنصار؟ قال له: نعم. قال كلامه المعروف المشهور في المغازي والتاريخ -العظيم الدال على عظيم الثبات- الذي يقول فيه: والله إنا لقوم صُبُرٌ في الحرب، صُدَّقٌ عند اللقاء، ووالله ما نكره أن تلقى بنا عدوك حتى ترى منا ما يقر عينك، والله لقد تخلف عنك
وهو المعروف، ومن هذا المعنى قول ربيعة بن مكدم في رَجَزِهِ المشْهُور في قصته مع دريد بن الصَّمَّة وأصحابه (١):
خَلِّ سَبِيلَ الحَرَّةِ المَنِيعَهْ... إِنَّكَ لاَقٍ دُونَهَا رَبِيعَهْ
فِي كَفِّهِ خَطِيَّةٌ مُطِيعَهْ... أَوْ لاَ فَخُذْهَا طَعْنَةً سَرِيعَهْ
وَالطَّعْنُ مِنِّي فِي الوَرَى شَرِيعَهْ
معنى: «خَلِّ سبيلها»: لا تَتَعَرَّضْ لهَا واتْرُكْ طَرِيقَهَا تذهب فيها وتَتَوَجَّه كيف شاءت. ومن هذا المعنى قول كعب بن زهير (٢):
فقُلتُ خَلُّوا سَبِيلي لاَ أَبَا لَكُمُ... فَكُلُّ مَا قَدَّرَ الرَّحْمَنُ مَفْعُولُ
وقوله: (خَلِّ سبيلها) من كنايات الطلاق المعْرُوفَة عند الفقهاء في المذاهب. هذا معروف في كلام العرب، فكُلُّ مَنْ تَرَكْتَهُ، وتَرَكْتَ لَهُ طَرِيقَهُ يَذْهَبُ مَعَهَا ويمر مُقْبِلاً ومُدْبِراً حيث شاء فقد خليت سبيله، أي: تركته ولم تَتَعَرَّضْ لَهُ، ومن هذا قول جرير يهجو عمر بن لجيءٍ التميمي (٣):
خَلِّ السَّبِيلَ لِمَنْ يَبْنِي المَنَارَ بِهِ... وَابْرُزْ بِبَرْزَةَ حَيْثُ اضْطَرَّكَ القَدَرُ
قَدْ خِفْتَ يَا ابْنَ الَّتِي مَاتَتْ مُنَافِقَةً... مِنْ خُبْثِ بَرْزَةَ أَنْ لاَ يَنْزِلَ المَطَرُ
وهذا معنى: ﴿فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ﴾.
_________
(١) هذا الرجز في الأمالي (٢/ ٢٧١).
(٢) شرح قصيدة بانت سعاد للتبريزي ص (٣١).
(٣) البيتان في ديوانه ص (٢١١)، شواهد الكشاف ص (٤٧) وبين البيتين سبعة عشر بيتاً. ولفظ الشطر الأول من البيت الأول:
(خل الطريق... ).


الصفحة التالية
Icon