الرسلِ؛ لأن الغالبَ أن الكلامَ في الأممِ والرسلِ والقرآنِ قد قَصَّ علينا أن كل أمةٍ عَلِمَ اللَّهُ أن الهلاكَ سيأتيها أمرُ نبيها ومن معه فخرجوا منها وَنَجَوْا، كما ذكر أنه نَجَّى هُودًا بقولِه: ﴿نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ [هود: آية ٥٨] ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا﴾ [هود: آية ٩٤] ﴿نَجَّيْنَا صَالِحًا﴾ [هود: آية ٦٦] إلى غيرِ ذلك مما جاء مُفَصَّلاً في الآياتِ، وهذا يبين معنى قولِه: ﴿هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الأنعام: آية ٤٧].
﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩) قُلْ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ (٥٠) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢)﴾ [الأنعام: الآيات ٤٨ - ٥٢].
يقول الله جل وعلا: ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩)﴾ [الأنعام: الآيتان ٤٨ - ٤٩].
كان كفارُ مكةَ يُكْثِرُونَ الاقتراحاتِ على النبيِّ - ﷺ - (١) وَمِمَّا يقترحونَ عليه أن يقولوا له: سَلْ رَبَّكَ أن ينزلَ علينا كثيرًا من الأرزاقِ من خزائنِ رِزْقِهِ، وأن يُعلمنا بالغيبِ لِنَتَّقِيَ ما يضرُّ ونجتلب ما ينفعُ.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٣٧) من هذه السورة.
وسطِ النهارِ (١).
وأتبعَ هذه الآيةَ بأنَّ هذا لخصوصِ المؤمنين دونَ الكافرين حيث قالَ بعدَ آيةِ الفرقانِ هذه: ﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا﴾ [الفرقان: الآية ٢٦] وقال: ﴿فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠)﴾ [المدثر: الآيتان ٩، ١٠]. فَيُفْهَمُ منه أنه على المؤمنينَ يسيرٌ. فإذا كان على الكافرينَ مقدارُه خمسينَ ألفَ سنةٍ فهذه أزمانٌ متطاولةٌ ومواطنُ متعددةٌ، ففي بعضِها ينكرونَ، وفي بعضِها يُقِرُّونَ، ومثلُ هذا الإقرارِ الذي أَقَرُّوا به في بعضِ الْمَوَاطِنِ، والإنكارِ الذي أنكروا به في بعضِ المواطنِ، والكلامُ إذا كانَ في أزمنةٍ مختلفةٍ لا تَنَاقُضَ بينَه أبدًا؛ لأن هذا الإثباتَ في وقتٍ، والنفيَ في وقتٍ آخَرَ، فلا تناقضَ بينَ الآياتِ (٢). وهذا معنَى قولِه: ﴿قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ﴾.
قال تعالى: ﴿ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤)﴾ [الأنعام: الآيات ١٣١ - ١٣٤].
يقول اللَّهُ جل وعلا: ﴿ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (١٣١)﴾ [الأنعام: الآية ١٣١].
_________
(١) انظر: القرطبي (١٣/ ٢٢)، دفع إيهام الاضطراب ص٢٢٢، أضواء البيان (٦/ ٣٠٨ - ٣١١).
(٢) انظر: ابن عطية (٦/ ١٥٣)، البحر المحيط (٤/ ٢٢٣)، دفع إيهام الاضطراب ص٨١، ٢٢، أضواء البيان (٥/ ٧١٨)، (٦/ ٣٠٨ - ٣١١).
قال تعالى: ﴿قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾ [الزمر: آية ٢٨] وقال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا (١)﴾ [الكهف: آية ١] فسبيل الله ليس فيها عوج. والسبيل التي يبغيها الكفار ﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً﴾ [الأعراف: آية ٤٥] أي: معوجة ذات عوج، عوجاء غير مستقيمة لما تدعو إليه من الكفر بالله، وادعاء الشركاء والأولاد له. وهذا معنى: ﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً﴾.
﴿وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ﴾ [الأعراف: آية ٤٥] وهم مع ذلك كافرون بالآخرة، جاحدون بها.
﴿بِالآخِرَةِ﴾: هي الدار الآخرة، وقد بينا مراراً (١) أنها إنما سُميت آخرة لأنها ليس بعدها مرحلة أخرى.
ويجب على كل إنسان أن ينظر في مراحله، وتاريخ مراحله، حتى يفهم الآخرة؛ لأن الله أمره بذلك حيث قال: ﴿فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ (٦)﴾ [الطارق: الآيتان ٥، ٦] فاعلم أيها المسكين - الذي هو الإنسان - أن أول مراحلك تراب بلَّه الله (تبارك وتعالى) بماء فصار ذلك التراب طيناً، ثم بعد أن صار طيناً ونقله الله من طَور إلى طور خُمِّر حتى [صار] (٢) طيناً لازباً، وتغيرت ريحه حتى صار حمأ، ثم إنه يَبِسَ حَتَّى صَارَ صلصالاً، ثم إن الله نفخ فيه الروح، وجعله بشراً سَوِيّاً خلق منه آدم، جعله ذا جسد ودم ولحم، ثم إنه خلق من ضلعِه امْرَأَتَهُ حَوَّاء، كما قال: ﴿خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ قال في الأعراف: ﴿وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٩٢) من سورة الأنعام.
(٢) ما بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق.
بالمدينة أقوام لو علموا أنك تلقى كيدًا ما تخلف عنك منهم أحد (١).
ونحو هذا من الكلام؛ فثبتوا وصمدوا عند هذا الخوف العظيم، وثبتوا أمام هذا الطمع العظيم، بخلاف الاسرائيليين -كما بيّنا وكما جاء هنا في الأعراف- من سقوطهم أمام الطمع، وكما قدمنا في سورة المائدة من سقوطهم أمام الخوف، وهذا معنى قوله: ﴿إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٦٣] البلاء معناه الاختبار، وهو يقع بالخَيْرِ والشَّرِّ، كما قال: ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٦٨]، ولم ينجحوا في هذا البلاء إلا الذين عَصَمَهُم الله جل وعلا.
[٢٣/أ] / {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (١٦٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (١٦٧) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨) فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٧) من سورة البقرة.
وهذه الآيةُ وأمثالها في القرآن هي التي تمسّك بها الصدِّيق أبو بكر (رضي الله عنه) في قتالِ أهل الردة، لما منعوا الزكاة، فإنَّ الصَّحَابَةَ أوَّلاً قالوا: كيف نُقَاتِلُهُمْ وَهُمْ يَشْهَدُون أن لا إله إلا الله وأنَّ محمَّداً رَسُول الله؟! ومن مثل هذه الآية استدلَّ أبو بكر (رضي الله عنه) لأن الله قال: ﴿فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ﴾ بعد ثلاثة شروط، وهي: توبتهم مِنَ الشِّرْك، وإقامتهم الصلاة، وإيتاؤهم الزكاة. وقد تَقَرَّرَ في علم الأصول، أنَّ الشرط المشروط بشروطٍ متعدِّدة لا يحصل المشروط إلا بجميعها. فلو قلت لِعَبْدِكَ: إن صام زيد، وصلى، وقام وقعد فأَعْطِهِ دِيناراً، فإنه لا يستحق الدينار إلا إذا فعل جميع الشروط كلها، ولذا تخلية سبيلهم مشروطةٌ بهذه الشروط كلها؛ لأنَّ ما عُلِّق على شرطين أو شروط لا يتحصل إلا بجميع تلك الشروط، كما هو مقرر في الأصول. وأخت هذه الآية آتية قريباً في قوله: ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ [التوبة: آية ١١] مفهومه: أنَّهم إن لَمْ يَتُوبُوا، أَوْ لم يُقِيمُوا الصلاة، أو لم يؤتوا الزكاة فلا تخلوا سبيلهم، وليسوا إخوانكم في الدين، أي: وهو كذلك.
وهذه الآية الكريمة قال بعض العلماء: يؤخذ منها أنَّ مَنْ قَالَ: «تُبْتُ» فقط لا يجتزئ بذلك حتى يفعل أفعالاً تدل على صحة ما يَقُولُ؛ لأنَّ إِقَامَةَ الصَّلاَةِ وإِيتَاءَ الزَّكَاةِ بَرَاهِين وأدلة على صدقه في توبته التي قال. وهذا معنى قوله: ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: آية ٥] كثير المغفرة والرحمة، ومن رحمته ومغفرته الكثيرة تَوْبته ورحمته للذين تابوا من شركهم، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، فهو كثير المغفرة والرحمة، يرحم هؤلاء ويغفر لهم؛ لأنَّ من تاب تابَ الله


الصفحة التالية
Icon