ومما اقترحوا إنزالُ الآياتِ كما في قولِه في هذه الآيةِ السابقةِ: ﴿وَقَالُوا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ﴾ وقد بَيَّنَ اللَّهُ بعضَ اقتراحاتِهم في سُورٍ من كتابِه، كقولِه في سورةِ بني إسرائيلَ: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ﴾ قال الله له: قل لهم: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً﴾ [الإسراء: الآيات ٩٠ - ٩٣] وَبَيَّنَ في آيةِ الأنعامِ هذه أن اللَّهَ ما أرسلَ المرسلين لتكونَ بيدهم خزائنُ السماواتِ والأرضِ، أو يكونوا ملائكةً، أو يقترحَ عليهم مَنْ شَاءَ كُلَّ ما شاء من التعنتاتِ، لا ليس الأمرُ كذلك: ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ لا لأن تكونَ بأيديهم الخزائنُ، ولا ليكونوا ملائكةً، ولا ليقترحَ عليهم كُلُّ متعنتٍ ما شاءَ أن يقترحَ عليهم، لا.
﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ﴾ صيغةُ الجمعِ في قولِه: ﴿نُرْسِلُ﴾ للتعظيمِ، والمرسلونَ جمعُ (المُرْسَلِ)، والمرادُ بهم هنا: المرسلونَ مِنْ بَنِي آدمَ، مع أن المرسلين يكونون من الآدميين ومن غيرِهم كالملائكةِ، كما يأتي في قولِه: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ﴾ [الحج: آية ٧٥].
وقولُه: ﴿إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ حالٌ (١)، وقوله: ﴿وَمُنْذِرِينَ﴾ حالٌ معطوفةٌ على حال (٢). والمعنى: ما نُرْسِلُهُمْ إلا في حالِ كونِهم
_________
(١) (٢) انظر: الدر المصون (٤/ ٦٣٧).
(٢) انظر: جواهر البلاغة ص٢٥١.
اخْتَلَفُوا في موقعِ (ذلك) من الإعرابِ (١)، فَعَنْ سِيبَوَيْهِ: أنها تتعلقُ بمحذوفٍ، جملةٌ - مبتدأٌ وَخَبَرٌ - أي: الأمرُ ذلك الذي قَصَصْنَا عليكم. وذهبَ بعضُهم إلى أنها في مَحَلِّ نَصْبٍ، أي: فَعَلْنَا ذلك لأَجْلِ أن لم يَكُنْ رَبُّكَ مهلكَ القُرَى بِظُلْمٍ. و (أَنْ) هنا زَعَمَ بعضُهم أنها المصدريةُ الناصبةُ للمضارعِ. وَزَعَمَ بعضُهم أنها الْمُخَفَّفَةُ من الثقيلةِ. والمعنَى مُتَقَارِبٌ (٢).
ومعنَى الآيةِ الكريمةِ: ذلك الذي ذَكَرْنَا من أَنَّا أَرْسَلْنَا إلى معاشرِ الجنِّ والإنسِ رُسُلَنَا في دارِ الدنيا لِيُنْذِرُوهُمْ ويحذروهم حتى شَهِدُوا على أنفسِهم أن الرسلَ بَلَّغَتْهُمْ في دارِ الدنيا، وأنهم كانوا كَافِرِينَ، ذلك الإنذارُ والإعذارُ على ألسنةِ الرسلِ في دارِ الدنيا واقعٌ من أجلِ أَنَّ رَبَّكَ لم يَكُنْ لِيُهْلِكَ القرى بظلمٍ، أي: لِيُهْلِكَهَا بظلمِها؛ بِكُفْرِهَا ومعاصِيها.
والقولُ الذي يقولُ: «لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمِهِ لَهَا قَبْلَ أَنْ يُنْذِرَهَا» ليسَ على الصحيحِ، وإنما التحقيقُ أن المعنَى: ذلك الإنذارُ والإعذارُ على ألسنةِ الرسلِ في دارِ الدنيا؛ لأَجْلِ أن رَبَّكَ لم يكن لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمِهَا، أي: بِكُفْرِهَا ومعاصيها، والحالُ: هُمْ غَافِلُونَ، لم يُنَبَّهُوا برسولٍ ولا بكتابٍ. بل لابد من إزالةِ الغفلةِ في دارِ الدنيا بإرسالِ الرسولِ والكتابِ (٣).
وهذه الآيةُ الكريمةُ صَرَّحَ اللَّهُ فيها بأنه لم يكن لِيُهْلِكَ القرى
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ١٢٥)، القرطبي (٧/ ٨٧)، البحر المحيط (٤/ ٢٢٤)، الدر المصون (٥/ ١٥٥).
(٢) انظر: المصادر السابقة.
(٣) انظر: ابن جرير (١٢/ ١٢٤)، القرطبي (٧/ ٨٧)، البحر المحيط (٤/ ٢٢٤)، ابن كثير (٢/ ١٧٧ - ١٧٨). طريق الهجرتين ٤١٣.
[الأعراف: آية ١٨٩] وقال في أول النساء: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ وقال في الزمر: ﴿ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ [الزمر: آية ٦] وقد خلق حواء من آدم بلا نزاع كما نصت عليه هذه الآيات القرآنية، ثم بعد ذلك كانت طريق التناسل أيها الإنسان أن تكون أولاً نطفة من مني حقيرة مهينة، من ماء الرجل وماء المرأة في رحم المرأة، ثم تمكث ما شاء الله وأنت نطفة، ثم يقلب الله هذه النطفة علقة، أي: دماً جامداً إذا صُب عليه الماء الحار لم يذب، ثم إن الله يقلب هذا الدم مضغة، أي: قطعة لحم كما يقطعه آكل اللحم ليمضغه، ثم إن الله يقلب هذه اللحمة هيكل عظام يركب بعضها ببعض، يركب فيه المفاصل بعضها ببعض، والسُّلاميات بعضها ببعض، والفقار بعضها ببعض ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨)﴾ [الإنسان: آية ٢٨] ثم إنه (جل وعلا) يكسو هيكل هذا العظام اللحم، ويجعل فيه العروق، ويفتح فيه العيون، والأفواه، والآناف، ويجعل الكبد في محلها، والكليتين في محلهما، والطحال في محله، إلى غير ذلك، ثم ييسر لك طريق الخروج من بطن أمك، وهو مكان ضيق، كما قال: ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠)﴾ [عبس: آية ٢٠] ثم يخرجك إلى الدنيا.
وقد جاوزنا جميع هذه المراحل ونحن في مرحلة الخروج إلى الدنيا، وهذه المرحلة المحطة التي نحن فيها منا من يسافر منها بسرعة، ومنا من يمكث فيها: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ [الحج: آية ٥] ويقال لنا: اعلموا أن السفر طويل، وأن الشقة فادحة، وأنه لا محطة يؤخذ منها الزاد إلا هذه المحطة، فمن لم يتزود من هذه المحطة هلك وانقطع عن القافلة، وبقي في بلاء وويل لا ينقطع.
وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠)} [الأعراف: الآيات ١٦٤ - ١٧٠].
يقول الله جل وعلا: ﴿وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤)﴾ [الأعراف: آية ١٦٤].
قرأ هذا الحرف عامة القراء منهم السبعة غير عاصم في رواية حفص خاصة: ﴿معذرةٌ إلى ربكم﴾ بضم التاء، وقرأهُ عاصمٌ وحده في رواية حفص: ﴿مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ﴾ بنصب التاء (١).
أما على قراءة الجمهور فـ ﴿مَعْذِرَةٌ﴾ خبر مبتدأ محذوف، أي: موعظتنا لهؤلاء معذرة عند الله. أو هذه الموعظة معذرة.
أما على رواية حفص عن عاصم: ﴿مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ﴾ ففي إعرابه وجهان:
أحدهما (٢): أنه مفعول من أجله، أي: وعظناهم لأجل المعذرة. أي: لنقيم عذرنا عند الله.
الثاني: أنه مفعول مطلق، أي: نعتذر بذلك معذرة عند الله جل وعلا (٣).
وقوله في هذه الآية الكريمة: ﴿وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ﴾ واذكر يا نبي الله ﴿وَإِذَ قَالَتْ﴾ حين قالت أمة منهم {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢١٦.
(٢) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢١٦.
(٣) انظر: حجة القراءات ص٣٠٠، القرطبي (٧/ ٣٠٧)، الدر المصون (٥/ ٤٩٥).
عليه ﴿قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: آية ٣٨].
﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ (٦)﴾ [التوبة: آية ٦].
(إنْ) هي الشرطية. وقوله: ﴿أَحَدٌ﴾: يقول علماء العربية: إنَّه مَرْفُوعٌ بفعل محذوف يفسره ما بعده. أي: وإن اسْتَجَارَكَ أحدٌ من المشركين؛ لأن ﴿إن﴾ أداة شرط لا تَتَولى إلا الجمل الفعلية، فلا تتولى الجمل الاسمية؛ ولذا يُقَدَّر فِعْلٌ بَعْدَهَا. فـ ﴿أَحَدٌ﴾ عند علماء العربية فاعلُ فعلٍ محذوف يفسرهُ ما بعده (١).
والأحد معناه: الواحد، وأصل همزته مبدلة من واو، أصل الأحد: (وَحَد) بواو؛ لأنَّ هذه المادَّة أصلها واوية الفاء، وكثيراً ما تقول العرب في الوَحَدِ: الأحد، وربما نطقت بلفظ الوَحَد على أصله (٢). ومن ذلك قول نابغة ذبيان (٣):

كَأَنَّ رَحْلِيَ وَقَدْ زَالَ النَّهَارُ بِنَا بِذِي الجَلِيلِ عَلَى مُسْتَأنَسٍ وَحِدِ
وقوله: ﴿اسْتَجَارَكَ﴾ قَدْ قَدَّمنا أنَّ السين والتاء للطلب فمن معاني (استفعل) أنَّ السين والتاء للطلب، كقولهم: «اسْتَغْفر ربه» أي: طلبه المغفرة. و «استطعم» طلب الطعام، و «استسقى» طلب السقيا، و «استنجد» طلب النجدة. وهكذا. فقوله: ﴿اسْتَجَارَكَ﴾ طلب الإجارة منك. والإجارة: هي الأمان. أن تُجِيرَهُ وتُؤَمِّنَهُ من أذَى
_________
(١) انظر: القرطبي (٨/ ٧٧).
(٢) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص٢٧٥.
(٣) مضى عند تفسير الآية (٧١) من سورة البقرة.


الصفحة التالية
Icon