مبشرين ومنذرين، وقد حُذِف هنا معمولُ البشارةِ ومعمولُ الإنذارِ، وتقديرُه: إلا مبشرين مَنْ أطاعهم بالجنةِ وما عندَ اللَّهِ من الخيرِ، ومنذرين مَنْ عَصَاهُمْ بالنارِ وما عند الله من النكالِ. فَحَذَفَ المفعولَ والمُتَعَلَّقَ لدلالةِ الكلامِ عليهما.
وَقَدْ قَدَّمنا غيرَ ما مرةٍ: أن (المُبشِّرَ) اسمُ فاعلِ (التبشيرِ). والتبشيرُ والبشارةُ: هو الإخبارُ بما يَسُرُّ، قال بعضُ العلماءِ: سُمِّيَ الإخبارُ بما يَسُرُّ (بشارةً): لأن الإنسانَ إذا سَمِعَ خبرًا يَسُرُّهُ أَثَّرَ ذلك في دمِه فجرى دمُه جَرَيَانًا من البشارةِ فظهرَ أثرُ ذلك على بشرتِه، ومنها - قالوا - سَمَّوْهَا (بِشَارَةً).
والبشارةُ أغلبُ ما تُطْلَقُ على الإخبارِ بما يَسُرُّ خاصةً، وجاءَ في القرآنِ العظيمِ إطلاقُها على الإخبارِ بما يَسُوءُ كقولِه: ﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران: آية ٢١].
والعلماءُ الذين يقولونَ بالمجازِ في القرآنِ، معلومٌ أنهم يُسَمُّونَ مثلَ قولِه: ﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ يجعلونَ هذا مِنْ نوعِ (الاستعارةِ العناديةِ)، و (الاستعارةُ العناديةُ) عندَهم يُقَسِّمُونَهَا إلى: تهكميةٍ، وتمليحيةٍ، كما هو معلومٌ في فَنِّ البيانِ (١).
ومن منعِ المجازِ في القرآنِ من العلماءِ - وهو الذي نَرَى أنه الأصوبُ - يقولُ: هذا أسلوبٌ من أساليبِ اللغةِ العربيةِ، فالعربُ يستعملونَ البشارةَ غالبًا فيما يَسُرُّ، وربما استعملوها فيما يسوءُ، إذا دَلَّتْ على ذلك قرائنُ تُفْهِمُهُ، والكلُّ أسلوبٌ من أساليبِ اللغةِ
_________
(١)
بظلمِها وهي غافلةٌ غيرُ مُنَبَّهَةٍ على ألسنةِ الرسلِ، مُنْذَرَةً مُحَذَّرةً على ألسنةِ الرسلِ.
فمعنَى قولِه: ﴿وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (١٣١)﴾ أي: غافلونَ عن حججِ اللَّهِ وتوحيدِه، لم يُنبَّهُوا عليها بإنذارِ الرسلِ، بل لابدَّ من إنذارِ الرسلِ.
والنفيُ هنا في قولِه: ﴿لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ﴾ مُنْصَبٌّ على الحالِ؛ ولأن المنفيَّ هنا إهلاكُهم في حالِ كونِهم غَافِلِينَ، فالنفيُ مُنْصَبٌّ على الحالِ لاَ على إهلاكِ القرى؛ لأَنَّ القرى أُهلكوا، فالنفيُ مُنْصَبٌّ على الحالِ (١)، ونظيرُه: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ﴾ [الدخان: الآية ٣٨] فالنفيُ مُنْصَبٌّ على اللعبِ الذي هو الحالُ لا على خلقِ السماواتِ والأرضِ.
وهذه الآيةُ الكريمةُ تدلُّ على أن اللَّهَ لن يعذبَ قومًا لا بهلاكٍ مُسْتَأْصِلٍ في الدنيا، ولا بعذابٍ في الآخرةِ، حتى يُنْذِرَهُمْ على ألسنةِ رسلِه في دارِ الدنيا، وَيُكَذِّبُوا. والآياتُ الدالةُ على هذا المعنَى كثيرةٌ، كقولِه: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء: الآية ١٥] فَبَيَّنَ (جل وعلا) أن حكمةَ إرسالِ الرسلِ هي قَطْعُ حجةِ البشرِ عن خالقِهم، حيث قال: ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: الآية ١٦٥]. وهذه الحجةُ التي كانت تكونُ للناسِ على اللَّهِ لو لم يُرْسِلِ الرسلَ أَوْضَحَهَا في أخرياتِ (طه)، وأشارَ لها في (القصص)، قال في (طه): {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ
_________
(١) انظر: أضواء البيان (٢/ ٢١١).
فعلينا أن نتزود من هذه المحطة التي هي محل الزاد ﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ [البقرة: آية ١٩٧] فنأخذ من الأعمال الصالحات، والشقة أمامنا طويلة، والسفر بعيد، والسفر لم ينته. ثم بعد هذه المحطة ننتقل جميعاً إلى محطة القبور، وهي محطة من رحلة الإنسان. وسمع بدوي رجلاً يقرأ: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (٢)﴾ [التكاثر: آية ١] قال: انصرفوا والله من المقابر إلى دار أُخرى؛ لأن الزائر منصرف لا محالة. ثم إن القبر محطة ومرحلة من هذه المراحل يخرجنا الله منه جميعاً أحياء نُساق إلى المحشر ﴿ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ﴾ [الروم: الآية ٢٥] فنُساق جميعاً من محطة القبر إلى محطة المحشر في عرصات القيامة، ويلقى الناس فيها ما يلاقون من الأهوال والأوجال ودنُوّ الشمس منهم، وإلجام العرق إياهم كما هو معروف، ثم يشفع النبي ﷺ سيد الخلق الشفاعة الكبرى، فإذا جاء الناس، واعتذر لهم آدم، واعتذر لهم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وجاءوا إليه صلوات الله وسلامه عليهم، وقال لهم: «أنا لها».
يعني: أن الله وعده بذلك في دار الدنيا حيث قال له: ﴿عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً﴾ [الإسراء: آية ٧٩] ولكنه (صلوات الله وسلامه عليه) لشدة علمه بالله، وتعظيمه لله، يعلم أنه لا شفاعة إلا بإذن الله ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: آية ٢٥٥] ﴿مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ﴾ [يونس: آية ٣] فلا يتجرأ على الشفاعة فلتة بسرعة، وإنما يسجد ويلهمه ربه من المحامد ما لم يلهمه أحداً قبله ولا بعده، ولم يزل كذلك حتى يقول له ربه: يا محمد -صلوات الله وسلامه عليه- ارفع رأسك، وسل تُعطه، واشفع تُشَفَّعْ. فشفع صلى الله عليه وسلم
مُهْلِكُهُمْ} الميم في قوله: ﴿لِمَ تَعِظُونَ﴾ هي ما الاستفهامية. والمقرر في علم العربية أنّ ما الاستفهامية إذا جُرَّت حُذف ألفها كما هو معروف، والمعنى: لأي موجب تعظون؟ (تعظون) مصدر وعظه يعظه إذا كلّمه كلامًا يلين له قلبه لينتهي عما لا يرضي الله. ﴿لِمَ تَعِظُونَ﴾ لأي موجب وأي حكمة تعظون قومًا متمرِّدين مُتَمَادِين على العصيان وعدم الانكفاف ﴿اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ﴾ إهلاك استئصال ﴿أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ لجراءتهم عليه وانتهاكهم حرماته.
وهذه الطائفة قال بعض العلماء: هي أشد الذين نَهوا، وإنما قالت: ﴿لِمَ تَعِظُونَ﴾ لأنها جرّبت وعظهم وعلمت أنهم لا فائدة فيهم ولا ينزعون ولا يُقْلعون. وقال بعض العلماء: هذه الطائفة الثالثة التي لم تباشر الاعتداء في السبت ولم تنهَ الذين اعتدوا في السبت. وقد ذكرنا أنّ العلماء اختفلوا فيها، وأنّ أظهر القولين: أنها نجت كما أقنع به عكرمة ابن عباس (رضي الله عنه)، وكما يدل عليه ترتيبه بالفاء في قوله: ﴿فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً﴾ [البقرة آية ٦٥] في سورة البقرة على خصوص الاعتداء في السبت خاصة في قوله: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً﴾ فرتب قوله: ﴿كُونُواْ قِرَدَةً﴾ على خصوص الاعتداء في السبت. وهذا معنى قوله: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ﴾ إهلاكًا مستئصلاً ﴿أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ﴾ نعتذر بموعظتنا إياهم معذرة إلى ربكم. أو وَعظناهم لأجل المعذرة عند ربكم ﴿وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ ولرجائنا أيضًا أن تؤثر فيهم الموعظة فيتقوا الله ويكفوا عن ما هم مصرون عليه من ارتكاب هذا الذنب العظيم الذي هو صيد السمك يوم السبت.
قَوْمِكَ حتى يسمع ما أُنزل إليك. وهذا معنى قوله: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ﴾ قال بعض العلماء: لما نادى علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) في الموسم بهذه الآية من سورة براءة، أتاه قوم فقالوا: إن انتهت هذه الأشهر الأربعة وانقضت أشهر الإِمْهَال، وكان الواحد منا يريد أن يسمع من محمدٍ ما يقول لينظر هل يتبعه أو لا، يُقتل؟! فقال لهم علي: لا يُقتل؛ لأنَّ الله يقول: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ﴾ (١).
معنى هذه الآية الكريمة بإيضاح: أنَّ بعض المشركين إذا أراد أن يسمع ما يقوله رَسُول الله ﷺ ليفهم معنى ما ينزل عليه ويعرف الأوامر التي يأمر بها، والنواهي التي ينهى عنها، والأشياء التي يدعو إليها، ليستيقن في قرارة نفسه أهو حقٌّ فيتبعه أو يعلم أنَّه ليس بحق فيصد عنه، وطلب أن يجار، أن يُؤَمَّن، وألا يصل إليه أذى حتى يسمع القرآن، ويفهم ما أنزل على النبي؛ ليكون على بصيرة مِنْ أَمْرِهِ في الأخْذِ والتَّرْكِ، فإنه يجب أن يعطى ذلك الأمان حتى يسمع ويُتلى عليه القرآن، ويُفَهَّم بما فيه من الزواجر والمواعظ، ثم بعد ذلك إن أسلم فبها ونعمت، وإن أصرَّ على كُفْرِهِ وَجَبَ أَنْ يُردَّ إِلَى مَأمنه وهو محل داره التي يأمن فيها. هذا معنى قوله: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ﴾ طلبك أن تجيره وتؤمنه.
﴿حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ﴾ هو هذا القرآن العظيم. وهذه الآية الكريمة من سورة براءة نص صريح في أنَّ هذا الذي نقرؤه ونتلوه هو
_________
(١) هذا الأثر ذكره القرطبي في التفسير عن سعيد بن جبير مرسلاً (٨/ ٧٦) وأبو السعود (٤/ ٤٤)، والألوسي (١٠/ ٥٣).


الصفحة التالية
Icon