العربيةِ (١). ومعلومٌ عن العربِ أنهم يُطْلِقُونَ البشارةَ نادرًا على الخبرِ بما يَسُوءُ، ومن إطلاقِ البشارةِ على الخبرِ السَّيِّئِ قولُ الشاعرِ (٢):
وبَشَّرْتَنِي يَا سَعْدُ أَنَّ أَحِبَّتِي جَفَوْنِي وَقَالُوا الْوُدُّ مَوْعِدُهُ الْحَشْرُ
فجفاءُ الأحبةِ أمرٌ يسوءُ، والبشارةُ به بشارةٌ بسوءٍ، ومنه قولُ الآخَرِ (٣):
يُبَشِّرُنِي الْغُرَابُ بِبَيْنِ أَهْلِي فَقُلْتُ لَهُ: ثَكِلْتُكَ مِنْ بَشِيرِ
هذا أسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ، وعلماءُ البيانِ يُسَمُّونَهُ نوعًا من أنواعِ المجازِ، ونوعًا من أنواعِ الاستعارةِ، يسمونَه (الاستعارةَ العناديةَ)، كما بَيَّنَّا أقسامَها عندهم.
والقصرُ في قولِه: ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ﴾ هو الذي يُسَمِّيهِ البلاغيون: قصرًا إضافيًّا (٤)؛ لأنه يُرْسِلُهُمْ بأعمالٍ أُخَرَ طيبةٍ من تعليمِ الآدابِ والمكارمِ وغيرِ ذلك مما هو زائدٌ على البشارةِ والإنذارِ.
والبشارةُ: الإخبارُ بما يَسُرُّ، والإنذارُ: الإعلامُ المقترنُ بتهديدٍ خاصةً (٥). والإنذارُ أَخَصُّ من مطلقِ الإعلامِ؛ لأن الإنذارَ لا يُطْلَقُ إلا
_________
(١) انظر: القرطبي (١/ ٢٣٨)، المفردات (مادة: بشر) (١٢٤ - ١٢٥)، البحر المحيط (١/ ١١١)، الدر المصون (١/ ٢٠٩ - ٢١٠).
(٢) البيت في البحر المحيط (١/ ١١١)، الدر المصون (١/ ٢١٠)، ولفظه الشطر الثاني هكذا:
........................... جفوني وإن الودَّ موعدُهُ الحشر
(٣) البيت في البحر المحيط (١/ ١١١)، الدر المصون (١/ ٢٠٩).
(٤) انظر: جواهر البلاغة ص١٥٠.
(٥) انظر: المفردات (مادة: نذر) ص ٧٩٧.
قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: الآية ١٣٤] وقال في (القصص): ﴿وَلَوْلاَ أَنْ تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [القصص: الآية ٤٧] فهذه الآياتُ جاءت آياتٌ تُصَدِّقُهَا، أن اللَّهَ ما عَذَّبَ أحدًا بالنارِ إلا بعدَ إنذارِهم في دارِ الدنيا على ألسنةِ الرسلِ، ومن الآياتِ الدالةِ على ذلك قولُه تعالى في سورةِ (الملك): ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩)﴾ [الملك: الآيتان ٨، ٩].
وقوله: ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا﴾ إِنَّ كَلِمَةَ (كلما) تعمُّ أزمنةَ الإلقاءِ كُلَّهَا، فتُعمُّ جميعَ المُلْقَيْنَ من الأفواجِ في النارِ، أنهم جاءهم نذيرٌ في الدنيا. ونظيرُها من الآياتِ أن اللَّهَ لَمَّا قسم أهلَ المحشرِ في سورةِ الزمرِ قال: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ و (الذين) موصولٌ، وقد تَقَرَّرَ في علمِ الأصولِ (١) أن الموصولاتِ من صيغِ العمومِ؛ لأنها تَعُمُّ كل ما تشملُه صِلاتُهَا، قال: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وظاهرُ النَّصِّ أنه شاملٌ لكلِّ مَنْ صدق عليه اسمُ الكافرِ.
﴿إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [الزمر: الآية ٧١] فمعنَى قولِهم: (بلى) أي: قد جاءَنا نذيرٌ، وَاللَّهُ ذَكَرَهُ عنهم في معرضِ التصديقِ والتسليمِ، ونظيرُه في سورةِ (فاطر) أنه لَمَّا قَسَّمَ الأُمَّةَ إلى مَنْ أُورِثُوا القرآنَ، وَقَسَّمَهُمْ إلى الطوائفِ الثلاثةِ: مقتصدٍ، وسابقٍ بالخيراتِ، وظالمٍ، وَوَعَدَ جميعَهم الجنةَ، لم يَبْقَ إلا الكفارُ، قال في جميعِهم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ
_________
(١) انظر: شرح الكوكب المنير (١/ ١٢٣)، نثر الورود (١/ ٢٥١).
الشفاعة الكبرى (١)، ويظهر في ذلك الوقت فضله - صلوات الله وسلامه عليه - على جميع مَنْ في المحْشَرِ من الأنبياء والمرسلين، كما ظَهَرَ فَضْلُهُ عليهم في دار الدنيا لما عُرِج به مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سماوات، واجتمع بهم في بيت المقدس، وصلى بجميعهم بأمر من جبريل كما هو معروف في الأحاديث (٢)،
فهو سيدهم في الدنيا وسيدهم في الآخرة -صلوات الله وسلامه عليه- ثم إذا أذن الله في الحساب حاسب الناس، ثم إذا انتهى حسابهم تفرقوا في ذلك الوقت فراقاً لا اجتماع بعده، وهو قوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً﴾ [الزلزلة: آية ٦] وقوله: ﴿مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ﴾ ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤)﴾ [الروم: آية ١٤] وهذا التفرق مذهوب به ذات اليمين إلى الجنة، ومذهوب به ذات الشمال إلى النار، وقد أوضح الله هذه الأشتات في سورة الروم حيث قال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (١٦)﴾ [الروم: الآيتان ١٥، ١٦] فيُذهب بأهل الجنة إلى الجنة، وبأهل النار إلى النار، وُيذبح الموت، ويُقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت. فحينئذ تنقطع الرحلة، وتُلقى عصا التسيار، وتكون تلك هي المحطة الأخيرة التي لا انتقال منها أبداً إلى محطة أخرى. فأهل الجنة في نعيم دائم، وأهل النار في عذاب دائم، لن ينتقل هؤلاء إلى منزل آخر، ولا هؤلاء إلى منزل آخر، ولهذا سُميت الآخرة؛
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة الأنعام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (١٦١) من سورة الأنعام..
وهذه الآية الكريمة جاء فيها بيان حكمتين من حِكَم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن استقراء القرآن دل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له حِكَمٌ ثلاث تضمنت هذه الآية من سورة الأعراف من تلك الحكم الثلاث اثنتين، أمّا الحِكَم الثلاث (١):
فالأُولى منها: أن يقيم الإنسان عذره أمام ربه، ويخرج بذلك الأمر من عهدة التقصير في الأمر بالمعروف؛ لئلا يدخل في قوله: ﴿كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (٧٩)﴾ [المائدة: آية ٧٩] وهذه الحكمة أشاروا لها بقوله: ﴿مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ﴾.
الحكمة الثانية: هي رجاء انتفاع المذكر، كما قال هنا عنهم: ﴿وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ وذكر الله هذه الحكمة في قوله: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥)﴾ [الذاريات: آية ٥٥].
الحكمة الثالثة من حِكَم الأمر بالمعروف التي لم تذكر في هذه الآية الكريمة: هي إقامة الحجة لله على خَلْقِهِ في أرْضِهِ نيابةً عن رسله؛ لأن الله يقول: ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: آية ١٦٥] فأهل العلم يقيمون حجة الله على خلقه بإقامة الحجة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نيابةً عن الرسل في ذلك، وهذا معنى قوله: ﴿مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٦٤].
﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ﴾ [الأعراف: آية ١٦٥] يعني فترك المأمورون الموعوظون تركوا أمر الله ولم يلتفتوا إلى ذلك التذكير؛
_________
(١) انظر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (أصوله، وضوابطه، وآدابه) ص٦٨، ٣٤٨.
بعينه كلامُ الله، فالصوت صوت القارئ، والكلام كلام البارئ؛ لأن الله صرَّح بأن هذا المشرك المستجير يسمع كلام الله يتلوه عليه نبي الله صلى الله عليه وسلم. فهذا المحفوظ في الصدور، المقروء في الألسنة، المكتوب في المصاحف، هو كلام الله (جَلّ وعلا) بمعانيه وألفاظه. ولا شَكَّ أن أصل الكلام صفة الله (جَلَّ وعلا).
ونحن لا نحب إكثار الخوض فيه؛ لأن هذه الصفة هي منشأ البلايا والمحن (١)، ولكن نقول: إن الكلام صفة الله التي لم يزل متصفاً بها، فلم يتجرد يوماً عن كونه متكلماً، فالكلام صفته المتَّصِف بها أزلاً لم يَتَجَرَّدْ، ومَعَ كَوْنِهِ مُتَكَلِّماً فهو في كل وقت يَتَكَلَّمُ بِمَا شاء كيف شاء، على الوجه اللائق بِكَمَالِهِ وجَلالِهِ، فَكَلامُهُ صفته ليس بمخلوق.
وقد أشرنا -مراراً- إلى المحنة التي ابْتَلَى اللهُ بِهَا المسْلِمِينَ في أيام الدولة العباسية بالامتحان بالقول بخلْقِ القُرْآنِ؛ لأَنَّ مِحْنَةَ القول بخلق القرآن نَشَأَتْ فِي أيَّامِ المَأْمُونِ، ولم تزل في أيام المأمون حتى مات، واستفحلت في أيام المعتصم واستحكمت، وفي أيامه ضُرِب سيد المسلمين في زمانه أحمد بن حنبل (رضي الله عنه وأرضاه)، يُضرب حتى يُرفع من محل الضرب لا يعرف ليلاً من نهار، إذا أفاق قالوا له: قل: القرآن مخلوق. فيقول: لا، القرآن كلام الله، منه بدأ وإليه يعود. وكذلك مضى زمن الواثق والمحنة قائمة على ساق وقدم، وقد أزالها الله على يد المتوكل غفر الله له وعفا عنه؛ لأن محنة القول بخلق القرآن أزالها المتوكل على الله بعد
_________
(١) يريد (رحمه الله) ما نشأ بسبب الاختلاف في هذه الصفة، وإلا فهي صفة كمال من كل وجه.


الصفحة التالية
Icon