على إعلامٍ مقترنٍ بتهديدٍ. فَكُلُّ إنذارٍ إعلامٌ، وليس كُلُّ إعلامٍ إنذارًا، وهذا معنَى قولِه: ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ﴾ مَنْ أَطَاعَنَا بالجنةِ، ﴿وَمُنْذِرِينَ﴾ مَنْ عَصَانَا بالنارِ، ثم بَيَّنَ مَنْ هُمُ المُبَشَّرونَ وما صفاتُهم، وَمَنْ هُمُ المُنْذَرُون وما صفاتُهم، فقال مُبَيِّنًا صفاتِ المُبَشَّرين على ما يسمونه: (اللفَّ والنشرَ المرتبَ)، فَمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالحًا فلهم البشارةُ العُظْمَى؛ بأنهم لا خوفَ عليهم ولا هُمْ يحزنونَ، مع ما ينالونَ من النعيمِ.
وقولُه: ﴿فَمَنْ آمَنَ﴾ أصلُ الإيمانِ في لغةِ العربِ: التصديقُ (١). وهو في اصطلاحِ الشرعِ: التصديقُ التامُّ، أعني: التصديقَ من الجهاتِ الثلاثِ، وهو تصديقُ القلبِ بالاعتقادِ، واللسانِ بالإقرارِ، والجوارحِ بالعملِ. فالإيمانُ: قولٌ وعملٌ (٢)، كما عليه مذهبُ أهلِ السنةِ والجماعةِ، والآياتُ والأحاديثُ الدالةُ عليه لا تكادُ تُحْصَى. في الحديثِ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا» (٣) فَسَمَّى الصومَ:
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٥) من سورة البقرة.
(٢) انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة (٤/ ٨٣٠ - ٨٥١)، (٥/ ٨٨٥ - ٨٨٩)، تعظيم قدر الصلاة (١/ ٢٩٢ - ٤٣٧)، الإيمان لابن تيمية (١١٢ - ١٢٥، ١٣٥ - ١٤١، ١٥٢، ١٦٢، ١٧٠، ١٧٥، ١٧٨ - ١٨١، ١٩٠، ٢٠٧، ٢٤٥، ٢٧٤، ٢٧٥، ٢٨١ - ٢٨٧، ٣٠٠).
(٣) كلاهما من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه)، وقد أخرجهما الشيخان. انظر: البخاري، كتاب الإيمان، باب: قيام ليلة القدر من الإيمان (٣٥)، (١/ ٩١)، تطوع قيام رمضان من الإيمان (٣٧)، (١/ ٩٢)، باب: صوم رمضان احتسابا من الإيمان (٣٨)، (١/ ٩٢)، وقد أخرجهما في مواضع أخرى، انظر: الأحاديث (١٩٠١، ٢٠٠٨، ٢٠٠٩، ٢٠١٤)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح (٧٥٩، ٧٦٠)، (١/ ٥٢٣ - ٥٢٤).
يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: الآيتان ٣٦، ٣٧] وقوله: ﴿وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾ راجعٌ لجميعِِ الذين كَفَرُوا المذكورين في قولِه: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ﴾ ونظيرُها من الآياتِ قولُه تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ (٤٩) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى﴾ [غافر: الآيتان ٤٩، ٥٠] أي: جَاءَتْنَا رُسُلُنَا بالبيناتِ والآياتِ بنحوِ هذا كثيرة.
وهذه الآياتُ تدلُّ على أن أهلَ الفترةِ معذورونَ؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ: ﴿ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (١٣١)﴾ [الأنعام: الآية ١٣١] ويقول: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥)﴾ [الإسراء: الآية ١٥] وَتَمَسَّكَ بظاهرِ هذه الآياتِ جماعاتٌ من أهلِ العلمِ.
وَذَهَبَ جماعاتٌ آخرونَ، إلى أن الكفرَ وعبادةَ الأوثانِ لا يُعْذَرُ فيه أحدٌ، وأن كلَّ مَنْ ماتَ كافرًا يعبدُ الوثنَ، أنه في النارِ، وإن لم يَأْتِهِ نذيرٌ. واستدلوا بظواهرِ آياتٍ من كتابِ اللَّهِ، وبأحاديثَ جاءت عن النبيِّ - ﷺ -.
والحاصلُ أن هذه المسألةَ مسألةٌ اصْطَدَمَتْ فيها عقولُ الفحولِ، واختلفَ فيها العلماءُ، وجاءَ كُلٌّ منهم بحججٍ وأدلةٍ، وسنذكرُ طَرَفًا من أدلةِ الجميعِ، ومناقشةِ أدلتِهم، ثم نذكرُ ما يُرَجِّحُهُ الدليلُ إن شاء اللَّهُ تعالى (١).
_________
(١) في هذا المسألة راجع: مجموع الفتاوى (١٧/ ٣٠٨ - ٣١٠) أحكام أهل الذمة (٢/ ٦٤٨ - ٦٥٦)، لوامع الأنوار البهية (٢/ ٣٩٨)، تفسير ابن كثير (٣/ ٢٨ - ٣٢) دفع إيهام الاضطراب ١٧٨ - ١٨٦، نثر الورود (١/ ٤٥)، أضواء البيان (٣/ ٤٧١ - ٤٨٤)، نواقض الإيمان الاعتقادية (١/ ٢٩٤ - ٣٠١)، الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه ٢٠٩ - ٢١٥، منهج الجدل والمناظرة (٢/ ٨٢٧).
ومما يتصل بهذا الموضوع مسألة (أطفال المشركين)، وقد أطال الكلام عليها الحافظ ابن عبد البر في التمهيد (١٨/ ٩٦ - ١٤١)، وفي الاستذكار (٨/ ٣٩٠ - ٤٠٨)، وابن القيم في طريق الهجرتين ٣٨٨ فما بعدها. وانظر مجموع الفتاوى (٢٤/ ٣٧٢).
لأن ليس بعدها محطة أخرى يُنتقل إليها. وهذا إيضاح معنى (الآخرة).
وقوله: ﴿كَافِرُونَ﴾ أي: جاحدون. أصل الكفر في لغة العرب هو: الستر والتغطية، وكل شيء سترته وغطيته فقد كفرته. وهذا معروف في كلام العرب، ومنه قيل للزراع: كُفَّار؛ لأنهم يكفرون البذر في بطن الأرض، يسترونه ويغطونه. وهو معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول لبيد في معلقته (١):

يَعْلُو طَرِيقَةَ مَتْنِهَا مُتَوَاتِرٌ فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا
يعني: سترها وغطاها غمامُها. ومن هنا قيل للَّيل: كافر؛ لأنه يكفر الأجرام ويغطيها بظلامِهِ ومنه قول لبيد في معلقته (٢):
حتى إذا ألقتْ يداً في كافرٍ وأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثغُورِ ظَلامُها
كما هو معروف، وإنما سُمي الكافر كافراً لأنه يجحد نعم الله، ويجحد آياته، ويريد أن يغطيها بالجحود والكفر والعياذ بالله. وهذا معنى قوله: ﴿وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ﴾ [الأعراف: آية ٤٥].
قال تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧) وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قَالُواْ
_________
(١) شرح القصائد المشهورات (١/ ١٥٢).
(٢) شرح القصائد المشهورات (١/ ١٦٦).
ولذا قال تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُواْ﴾ اعلموا أن النسيان يطلق في القرآن العظيم إطلاقين (١):
أحدهما: نسيان الشيء بأن ينساهُ الناسي ويزول علمه منه فيكون ناسيًا له غير ذاكر.
والثاني: يطلق النسيان على ترك العمل عمدًا وهو المقصود هنا، منه قوله تعالى: ﴿نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة: آية ٦٧] أي: تركوه فتركهم؛ لأن الله لا ينسى، كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ [مريم: آية ٦٤] ﴿قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى (٥٢)﴾ [طه: آية ٥٢] فالنسيان هنا معناه الترك عمدًا، وهو أسلوبٌ عربي معروف، تقول العرب: نسي الأمر وتناساه: إذا صَدَّ عنه وأَعْرَضَ وتَرَكَهُ عَمْدًا. ومنه على أصح التفسيرين قوله عن آدم: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ﴾ [طه: آية ١١٥] أي: ترك ذلك الأمر لما قاسمه الشيطان، كما تقدّم إيضاحه، وهذا معنى قوله: ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ﴾ المراد بالسوء هنا هو معصية الله (جل وعلا) وانتهاك حرمته باصطياد السمك في السبت، وكل معصية من معاصي الله فهي من السوء؛ لأنها تسوء صاحبها إذا نظرها في صحيفته يوم القيامة.
﴿وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾ أي: ارتكبوا الجريمة وعصوا الله واصطادوا السمك في السبت.
﴿بِعَذَابٍ بَئِيسٍ﴾ في هذا الحرف أربع قراءات سَبْعِيَّات (٢): قرأ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤١) من سورة الأنعام.
(٢) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢١٦، حجة القراءات ص٣٠٠، الدر المصون (٥/ ٤٩٦).
أن مضت في زمن المأمون والمعتصم والواثق. وكان بعض المؤرخين يقولون: إنها في أخريات أيام الواثق أنها بردت وانكسرت شوكتها وضعف شرها وقد قدمنا في هذه الدروس السابقة (١) أن ذلك على يد ذلك الشيخ الشامي، صاحب القصة المشهورة، وأنه شيخ جيء به من الشام أيام الواثق بالله، جيء به مكبلاً بالحديد ليمتحن ويقتل في محنة القول بخلق القرآن، وجيء به، وجلس الواثق يوماً -والرواية رواها الخطيب البغدادي عن ابن الواثق محمد من طرق أسانيدها فيها ما يُنكر، ولكنها قصةٌ معناها صحيح، تَلَقَّاهَا العُلَمَاء بالقبول- وذلك أنّ الواثق لما أراد قتل ذلك الشيخ الشامي (رحمه الله) كان إذا أراد قتل أحد أحضر ولده محمداً -وهو الذي روى الخطيب هذه القصة من طريقه- فجيء بالرجل مُقَيَّداً بالحديد، فقال للواثق: السلام عليك يا أمير المؤمنين!! قال: لا سلَّمك الله. فقال الشيخ: بئس ما أدَّبك مؤدبك يا أمير المؤمنين!! الله يقول: ﴿وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ [النساء: آية ٨٦] واللهِ ما حَيَّيت بأحسن منها ولا رَددتها.
فقال الواثق: ائذنوا لأبي عبد الله -يعني الخبيث أحمد بن أبي دؤاد، عامله الله بما هو أهله؛ لأنه سبب هذه البلايا والمحن- وأحضره، فقال له ابن أبي دؤاد: الرجل متكلم!! فقال الواثق لابن أبي دؤاد: ناظر هذا الرجل. فقال الشيخ الشامي: ابن أبي دؤاد أحقر من أن يناظرني -كما جاء في بعض روايات قصته- فقال له ابن أبي دؤاد: ما تقول في القرآن؟ فقال الشيخ: يا ابن أبي دؤاد: ما أنصفتني. يعني: أنَّ الذي يراد أن يُقَدَّمَ للقتل أحق بأن يكون هو السَّائِل. فقال له: سلْ. فقال: ما تقول يا ابن أبِي دُؤاد
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١١٤) من سورة الأنعام.


الصفحة التالية
Icon