إيمانًا. «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا» (١) فَسَمَّى الصلاةَ: إيمانًا ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ [البقرة: آية ١٤٣] أي: صلاتَكم إلى بيتِ المقدسِ قبلَ أن تُنْسَخَ. وفي الحديثِ الصحيحِ: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ» وفي بعضِ رواياتِه: «وَسَبْعُونَ بِضْعًا، أَعْلاَهَا شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ» (٢)
وفي هذا الحديثِ الصحيحِ أن هذا الفعلَ - الذي هو إماطةُ الأَذَى عن الطريقِ - يُسَمَّى: إيمانًا كما هو مَعْرُوفٌ.
والعادةُ المقررةُ عندَ العلماءِ: أن الإيمانَ إذا جاء مُطْلَقًا ولم يُعْطَفْ عليه العملُ الصالحُ فهو يشملُ الإيمانَ من الجهاتِ الثلاثِ: يشملُ إيمانَ القلبِ بالاعتقادِ، وإيمانَ اللسانِ بالإقرارِ، وإيمانَ الجوارحِ بالعملِ. وإذا عُطِفَ عليه العملُ الصالحُ، كقولِه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [يونس: آية ٩] وقولِه هنا: ﴿فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ﴾ [الأنعام: آية ٤٨] انصرفَ الإيمانُ إلى رُكْنِهِ الأكبرِ، وهو الاعتقادُ القلبيُّ (٣)، وصارَ الإصلاحُ بعدَه يُرَادُ به الأعمالُ، كما قال تعالى هنا: ﴿فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ﴾ آمَنَ قَلْبُهُ وَأَذْعَنَ واعتقدَ ما يجبُ اعتقادُه إثباتًا ونفيًا، وأصلحَ - مع ذلك الإيمانِ القلبيِّ عَمَلَهُ - بجوارحِه ﴿فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ﴾ آمَنَ قَلْبُهُ، وأصلحَ عَمَلَ جوارحِه، بِأَنِ
_________
(١) تقدم تخريجه.
(٢) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب: أمور الإيمان. حديث رقم (٩)، (١/ ٥١)، ومسلم كتاب الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان. حديث رقم (٣٥)، (١/ ٦٣) وقول الشيخ (رحمه الله) هنا: «بضعا» سبق لسان، وإنما الرواية: «شعبة»..
(٣) انظر: الإيمان الكبير لابن تيمية (١ - ١١).
أما الذين قالوا: إن مَنْ مَاتَ في الفترةِ معذورٌ، فدلالةُ قولِه: الآياتُ - التي ذَكَرْنَا - القرآنيةُ، كقولِه: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء: الآية ١٥] ﴿ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ﴾ [الأنعام: الآية ١٣١] ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: الآية ١٦٥] ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى﴾ [طه: الآية ١٣٤] وأن الله بَيَّنَ أنه ما أَدْخَلَ أحدًا النارَ إلا بعدَ الإنذارِ والإعذارِ في دارِ الدنياِ: ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ (٩)﴾ [الملك: الآيتان ٨، ٩] إلى آخِرِ ما ذَكَرْنَا من الآياتِ.
أما الذين قالوا: إن الكفرَ وعبادةَ الأوثانِ لا يُعْذَرُ فيها أحدٌ، وأن كُلَّ مَنْ ماتَ كَافِرًا يعبدُ الأوثانَ فهو في النارِ - فَاعْلَمُوا أَوَّلاً: أن الفروعَ كالصيامِ والحجِّ والصلاةِ والواجباتِ والمحرماتِ فهذا محلُّ إجماعٍ بين العلماءِ أن اللَّهَ لاَ يُؤَاخِذُ به أَحَدًا إلا بعدَ إبانةِ الرسلِ، وإنما الخلافُ فِي شهادةِ أن لا إلهَ إِلاَّ اللَّهُ وعبادةِ الأوثانِ من دُونِ
إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (٥١)} [الأعراف: الآيات ٤٦ - ٥١].
يقول الله جل وعلا: ﴿وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧)﴾.
قوله جل وعلا: ﴿وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ﴾ أي: بين أهل الجنة وأهل النار، وقيل: بين الجنة وبين النار حجاب، والحجاب هو: الحاجز الساتر بين الشيئين (١)، ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ﴾ [الأحزاب: آية ٥٣]. وهذا الحجاب الذي بين أهل الجنة وأهل النار، وبين الجنة والنار هو السُّور المذكور في سورة الحديد في قوله جل وعلا: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾ [الحديد: آية ١٣] وهذا الحجاب الذي هو هذا السُّور المبين في سورة الحديد لا يمنع من كون النار في أسفل السافلين، والجنة في أعلى؛ لأن الجنة فوق السماوات والنار منسفلة تحت الأرضين، وهذا لا يمنع من أن الله يجعل سوراً ساتراً بين أهل الجنة وأهل النار كما صرح به في قوله: ﴿وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ﴾ وقوله مبيناً لهذا الحجاب: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾ [الحديد: آية ١٣].
وضَرْبُ ذلك الحجاب يبيِّن أن أهل الجنة لا ينالهم شيء من
_________
(١) انظر: تفسير ابن جرير (١٢/ ٤٤٩)، القرطبي (٧/ ٢١١)، الدر المصون (٥/ ٣٢٨).
هذا الحرف ابن كثير والكوفيون -أعني عاصمًا وحمزة والكسائي-: ﴿وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ﴾ على وزن (فعِيل). والعذاب البئيس: هو العذاب الشديد العظيم الذي وقْعُه شديد على صاحبه.
وقرأه نافع في روايتي ورش وقالون: ﴿وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ بباء مكسورة بعدها ياء ولا همزة فيه. وأصل هذه القراءة كما قاله بعض العلماء: (بَئِس) على وزن (فَعِل) فخففت، كما تقول في (كَبِدٍ): (كِبْدٍ) فقيل: (بِئْس) وخففت الهمزة أيضًا فقيل: (بِيس) ومعناه عائد إلى الأَوَّل.
وقرأه ابن عامر: ﴿بِعَذَابٍ بئْسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ كقراءة نافع إلا أن ابن عامر همز الياء فقال: ﴿بعذابِ بِئْسٍ بما كانوا يفسقون﴾.
أما أبو بكر -أعني شعبة عن عاصم - فله روايتان: أحدهما توافق قراءة الجمهور، وهي قوله: ﴿بِعَذَابٍ بَئِيسٍ﴾ وروى أبو بكر شعبةُ روايةً أخرى عن عاصم: ﴿بعذاب بَيْئَس بما كانوا يفسقون﴾ (بيْئس) على وزن (ضَيْغَم) والعذاب البيئَس: هو الشديد أيضًا، ورجل بَيْئَس: شديد البأس، ومنه قول امرئ القيس بن عابس الكندي (١):

كِلاهُمَا كَانَ رَئِيسًا بَيْئَسًا يَضْرِبُ فِي يَوْمِ الهيَاجِ القَوْنَسَا
وهذا معنى قوله: ﴿بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٦٥] الباء سببية، و ﴿مَا﴾ مصدرية. والفسق في لغة
_________
(١) البيت في ابن جرير (١٣/ ٢٠٠)، البحر المحيط (٤/ ٤١٣)، الدر المصون (٥/ ٤٩٦).
في القرآن؟ قال: أقول إنَّه مخلوق. قال: مقالتك هذه التي تدعو الناس إليها، وتأمرهم بها، ويفتن الخلفاء فيها يمتحنون فيها الناس بفتياك ورأيك، هل كان رَسُول الله ﷺ وخلفاؤه الراشدون -أبو بكر وعمر وعثمان وعلي- هل كانوا عالمين بها أو لا؟ فقال ابن أبي دؤاد: ما كانوا عالمين بها. فقال الشيخ الشامي: ما شاء الله!! ما شاء الله!! جهلها رَسُول الله وخلفاؤه الراشدون وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعلمها ابن أبي دؤاد!!، فقال ابن أبي دؤاد: أقلني، والمناظرةُ على بابها. فقال له: ذلك لك. ثم قال له: ما تقول في القرآن؟ قال: مخلوق. قال: مقالتك هذه التي تدعو الناس إليها هل كان رَسُول الله وخلفاؤه الراشدون عالمين بها أو لا؟ قال: كانوا عالمين بها، ولكنهم لم يدعو الناس إليها. فقال له الشيخ الشامي: يا ابن أبي دؤاد: ألم يسعك في أمة محمد ﷺ ما وسع رَسُول الله في أمته، ووسع خلفاءه الراشدين في رعاياهم؟! فَأَلْقَمَهُ حَجَراً وسكت، وقام الواثق وجلس في محل خلوته واضطجع، وجعل رجله على ركبته وقال: جهلها رَسُول الله ﷺ وخلفاؤه الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعلمها ابن أبي دؤاد؟ ما شاء الله!! ما شاء الله!! ثم قال: علمها رَسُول الله ﷺ وخلفاؤه الراشدون ولم يدعوا الناس إليها، ألم يسعك يا ابن أبي دؤاد ما وسع رَسُول الله وخلفاءه الراشدين في أمةِ محمد صلى الله عليه وسلم؟ ثم دعا بالحداد وقال له: اذهب وفكَّ قيد هذا الشيخ الشامي. وأعطاه أربعمائة دينار، وقال له: انصرف راشداً إلى أهلك.
وذكر الخطيب في بعض روايات هذه القصة بأسانيد ليست قائمة أنَّه بعد ذلك لم يمتحن أحداً. بل روى -أيضاً- عنه أن الواثق رجع عنها في أُخريات حياته.


الصفحة التالية
Icon