لأنه يذكر مراكبَ ضَلَّتْ طريقَها التي كانت تمشي عليها، فقال: «فَوَاسِقًا عَنْ قَصْدِهَا» أي: خوارجَ عن الطريقِ التي كانت تَقْصِدُهَا. هذا أصلُ (الفسقِ) في لغةِ العربِ.
وهو في اصطلاحِ الشرعِ: الخروجُ عن طاعةِ اللَّهِ. والخروجُ عن طاعةِ اللَّهِ جنسٌ تحتَه نوعانِ:
أحدُهما: الخروجُ الذي هو أكبرُ أنواعِ الخروجِ وأعظمُها، وهو: الخروجُ عن طاعةِ اللَّهِ بالكفرِ الصُّراحِ. هذا أكبرُ أنواعِ الفسقِ. وكثيرًا ما يُطْلَقُ في القرآنِ اسمُ (الفسقِ) على هذا؛ لأنه صَرَّحَ بأنهم كَذَّبُوا بآياتِ اللَّهِ، وهذا أعظمُ الكفرِ، ثم سَمَّى هذا الكفرَ فِسْقًا بقولِه: ﴿بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ لأنه أعظمُ أنواعِ الخروجِ عن طاعةِ اللَّهِ. ومنه بهذا المعنى قولُه: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ [السجدة: آية ٢٠] هذا الفسقُ بمعنَى الخروجِ الأكبرِ، أي: الخروج عن طاعةِ اللَّهِ بالكفرِ والعياذِ بالله.
النوعُ الثاني من أنواعِ الفسقِ: هو خروجٌ دونَ خروجٍ، وفسقٌ دونَ فسقٍ، بأن يخرجَ الإنسانُ عن طاعةِ اللَّهِ إلى المعصيةِ، خروجًا لا ينقلُه من اسمِ الإسلامِ إلى الكفرِ، كارتكابِ الكبيرةِ. ومنه بهذا المعنى قولُه في الْقَاذِفِينَ: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور: آية ٤] فهذا القذفُ خروجٌ عن طاعةِ اللَّهِ، ولم يبلغ بصاحبِه الكفرَ، بدليلِ قولِه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ﴾ [النور: آية ١١] ولم ينقلهم عن اسمِ المسلمين بسببِ قَذْفِهِمْ. ولا يُقَالُ: إن عبدَ اللَّهِ بنَ أُبَيٍّ منهم، وإنه منافقٌ كافرٌ؛ لأَنَّ دينَ الإسلامِ يحكمُ له بشهادةِ أن
الوجهُ الثاني: قالوا: إن الواضحَ الذي لا يَلْتَبِسُ على أحدٍ، وهو عبادةُ الأوثانِ، لا عذرَ فيها؛ لأن عَابِدِيهَا يعلمونَ في قرارةِ أنفسِهم أنها لا تنفعُ ولا تَضُرُّ، وأنها حجارةٌ، ومثل هذا لا يُعْذَرُ فيه أحدٌ؛ ولذا لَمَّا قال إبراهيمُ لقومِه: ﴿فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣)﴾ [الأنبياء: الآية ٦٣] أجابوه فقالوا: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاَءِ يَنْطِقُونَ (٦٥)﴾ [الأنبياء: الآية ٦٥] قالوا: والدليلُ على أنهم يعلمونَ أن الأصنامَ لاَ تنفعُ ولاَ تَضُرُّ، وأنها جماداتٌ لا يُعْذَرُ أحدٌ في عبادتِها: أنهم إذا نَزَلَتْ بهم شدائدُ، أو قامت عليهم كُرباتٌ تَرَكُوا دعاءَ الأصنامِ، وَأَخْلَصُوا الدعاءَ لِلَّهِ وحدَه؛ لأنهم يعرفونَ في أنفسِهم أنه النافعُ الضارُّ، الْمُحْيِي المميتُ، الذي بيدِه الخيرُ والشرُّ، والآياتُ الدالةُ على ذلك كثيرةٌ جِدًّا، كقولِه: ﴿وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ﴾ أي: وخافوا الهلاكَ في البحرِ ﴿دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [لقمان: الآية ٣٢] وقوله: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ﴾ أي: وَهَاجَتْ عليهم أمواجُ البحرِ، وَخَافُوا الهلاكَ: ﴿دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥)﴾ [العنكبوت: الآية ٦٥] وقولُه: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ﴾ [الإسراء: الآيات ٦٧ - ٦٩] وقال جل وعلا: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ
الكرام، أنهم جاءوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأن الله أجلسهم على هذا المكان المرتفع ليشرفوا على أهل النار وأهل الجنة على سبيل النزهة والتمتع بمعرفة أخبار الجميع، وما صار إليه أهل النار وأهل الجنة.
والذين قالوا هذا القول اختلفوا فيهم اختلافاً كثيراً، بعضهم يقول: ملائكة. وهذا لا يساعده ظاهر قوله: ﴿رِجَالٌ﴾ لأن الملائكة لا يُسَمَّوْن رجالاً. واحتجوا بقوله: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً﴾ [الأنعام: آية ٩] أنهم في صفة الرجال، أو أنهم أنبياء، أو أنهم الشهداء، إلى غير ذلك.
وزعم بعضهم أنهم مؤمنو الجن. كما ذكرنا أن العلماء اختلفوا في المؤمنين من الجن هل يدخلون الجنة (١)؟ فزعم بعضهم أن المؤمنين من الجن لا يدخلون الجنة، وإنما جزاؤهم الإجارة من العذاب الأليم كما صرحوا به في قوله تعالى عنهم في سورة الأحقاف عن الجن حيث قالوا: ﴿يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ الله وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٣١)﴾ [الأحقاف: آية ٣١] ولم يقولوا: يدخلكم الجنة. قالوا: فعلموا أنهم إن أجابوا داعي الله وأطاعوه كان جزاؤهم غفران الذنوب، والإجارة من العذاب الأليم، قالوا: وربما سمى الله الجن رجالاً أيضاً كقوله: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ﴾ [الجن: آية ٦] وقد قدمنا أن التحقيق أن المؤمنين من الجن يدخلون الجنة كالمؤمنين من الإنس، وأنه دل عليه بعض الآيات، كقوله مخاطباً للجن والإنس معاً: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (٤٦)﴾
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٣٨) من سورة الأنعام.
واعلموا أنّ العلماء اختلفوا في الممسوخين هل يمكن أن يكون لهم نسل وعقب (١)؟ اختلف العلماء في هذا، فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا مانع من أن يكون الممسوخون لهم نسلٌ وأعقاب، وأن يكون بعض الحيوانات من نسلهم. وممّن انتصر لهذا القول: ابن العربي المالكي.
واستدل أهل هذا القول ببعض الأحاديث الثابتة في الصحيح، منها حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما (رحمهما الله) أن النبي ﷺ قال: «فُقِدَتْ أُمَّةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ يُدْرَى مَا فَعَلَتْ». وفي رواية: «ولاَ أُرَى إِلاَّ أنَّهَا الفَأْرُ، أَلاَ تَرَوْنَ أَنَّهَا إِذَا وُضِعَتْ لهَا أَلْبَانُ الإِبِلِ لَمْ تَشْرَبْ، وَإِذَا وُضِعَتْ لَهَا أَلْبَانُ الشَّاءِ شَرِبَتْ» (٢) هذا حديث متفق عليه من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) ذكر فيه النبي ﷺ أن أمة من بني إسرائيل فُقدت، وأنه يظن أنَّهَا الفأر. والفأر هو الحيوان المعروف. واستدل على ذلك بأن أصل الإسرائيليين لا يشربون ألبان الإبل، ولا يأكلون لحومها، كما قدّمنا إيضاحه في سورة آل عمران في تفسير قوله: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾ [آل عمران: آية ٩٣] فقد ذكرنا سابقًا في تفسير هذه الآية أن المفسرين يقولون: إن نبي الله يعقوب -وهو إسرائيل- أصابه
_________
(١) انظر: تفسير القرطبي (١/ ٤٤٠ - ٤٤٣).
(٢) البخاري في بدء الخلق، باب: خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، حديث رقم (٣٣٠٥)، (٦/ ٣٥٠)، ومسلم في الزهد، باب: في الفأر وأنه مسخ، حديث رقم (٢٩٩٧)، (٤/ ٢٢٩٤)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وأطلق على اسم الحرم «المسجد الحرام»؛ لأنَّهُ مِنْ أهم أجْزَائِهِ، وهو أسلوبٌ عربي معروف (١)، ومن إطلاق المسجد الحرام على جميع الحرم: ﴿وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ [البقرة: آية ١٩١] أي: لا تقاتلوهم في جميع الحرم؛ ولأجل هذه الإطلاقات سيأتيكم أن قوله: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾ [التوبة: آية ٢٨] أنَّ المراد به لا يقربوا الحرم كلَّه بعد هذا العام. وهذا معنى قوله: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ﴾ في صلح الحديبية ﴿عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾.
﴿فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ﴾ (ما) مصدرية ظرفية، وهي منصوبة بـ «استقيموا» (٢)، أي: استقيموا لهم وأوفوا لهم بالعهد إلى تمام مُدَّتِهِمْ في جميع المدة التي استقاموا فيها لكم، ولا تبدؤوهم بنقض العهد. وهذا معنى قوله: ﴿فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ﴾ كما تقدم في قوله: ﴿فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ﴾ [التوبة: آية ٤] هذا معنى قوله: ﴿فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ﴾. والذين قالوا: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي قُرَيْش (٣). يظهر أَنَّ قَوْلَهُمْ خِلاف التحقيق؛ لأن قريشاً نقضوا العهد وحاربهم النبي ﷺ في فَتْحِ مَكَّةَ قَبْلَ نُزُولِ هذه الآيات مِنْ بَرَاءَة؛ لأنها نزلت عام تسع، وأرسل النبي بها عليَّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) بعد أبي بكر ينادي بها في الموسم عام تسع. وفي ذلك الوقت أهل مكة قد نقضوا قبل هذا بزمان، وغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم
_________
(١) سيأتي عند تفسير الآية (٢٨) من هذه السورة.
(٢) انظر: الدر المصون (٦/ ١٥).
(٣) انظر: ابن جرير (١٤/ ١٤٣).


الصفحة التالية
Icon