لاَ إلهَ إلاَّ اللَّهُ في الظاهرِ، فكانَ يحضرُ جُمُعَاتِ المسلمينَ وجماعاتِهم باسمِ الإسلامِ، فاللَّهُ (جل وعلا) يقبلُ من المنافقين كلمةَ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) ظاهرًا، كما أرادوا أن يخدعوه فهو يخدعُهم حيثُ يَقْبَلُهَا منهم ظاهرًا في الدنيا، وهو يُعِدُّ لهم في الآخرةِ الدركَ الأسفلَ من النارِ، كما في قولِه: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ [النساء: آية ١٤٢].
ومن هذا النوعِ من الفسقِ الذي لم يُخْرِجْ عن دينِ الإسلامِ: قولُه في قصةِ الوليدِ بنِ عقبةَ بنِ أَبِي مُعَيْطٍ لَمَّا كَذَبَ على بَنِي المصطلقِ (١):
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ الآية
_________
(١) القصة مشهورة، وقد رواها عدد من الصحابة والتابعين، إلا أن جميع طرقها لا تخلو من ضعف. وإليك من نُقلت عنهم هذه القصة على سبيل الاختصار:
١ - الحارث بن ضرار: عند أحمد (٤/ ٢٧٩)، والطبراني في الكبير (٣/ ٢٧٤)، وابن أبي حاتم في التفسير (١٠/ ٣٣٠٣)، والواحدي في أسباب النزول ص٣٩١، وابن عساكر في تاريخ دمشق (مختصر ابن منظور) (٢٦/ ٣٣٧)، وانظر: الهيثمي في المجمع (٧/ ١٠٨)، تفسير ابن كثير (٤/ ٢٠٨ - ٢٠٩)، الكافي الشاف ص١٥٦، (وعزاه لأحمد وابن مردويه)، الإصابة (١/ ٢٨١)، (٣/ ٦٣٨)، الدر المنثور (٦/ ٨٧)، (وعزاه لأحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وابن مردويه) تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي (٣/ ٣٣٣).
٢ - علقمة بن ناجية. عند الطبراني في الكبير (١٨/ ٦ - ٧)، وانظر: مجمع الزوائد (٧/ ١٠٩ - ١١٠)، الإصابة (٢/ ٥٠٦)، أُسد الغابة (٤/ ٨٨)، الدر المنثور (٦/ ٨٨)، (وعزاه لابن منده والطبراني وابن مردويه).
٣ - جابر بن عبد الله. عند الطبراني في الأوسط (٤/ ٤٧٧ - ٤٧٨)، وانظر: مجمع الزوائد (٧/ ١١٠)، الكافي الشاف ص١٥٦، تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي (٣/ ٣٣٤)، الدر المنثور (٦/ ٨٨)، الفتح السماوي (٣/ ١٠٠٢).
٤ - أم سلمة. عند الطبراني في الكبير (٢٣/ ٤٠٠ - ٤٠١)، وراجع (٢٣/ ٢٩٠)،... وابن جرير (٢٦/ ١٢٣)، وانظر: الهيثمي في المجمع (٧/ ١١٠)، تفسير ابن كثير (٤/ ٢٠٩)، الكافي الشافي ص١٥٦، (وعزاه لإسحاق والطبراني)، والزيلعي في تخريج أحاديث الكشاف (٣/ ٣٣٢)، الدر المنثور (٦/ ٨٨)، (وعزاه لإسحاق بن راهويه وابن جرير والطبراني وابن مردويه)، الفتح السماوى (٣/ ١٠٠١).
٥ - ابن عباس. عند عبد الرزاق في التفسير (٢/ ٢٣١)، والبيهقي في السنن الكبرى (٩/ ٥٤)، وابن جرير (٢٦/ ١٢٣ - ١٢٤)، وانظر: ابن كثير (٤/ ٢٠٩)، الدر المنثور (٦/ ٨٨)، (وعزاه لابن جرير وابن مردويه والبيهقي في السنن وابن عساكر).
٦ - مجاهد. عند ابن جرير (٢٦/ ١٢٤)، البيهقي في الكبرى (٩/ ٥٥)، وانظر: مجمع الزوائد (٧/ ١١١)، (وعزاه للطبراني)، الاستيعاب (٣/ ٦٣٢)، ابن كثير (٤/ ٢١٠)، الإصابة (٣/ ٦٣٨)، الدر المنثور (٦/ ٨٨)، (وعزاه لآدم وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي).
٧ - قتادة عند ابن جرير (٢٦/ ١٢٤)، وانظر: الاستيعاب (٣/ ٦٣٢)، تفسير ابن كثير (٤/ ٢١٠)، الإصابة (٣/ ٦٣٧ - ٦٣٨)، الدر المنثور (٦/ ٨٩)، (وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير).
٨ - عكرمة. انظر: الإصابة (٣/ ٦٣٨)، الدر المنثور (٦/ ٨٩)، (وعزاه لعبد بن حميد).
٩ - ابن أبي ليلى: انظر: الاستيعاب (٣/ ٦٣٢).
وهو مروي عن غير هؤلاء مثل: يزيد بن رومان، والضحاك، ومقاتل بن حيان، كما في ابن جرير (٢٦/ ١٢٤)، عبد الرزاق في التفسير (٢/ ٢٣١)، وابن كثير (٤/ ٢١٠).
مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ
أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يونس: الآيتان ٢٢، ٢٣] والآياتُ في مثل هذا كثيرةٌ، ومعلومٌ في التاريخِ أن سببَ إسلامِ عكرمةَ بنِ أبي جهلٍ رضي الله عنه: أن النبيَّ - ﷺ - لَمَّا فَتَحَ مكةَ خَرَجَ عكرمةُ بنُ أَبِي جهلٍ لشدةِ عداوتِه للنبيِّ - ﷺ -؛ لأنه قَتَلَ أَبَاهُ يومَ بدرٍ. شَرَدَ هاربًا إلى الحبشةِ، فَرَكِبَ في قومٍ سفينةً من البحرِ الأحمرِ إلى الحبشةِ، فَلَمَّا تَوَسَّطُوا دَاخِلَ البحرِ هَاجَتْ عليهم الريحُ، وَاضْطَرَبَتْ أمواجُ البحرِ، ورأوا الهلاكَ، وَظَنُّوا الموتَ، فإذا جميعُ مَنْ في السفينةِ يَتَنَادَوْنَ ويقولونَ من أطرافِ السفينةِ: أَلاَ فَلْيَحْذَرْ كُلُّ أحدٍ منكم أن يدعوَ في هذا الوقتِ غيرَ اللَّهِ؛ فإنه لا يُنْقِذُ من هذه الكرباتِ إلا هو وحدَه، فَفَهِمَهَا عكرمةُ، ثم قال: وَاللَّهِ إن كانَ لا ينقذُ من كرباتِ البحرِ إلا هو، فلاَ ينقذُ من ظلماتِ البرِّ إلا هو. ثم قال: اللَّهُمَّ لكَ عَلَيَّ عَهْدًا إن أنقذتني من هذه لأَضَعَنَّ يدي في يدِ محمدٍ - ﷺ - فَلأَجِدَنَّهُ رَؤُوفًا رحيمًا. فهدأ البحرُ وسكنوا، فرجعَ إلى النبيِّ - ﷺ - وَأَسْلَمَ، وصارَ من فضلاءِ الصحابةِ (١). قالوا: كونُ الكفارِ يعلمونَ أن اللَّهَ هو النافعُ الضارُّ، وأن الأصنامَ جماداتٌ لا تنفعُ ولا تضرُّ، وأنهم إذا كان وقتُ الشدائدِ لجؤوا إلى مَنْ بِيَدِهِ الأمرُ والنهيُ، هذا يدلُّ على أنهم غيرُ مَعْذُورِينَ في عبادةِ الأوثانِ.
الوجهُ الثالثُ: زعموا أن عندَهم بقيةُ نذارةٍ من إرثِ دينِ إبراهيمَ والرسلِ الذين أُرْسِلُوا قَبْلَ محمدٍ - ﷺ -.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٠ - ٤١) من سورة الأنعام.
[الرحمن: آية ٤٦] ثم بين شمول الوعد بهاتين الجنتين للإنس والجن معاً فقال بعده: ﴿فَبِأَيِّ آلاَء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: آية ٤٧] وهو خطاب للإنس والجن بالإجماع كما بَيَّنَّا.
وقول من قال: إن أصحاب الأعراف من أعظم أهل الجنة رتباً، أو أنهم ملائكة لا يتجه كل الاتجاه؛ لأنه يشير إلى عدم اتجاهه قوله: ﴿لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾ [الأعراف: آية ٤٦] على التحقيق من أنها في أصحاب الأعراف؛ لأن الملائكة وخيار أهل الجنة لا يناسب أن يقال فيهم: ﴿لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾ وإن احتج من قال هذا بأن العرب قد تطلق الطمع على اليقين، إلا أنه ليس بالإطلاق المعروف المشهور الذي يجب حمل القرآن عليه.
وأقوال العلماء في هذا كثيرة، أظهرها الذي عليه الجمهور من الصحابة فَمَنْ بَعْدَهم أن أصحاب الأعراف رجال منعتهم حسناتهم من دخول النار، ومنعتهم سيئاتهم من دخول الجنة، ولم يكن هنالك رجحان للحسنات على السيئات، ولا للسيئات على الحسنات. وظاهر القرآن أنهم كلهم ذكور؛ لأنه قال: ﴿رِجَالٌ﴾ ولم يقل (نساء). والمقرر في الأصول: أن لفظة (الرجال) لا يدخل فيها النساء (١). وقال بعض العلماء: إذا ذكر الرجال فلا مانع من دخول النساء بحكم التبع. واستأنسوا لهذا بأن العرب تسمي المرأة (رجلة)، وتسمية المرأة (رجلة) لغة صحيحة معروفة في كلام العرب، ومنه قول الشاعر (٢):
_________
(١) انظر: شرح الكوكب المنير (٣/ ٢٣٤)، المذكرة (٢١٢).
(٢) البيتان في اللسان (مادة: رجل) (١/ ١١٣٢).
مرض عرق النَّسَا فنذر لله إن شفاه الله ليتركن لله أحب الطعام والشراب إليه، فكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها، فحرمهما على نفسه. ويقولون: إن هذا النوع من النذر كان جائزًا في شرعه، وأن اليهود صارت لا تشرب ألبان الإبل ولا تأكل لحومها. وأن الفأر لا يشرب لبن الإبل ولكنه يشرب لبن الشاء، أي: الغنم!! فكان النبي ﷺ ظن أنه مُسخ. وعلى أن الفأر مَسْخٌ فالفأر يتناسل.
ومما استدل به أهل هذا القول: ما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر (رضي الله عنه) أن النبي ﷺ أُتي بِضَب فأبَى أنْ يَأْكُلَهُ وقال: «لَعَلَّهُ مِنَ القُرُونِ الأولَى الَّتِي مُسِخَتْ» (١) وهذا الحديث الذي رواه مسلم عن جابر روى مسلم أيضًا نحوه عن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنهم) (٢). فهذا الحديث المتفق عليه، وحديث مسلم هذا كان النبي ﷺ جوّز فيه أن يتناسل الممسوخ.
وذهب آخرون من العلماء إلى أن الممسوخ لا يعيش فوق ثلاثة أيام، ولا يشرب ولا يأكل، ولا يكون له نسل ولا عقب. واستدل أهل هذا القول بما أخرجه مسلم في صحيحه من رواية عبد الله بن مسعود عن النبي ﷺ أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ لمْ يَجْعَلْ لِمَسْخٍ نَسْلاً وَلاَ عَقِبًا» (٣) هذا لفظ النبي ﷺ في صحيح مسلم من حديث
_________
(١) مسلم في الصيد والذبائح، باب إباحة الضب، حديث رقم (١٩٤٩)، (٣/ ١٥٤٥)، من حديث جابر (رضي الله عنه).
(٢) مسلم في الصيد والذبائح، باب إباحة الضب، حديث رقم (١٩٥١)، (٣/ ١٥٤٦)، من حديث أبي سعيد (رضي الله عنه).
(٣) مسلم في القدر، باب: بيان أن الآجال والأرزاق وغيرها لا تزيد ولا تنقص عما سبق به القدر، حديث رقم (٢٦٦٣)، (٤/ ٢٠٥٠).
وفتح مكة عنوة على التحقيق، وظفر بهم، وسمُّوا الطلقاء، وأعْطَى عَهْداً لمنْ أراد منهم أن يتربَّص كصفْوان بن أميَّة ومَنْ فِي مَعْنَاه. وهذا معنى قوله: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ﴾.
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ ويدخل في المتقين دخولاً أوَّلِيّاً: الذين لا ينقضون العهود ويوفون بالعهود؛ لأن الوفاء بالعهد وعدم نقضه ونكثه من تقوى الله (جلّ وعلا)، والمتصف بالتقوى يحبّه الله. وهذا معنى قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾.
﴿كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (٨)﴾ [التوبة: آية ٨].
هذا تأكيدٌ بعد تأكيد؛ لأن حكم الله بنبذ العهود إلى الكفار أمرٌ في غاية الإحكام والصواب واقعٌ في موقعه، موضوعٌ في موضعه، والفعل هنا محذوف دلَّ ما قبله عليه (١). أي: كيف يكون لهم عهدٌ عند الله وعند رسوله وحالهم أنهم ﴿إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ﴾ أي: إن يغلبوكم ويقهروكم ويجدوا فرصة يهينونكم بها لا يراعون فيكم العهود ولا الذمم، ولا يراعون شيئاً، بل يقتلونكم، فمن كانوا بهذه المثابة مِنَ الغَدْرِ والمَكْرِ والخِيَانَةِ وسوء الطوايا والنيات، نَبْذ عُهُودِهِمْ إلَيْهِمْ هو أمْرٌ في غاية الحكمة والإصابة. وهذا معنى قوله: ﴿كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا﴾ كيف يكون لهم -للمشركين- عهد والحال أنهم إن يظهروا، وقد عُلِمَ من اللغة العربية أن العرب رُبَّما تحذف الفعل بعد (كيف) إذا تقدم ما يدلّ عليه؛ لأن (كيف) هنا حُذف بعدها
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٤/ ١٤٥)، القرطبي (٨/ ٧٨).


الصفحة التالية
Icon