[الحجرات: آية ٦].
وهذا معنى قولِه: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [الأنعام: آية ٤٩] ومسيسُ العذابِ هذا: هو الذي
الوجهُ الرابعُ: هو ما ذَكَرْنَا من الأحاديثِ عن النبيِّ - ﷺ -، من أنه ذَكَرَ أن بعضَ أهلِ الفترةِ في النارِ.
وأجابَ القائلونَ [بِعُذْرِهِمْ بالفترةِ] (١) عن هذه الأوجهِ الأربعةِ رَادِّينَ لها، مُجِيبِينَ عن كُلِّ وَاحِدٍ، فقالوا: قولكم: «إِنَّ الْعَذَابَ يَخْتَصُّ بِالدُّنْيَا». فالدليلُ على أنه باطلٌ أَمْرَانِ:
أحدُهما: أنه خلافُ ظاهرِ القرآنِ، واللَّهُ لم يُخَصِّصْ بعذابِ الدنيا دونَ عذابِ الآخرةِ. فلم يَقُلْ: وما كنا مُعَذِّبِينَ في الدنيا. حتى تقصروا الظاهرَ عليه، وظاهرُ القرآنِ لا يجوزُ العدولُ عنه إلا بدليلٍ يجبُ الرجوعُ إليه (٢)، ولا دليلَ عندكم من ظاهرِ القرآنِ.
الوجهُ الثاني قالوا: إِنَّ اللَّهَ صَرَّحَ لنا في كتابِه أن الذين عَذَّبَهُمْ في النارِ أَنْذَرَهُمْ في دارِ الدنيا على ألسنةِ رُسُلِهِ، كقولِه: ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قَالُوا بَلَى﴾ [الملك: الآيتان ٨، ٩] إلى آخِرِ الآياتِ التي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا.
وَأَجَابُوا عن كونِ الأمرِ الواضحِ لا عُذْرَ فيه بِأَمْرَيْنِ:
أحدُهما: أن ظاهرَ القرآنِ لم يُفَرِّقْ بَيْنَ الأمرِ الواضحِ وغيرِه، ولا يجوزُ العدولُ عن ظاهرِه إلا بدليلٍ.
الثانِي: أن اللَّهَ صَرَّحَ بأنه ما عَذَّبَ على ذلك الأمرِ الواضحِ أَحَدًا إلا بعدَ إنذارِ الرسلِ في دارِ الدنيا: ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قَالُوا بَلَى﴾ [الملك: الآيتان ٨، ٩].
أما قولُ مَنْ قَالَ: إنهم كانت عندهم بقيةُ نَذَارَةٍ مِنْ نَذَارَةِ
_________
(١) ما بين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٦) من سورة البقرة.
كُلُّ جَارٍ ظَلَّ مُغْتَبِطاً... غَيْرَ جِيرَانِ بَنِي جَبَلَهْ...

مَزَّقُوا ثَوْبَ فَتَاتِهُم لمْ يُراعُوا حُرْمَةَ الرّجُلَهْ
يعني: المرأة. وقوله: ﴿وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ﴾ [الأعراف: آية ٤٦] جملة حالية.
﴿يَعْرِفُونَ كُلاًّ﴾ [الأعراف: آية ٤٦] التنوين تنوين عوض ﴿كُلاًّ﴾ من أهل الجنة وأهل النار.
﴿بِسِيمَاهُمْ﴾ السيما في اللغة: العلامة التي يُميَّز بها الشيء عن غيره (١). فسيما أهل الجنة: ابيضاض الوجوه، ونضرة النعيم، والحُسن، وسيما أهل النار: اسْوِدَاد الوجوه، والقبح، والتشويه الخلقي بأكل النار لهم والعياذ بالله ﴿يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ﴾ [الأعراف: آية ٤٦].
ثم بين الله أن أصحاب الأعراف ربما نظروا تارة إلى الجنة، وربما أُجبروا على النظر إلى أهل النار؛ لأن منظر النار فظيع جدّاً، لا ينظر إليه أحد باختياره، ولذا قال: ﴿وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ﴾ [الأعراف: آية ٤٦] إذا نظروا إلى أهل الجنة وما هم فيه من النعيم حيوهم تحية كريمة، نادوهم من مكانهم: ﴿أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الأعراف: آية ٤٦] ومعنى: ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ﴾ سلمتم من جميع الآفات، وصرتم في مأمن من كل ما يؤذي. وهذه (٢) تحية الإسلام: (السلام عليكم) لأن (السلام) معناه السلامة من كل الآفات (عليكم)، وهي أحسن تحية يُحيَّا بها، تحية الإسلام أحسن من تحيات الجاهلية وتَحَايا الملوك.
_________
(١) انظر: المفردات (مادة: سام) ص٤٣٨.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة الأنعام.
ابن مسعود، نفى عنه النسل والعقب، وكان أبو عبد الله القرطبي (رحمه الله) في تفسير سورة البقرة (١) في الكلام على قوله: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ﴾ [البقرة: آية ٦٥] يقول: إن الصحيح أن التحقيق أن الممسوخ لا يولد له، ولا يكون له نسل ولا عقب، ولا يعيش، وأن هذا الحديث الثابت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود، الذي أخرجه مسلم في كتاب القدر يدل على أنّ النبي ﷺ كان في أول الأمر يظن بعض الشيء، وأن الله علّمه فجزم بأنه لا يكون له نسل ولا عقب. وهذا أظهر وأقرب، وقد بيّن النبي ﷺ في حديث مسلم هذا الأخير المذكور من حديث ابن مسعود أن القِرَدَة والخنازير كانوا موجودين قبل مَسْخِ بَنِي إِسْرَائِيل، وهذا هو الأقرب، والله تعالى أعلم. وهذا معنى قوله: ﴿فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (١٦٦)﴾ [الأعراف: آية ١٦٦].
القردة: جمع القرد، وهو الحيوان المعروف، وهو مِنْ أَخَسّ الحيوانات، والدليل على أنه من أخس الحيوانات أن الله مسخ في صورته من أراد إذلالهم وإهانتهم وصَغَارَهم، وهذا معروف أن القرد من أخس الحيوانات. وقد قال الشاعر (٢):
قَدْ يُكْرَمُ القِرْدُ إِعْجَابًا بِخَسَّتِهِ وَقَدْ يُهانُ لِفَرطِ النخوةِ الأَسَدُ
﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (١٦٧)﴾ [الأعراف: آية ١٦٧].
_________
(١) القرطبي (١/ ٤٤١ - ٤٤٢).
(٢) البيت لأبي الفضل الغسَّاني الجلياني، وهو في تُحفة القادم لابن الأَبَّار ص١٢٩، وعيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أُصَيْبِعة ص٦٣٤، ومسالك الأبصار في ممالك الأمصار للعدوي (٩/ ٥٠٤). وفي جميع المصادر: (السَّبُع) في موضع (الأسد) هنا.
قوله: ﴿كَيْفَ﴾ يكون لهم عهدٌ عند الله وعند رسوله والحال أنهم وغِرَةٌ صدورهم، حرب أضداد ﴿وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً﴾ ونظير هذا من كلام العرب في حذف الفعل بعد كيف إذا دَلَّ المَقَام عليه قول الشاعر (١):
وَخَبَّرْتُمَاني أنَّمَا الموْتُ بالقُرَى فَكَيْفَ وهَاتَا هَضْبَةٌ وقَلِيبُ
ويُروى: «فكيف وهاتا هضبة وكثيب»، هذا قاله بدويّ أعرابي قال له قوم: إن القرى والمدن والحضر فيها الوباء، يموت الناس فيها غالباً. والصحة أجود في الصحاري؛ لأن أهلها أقلّ موتاً!! فخرج إلى الصحراء، فلما خرج إلى الصحراء فإذا قَبْرٌ في الصحراء بجنب كثيب وهضبة فقال:
وَخَبَّرْتُمَاني أنَّمَا الموتُ بالقُرى فكيفَ وهَاتَا هَضْبَةٌ وقَلِيبُ
أي: فكيف مات هذا وهو في البادية وليس في القرى؟ وهذا معنى قوله: ﴿كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ﴾ ﴿يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ﴾ معناه: يغلبوكم وينتصروا عليكم، تقول العرب: ظهروا عليهم: إذا غلبوهم وانتصروا عليهم. ومنه قوله تعالى: ﴿فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾ [الصف: آية ١٤] أي غالبين منتصرين؛ لأن أصل (ظَهَره): علاه فطلع على ظهره، والغالب كأنه يعلو المغلوب حتى يقف على ظهره، ومنه قوله: ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ﴾ أي: يعلوا ظهره (٢) ﴿وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً﴾ [الكهف: آية ٩٧]. كيف يكون
_________
(١) البيت لكعب بن سعد الغنوي، وهو في ابن جرير (١٤/ ١٤٥)، القرطبي (٨/ ٧٨).
(٢) انظر: القرطبي (٨/ ٧٨).


الصفحة التالية
Icon