أَنْذَرَتْهُمُ به الرسلُ في دارِ الدنيا إن لَمْ يُقْلِعُوا عن ذلك التكذيبِ والكفرِ، كما في قولِه هنا: ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ [الأنعام: آية ٤٨].
﴿قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: آية ٥٠].
أولُ الرسلِ الذين أُرْسِلُوا إلى أهلِ الأرضِ بعدَ أن وقعَ فيهم الكفرُ والشركُ بِاللَّهِ: هو نَبِيُّ اللَّهِ نوحٌ، كما قَدَّمْنَا في قولِه: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [النساء: آية ١٦٣].
فَدَلَّ على أنه أولُ ذلك النوعِ الذي يُرْسَلُ إلى الناسِ بعدَ أن كَفَرُوا، وآخرُهم: محمدٌ - ﷺ -. فَاللَّهُ قال لأَوَّلِهِمْ في سورةِ هودٍ: ﴿وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا﴾ [هود: آية ٣١] ومثلُ هذه القصةِ بعينِها كانت فيما أُنْزِلَ على محمدٍ - ﷺ - حيث قَالَ: ﴿قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ﴾ [الأنعام: آية ٥٠] قل لهم يَا نَبِيَّ اللَّهِ: لاَ أَدَّعِي لكم دَعْوى بعيدةً ولا كاذبةً، ولا أَخْرُجُ لكم عن طَوْرِي وَحَقِيقَتِي، لا أقولُ لكم: إن عندي خزائنَ اللَّهِ.
والخزائنُ: جمعُ الخزانةِ، وهي المحلُّ الذي تُخْزَنُ فيه الأرزاقُ ونحوُها (١)، فخزائنُ الملوكِ مثلاً: المحلُّ الذي يجعلونَ فيه العدةَ من الطعامِ والسلاحِ وما جَرَى مجرَى ذلك. وَكُلُّ شيءٍ عندَ اللَّهِ في خزانةٍ؛ [لأن الأشياءَ كُلَّهَا في خزائنِ اللَّهِ] (٢)
_________
(١) انظر: المفردات (مادة: خزن) ص ٢٨٠، القرطبي (٦/ ٤٣٠).
(٢) في الأصل: ((لأن الله جميع الأشياء كلها في خزائنه)).
إبراهيمَ وغيرِه من الرسلِ الذين كانوا قَبْلَ نَبِيِّنَا - ﷺ -، فهذا الوجهُ جَزَمَ به النوويُّ في شرحِ مسلمٍ (١)، وَمَالَ إليه ابنُ قاسمٍ العباديُّ في الآياتِ البيناتِ (٢)، وهو قولٌ باطلٌ بشهادةِ القرآنِ، وأنا أستغربُ كيف يقولُه عالمٌ كالعباديِّ والنوويِّ؟! مع أن الآياتِ القرآنيةَ صريحةٌ في بطلانِه غايةَ الإبطالِ؛ لأن معناه أن الأُمَّةَ التي بُعِثَ فيها النبيُّ كان مَنْ مَاتَ منها يُعَذَّبُ بسببِ نَذَارَةِ إبراهيمَ، وَاللَّهُ يصرحُ فِي آياتٍ كثيرةٍ أن الأمةَ التي بَعَثَ فيها مُحَمَّدًا - ﷺ - لَمْ تَكُنْ عندَها نذارةٌ أَلْبَتَّةَ مِنْ أَحَدٍ، من ذلك قولُه في سورةِ (يس): ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَّا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ﴾ [يس: الآية ٦] و (ما) في قولِه: ﴿مَّا
أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ﴾
نافيةٌ قَطْعًا. وَمَنْ قال: إنها موصولةٌ فهو غالطٌ. والدليلُ على أنها نافيةٌ أنه قال: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَّا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (٦)﴾ [يس: الآية ٦] ولو كانت موصولةً لَمَا قال: ﴿فَهُمْ غَافِلُونَ (٦)﴾. ومنها قولُه في سورةِ القصصِ: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ﴾ [القصص: الآية ٤٦] فَصَرَّحَ بأنهم ما أتاهم مِنْ نذيرٍ، وقد تَقَرَّرَ فِي علمِ الأصولِ: أن النكرةَ في سياقِ النفيِ إن زِيدَتْ قبلَها لفظةُ (مِنْ) كانت نَصًّا صريحًا فِي العمومِ (٣)، وقاله شيخُ النحوِ سيبويه (٤) إنها إن زِيدَتْ قَبْلَهَا (مِنْ) كانت صَرِيحًا في العمومِ، فهي تَعُمُّ نَفْيَ كُلِّ نَذِيرٍ. ومنه قولُه تعالى فِي سورةِ سبأ: ﴿وَمَا آتَيْنَاهُم مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ (٤٤)﴾ [سبأ: الآية ٤٤] ومنه قولُه في سورةِ
_________
(١) انظر: شرح مسلم (١/ ٤٨٢).
(٢) انظر: الآيات البينات (٤/ ٢٦٢).
(٣) مضى عند تفسير الآية (٣٨) من سورة الأنعام.
(٤) الكتاب (٢/ ٣١٥، ٣١٦)، (٤/ ٢٢٥).
فأحسن تحية هي تحية الإسلام. (السلام عليكم) معناه: سلمكم الله من جميع الآفات، ومن كل شيء يؤذيكم. وكان الجاهلية يُحيُّون فيقولون: حياك الله، و (حياك الله): أطال الله حياتك. ومن ذلك قيل للسلام: تحية؛ لأن التحية مصدر: حَيَّاه يحيِّيه تحية. أصلها: (تَحْيِيَة) لأن المُقَرَّرَ في فن التصريف أن (فعَّل) مُضعَّفة العين إذا كانت معتلة اللامَ ينقاس مصدرها على (التَّفْعِلة) كزكاه تزكية، ونَمَّاهُ تنمية، وحيَّاه تَحْييَة، إلا أن الياء أُدغمت في الياء فقيل: (تحية) (١). ومعنى: (حيَّاك الله): أطال الله حياتك. ومطلق الدعاء بطول الحياة لا يستلزم الخير؛ لأن الإنسان قد تكون حياته تعسة نَكِدَة يتمنى أن يستريح منها بالموت، فرب حياة يفضل صاحبها عليها الموت، كما قال بعض المتأخرين (٢):

أَلاَ مَوْتٌ يُبَاعُ فَأَشْتَرِيهِ فَهَذَا العَيْشُ مَا لاَ خَيْرَ فِيهِ
أَلاَ رَحِمَ المُهَيْمِنُ نَفْسَ حُرٍّ تَصَدَّقَ بِالوَفَاةِ عَلَى أَخِيهِ
فهذا يريد من يتصدق عليه بالموت تفضيلاً لها على حياته. ومنه الأبيات المعروفة، قيل إنها للأعشى ميمون بن قيس، وقيل لغيره (٣):
المَرْءُ يَرْغَبُ فِي الحَيَا ةِ وَطُولُ عَيْشٍ قَدْ يَضُرُّهْ
تَفْنَى بَشَاشَتُهُ وَيَبْـ قَى بَعْدَ حُلْوِ العَيْشِ مُرُّهْ
وَتَسُوؤُهُ الأَيَّامُ حَـ ـتَى مَا يَرَى شَيْئاً يَسُرُّهْ
كَمْ شَامِتٍ بِي إِذْ هَلَكْـ تُ وَقَائِلٍ للهِ دَرُّهْ
_________
(١) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص٩٣.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة الأنعام.
(٣) السابق.
(تأذن) تفعَّل من الأذان، والأذان في لغة العرب: الإعلام، ومنه أذان الصلاة؛ لأنه الإعلام بدخول وقتها مع الدعاء لها، وقد قال تعالى: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ﴾ [التوبة: آية ٣] والعرب تقول: آذنني: أعلمني. ومنه قول الحارث بن حِلِّزَة اليشكري (١):
آذَنَتْنَا بِبَيْنِها أسماءُ ربَّ ثاوٍ يُمَلُّ منه الثواءُ
فتأذن معناه تَفَعَّل من الأذان بمعنى الإعلام، أي: أعلم الله الخلق. وقال بعض العلماء (٢): (تأذن) بناء هذا الفعل على (تفعّل) يجعله كأفعال القسم. ولذا جاء اللام في قوله: ﴿لَيَبْعَثَنَّ﴾ معناه أعلم الله جل وعلا. وهذا الإعلام في معنى القسم، أو كأنه مؤكد بالقسم بدليل اللام في قوله: ﴿لَيَبْعَثَنَّ﴾.
﴿لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ﴾ أي: ليسلطن عليهم، أي: اليهود ﴿مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾ يسومهم معناه: يُذيقهم سوء العذاب. العرب تقول: سامه العذاب: إذا أذاقَهُ إِيَّاهُ وعَذَّبَهُ به، وهو معنىً معروف في كلام العرب، ومنه قول عمرو بن كلثوم في معلَّقَتِه (٣):
إذا مَا المَلْكُ سَامَ الناسَ خَسْفًا أبيْنا أن نُقِرَّ الذُّلَّ فينَا
﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ يوم القيامة إنما سُمي يوم القيامة؛ لأن الناس يقومون فيه لخالق السماوات والأرض، كما قال جل وعلا: ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٦)﴾ [المطففين: آية ٦] وقيل له (القيامة) كما قيل
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٢٨) من سورة الأنعام.
(٢) انظر: الدر المصون (٥/ ٥٠٠ - ٥٠١).
(٣) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (٤٩) من سورة البقرة.
لهم عهد وهم بهذه المثابة من خبث النيّات والطويّات، وشدة العداوة، وغِرَةٌ صدورهم، والحال ﴿إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ﴾ أي: يغلبوكم ويقهروكم وينتصروا عليكم ﴿لاَ يَرْقُبُواْ﴾ أي: لا يراعوا فيكم.
﴿إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً﴾ ولا يحفظوا لكم ﴿إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً﴾ اعلموا أن المراد بـ (الإلّ) هنا فيه لعلماء التفسير أقوالٌ متقاربة (١):
قال بعض العلماء: (الإلُّ) اسم الله بالعبرانية. واستأنسوا لهذا ببعض القراءات الشاذة: (لا يرقبوا فيكم إِيْلاً ولا ذمة) (٢) والإيل من أسماء الله بالعبرية. فجبرائيل معناه: عبد الله، وإسرافيل: عبد الله، وإسرائيل: عبد الله. وهذا القول قال به جماعة من العلماء، أن (الإيل والإلّ) تطلق على الله، ومعروفٌ في قصة أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) أنه لما جاءه قوم من أصحاب مسيلمة الكذَّاب وقال لهم: اقرؤوا علي مما يدّعي أنه ينزل عليه. فقرءوا عليه شيئاً مِنْ تُرَّهَاتٍ مسيلمة الكذَّاب، فقال: أنتم تعلمون أن هذا لم يخرج من إلّ، أن هذا كلام لم يصدر من الله. وعلى هذا القول فالمراد: إن يظهروا عليكم ويغلبوكم لا يراقبوا فيكم الله، ولا يراعوا فيكم الله، ولا العهود. هذا قال به قوم.
وقالت جماعات من العلماء: (الإلّ) هنا المراد به القرابة، أي: لا يراعون فيكم قرابة، بل يقتلونكم وإن كنتم من قراباتهم. وبهذا قال جماعات من علماء التفسير، وإطلاق الإلِّ على القرابة
_________
(١) انظر: أبن جرير (١٤/ ١٤٦ - ١٤٩)، القرطبي (٨/ ٧٩)، الدر المصون (٦/ ١٧ - ٢٠).
(٢) انظر: المحتسب (١/ ٢٨٣).


الصفحة التالية
Icon