(جل وعلا)، كما سيأتي في قولِه: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾ [الحجر: آية ٢١] لا أقولُ لكم: إِنَّ بِيَدِي الأرزاقُ والآياتُ، وما اقترحتُم من كُلِّ شيءٍ، وخزائنُ الأمورِ ليست بِيَدِي، وإنما هي بيدِ اللَّهِ، وإنما أنا عبدٌ أُرْسِلْتُ إليكم [لأُبَشِّرَ] مَنْ أَطَاعَنِي بالجنةِ، [وَأُنْذِرَ] مَنْ عَصَانِي بالنارِ (١)، وأبلغُكم رسالاتِ رَبِّي، وأوضحُ لكم طريقَ الخيرِ والشرِّ، وأقيمُ لكم المعجزاتِ الواضحاتِ التي لا تَتْرُكُ لِمُنْصِفٍ في صِدْقٍ شَيْئًا؛ وَلِذَا قال: ﴿قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ الجمهورُ مِنَ العلماءِ على أن هذا معطوفٌ على ما قَبْلَهُ (٢)، وأنه من جملةِ مَا أُمِرَ أن يقولَه. وتقريرُ المعنى: قُلْ لهم أيضًا: لا أَعْلَمُ الغيبَ. كما قال اللَّهُ له: ﴿قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾ [الأعراف: آية ١٨٨] ﴿وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ﴾ بل أقولُ لكم: إني رجلٌ ابنُ رجلٍ وابنُ امرأةٍ، أذهبُ إلى السوقِ، وأشتري منه حَاجَتِي.
لأنهم قالوا: ﴿مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ﴾ [الفرقان: آية ٧] كيف يُرْسِلُ اللَّهُ مَنْ يَأْكُلُ ويشربُ، ويروحُ إلى السوقِ؟ وَاللَّهُ يقولُ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ﴾ [الفرقان: آية ٢٠] ﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ﴾ [الأنبياء: آية ٨] هذه سنةُ اللَّهِ في رُسُلِهِ.
_________
(١) في الأصل: «لأنذر من أطاعني بالجنة، وأبشر من عصاني بالنار» وهو سبق لسان.
(٢) انظر: البحر المحيط (٤/ ١٣٤)، الدر المصون (٤/ ٦٣٨).
السجدةِ: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ﴾ [السجدة: الآية ٣] إِذِ اللَّهُ تعالى يُصَرِّحُ بأنهم لم يَأْتِهِمْ نذيرٌ، فليسَ لأحدٍ أن يقولَ: إن [١٨/أ] عندهم نَذَارَةٌ باقيةٌ يُعَاقَبُونَ /عليها. ويقول: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ﴾ [المائدة الآية ١٩] فَصَرَّحَ بأنها فَتْرَةٌ.
أما الوجهُ الرابعُ، وهو ذَكَرَتْهُ بعضُ الأحاديثِ، كحَدِيْثَي مسلمٍ الذي ذَكَرْنَا، وهو محلُّ مناقشةٍ طويلةٍ عريضةٍ بَيْنَ العلماءِ.
أجابَ المخالفونَ قالوا: حَدِيثَا مُسْلِمٍ هما خَبَرَا آحَادٍ، فلا يُقَدَّمَانِ على القاطعِ؛ لأَنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء: الآية ١٥] دليلٌ قاطعٌ متواترٌ محفوظٌ لا يمكنُ أن يكونَ كَذِبًا بِحَالٍ، وهو صريحُ الدلالةِ ظاهرُها، وحديثُ مسلمٍ وما جَرَى مَجْرَاهُ أخبارُ آحَادٍ، والمتواتراتُ تُقَدَّمُ على الآحادِ.
وَأَجَابَ المخالفونَ عن هذا، قالوا: لاَ نُسَلِّمُ هذا؛ لأن حَدِيثَيْ مُسْلِمٍ ونحوِهما أحاديثُ خاصةٌ، والآياتُ التي ذَكَرْتُمْ عامةٌ، والخاصُّ مُقَدَّمٌ على العامِّ؛ لأن المقررَ في الأصولِ: أنه لاَ يتعارضُ عَامٌّ وَخَاصٌّ، بل يُقَدَّمُ الخاصُّ على العامِّ، إلا عندَ الإمامِ أبِي حنيفةَ - رحمه الله (١) - فإن المقررَ في أصولِه: أن الخاصَّ لاَ يُقَدَّمُ على
_________
(١) في مسألة تقديم الخاص على العام انظر: الفروق للقرافي (١/ ٢٠٩ - ٢١٢)، البرهان للجويني (٢/ ٧٧٣، ٧٧٤)، نهاية السول (٢/ ١٦٢)، (٣/ ٢٣٩)، إحكام الفصول ١٦٠، إيثار الحق على الخلق ١٠٢. وانظر هذه المسألة وما ينبني عليها من الفروع في كتاب: أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء ص ٢١٥ - ٢٢٩، وتفسير النصوص لمحمد أديب الصالح (٢/ ٨٣) فما بعدها.
فالشاهد أن (حياك الله) أي: أطال الله حياتك. طول الحياة لا يستلزم الخير؛ لأنه ربما يكون في حياة مزعجة قَلِقَةٍ يَتَمَنَّى أنْ يَمُوتَ، فالموت خير منها، كما جاءت الأحاديث الصحيحة المتفق عليها أنه في آخر الزمان يأتي الرجل قبر أخيه فيتمَنَّى كل المُنى أن يكون مكانه ميتاً؛ قَلَقاً من حياته، وإيثاراً للراحة منها من كثرة الفتن، والعياذ بالله (١).
هذا معنى ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ﴾ أي: سلمكم الله سلاماً. فالسلام اسم مصدر (سلَّم) وقد تقرر في علم العربية (٢) أن (فَعَّل) مُضعَّفة العين قياس مصدرها (التفعيل) إلا إذا كانت معتلة اللام أو مهموزته فالقياس في مصدرها (التَّفْعِلة) ويكثر إتيان (الفَعَال) بدلاً من (التفعيل) اسم مصدر، كما تقول: سلَّم عليه سلاماً؛ أي: تسليماً. وكلَّمَهُ كلاماً؛ أي: تكليماً. وبين له الأمر بياناً؛ أي: تبييناً. وطلّق امرأته طلاقاً؛ أي: تطليقاً. ومنه (السلام) لأنه مصدر (سلَّم) فمعنى (سلام عليكم) سلمكم الله من جميع الآفات، وهذه تحية عظيمة، وإنما ساغ الابتداء بالنكرة هنا لأنها في معرض الدعاء.
﴿وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الأعر اف: آية ٤٦].
(أنْ) هذه كاللواتي قبلها التي ذكرنا احتمال كونها مخففة من الثقيلة، أو أنها تفسيرية. فعلى أنها مخففة من الثقيلة فاسمها ضمير الشأن المستكن، وخبرها جملة المبتدأ والخبر. وعلى أنها تفسيرية
_________
(١) السابق.
(٢) انظر: التوضيح والتكميل (٢/ ٧٧ - ٧٩).
الحِيَازَة والصِيَانَة وغير ذلك من الحَوز والصَّون، وهذا معنى قوله: ﴿لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾ [الأعراف: آية ١٦٧].
وهذه الآية الكريمة من سورة الأعراف فيها التنصيص الصريح مِنْ رَبِّ العالمين أنه يُسلّط على اليهود في دار الدنيا حتى تقوم الساعة من يذيقهم سوء العذاب، ويعذبهم أشد التعذيب وأتمّه، وهذا قد بيّنا بعضه مرارًا؛ لأن الله سلّط عليهم سابقًا بختنصر وأهانهم تلك الإهانة الشديدة، وملك الرومان، وسلّط عليهم نبيه محمدًا ﷺ بعد ذلك لما كفروا وتمردوا، فأجلى بني النضير وبني قينقاع، وذبح مقاتلة بني قريظة، وأجلى خيبر، وربنا يقول: ﴿وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا﴾ [الإسراء: آية ٨] وقد بيّنا في سورة بني إسرائيل (١) طرفًا من هذا؛ لأن الله يقول: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (٤) فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ﴾ [الإسراء: الآيتان ٤، ٥] يعني: أنهم يجوسون -يمشون- في الأزقة خلال ديارهم محتليها يهينونهم ويعذبونهم، ثم قال في الثانية: ﴿فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا﴾ [الإسراء: آية ٧] المفسرون والمؤرخون يقولون (٢): إن إحدى المرتين تسليط بختنصر عليهم، والثانية: تسليط ملك الرومان، وأن كلاًّ منهما قتلهم
_________
(١) ولا يرد عليه أن سورة بني إسرائيل تأتي بعد سورة الأعراف وبينهما سور متعددة؛ لأن الشيخ (رحمه الله) فسر القرآن كاملاً في المسجد النبوي قبل ذلك. وهذه الدروس التي وقفنا عليها هي من تفسيره في المرة الثانية.
(٢) انظر: تفسير ابن كثير (٣/ ٢٥)، البداية والنهاية (٢/ ٣٤).
معنى معروف في كلام العرب مشهور، ومنه قول تميم بن مقبل (١):

أَفْسَدَ النَّاسَ خُلُوفٌ خَلَفُوا قَطَّعُوا الإِلَّ وأَعْرَاقَ الرَّحِمْ
أي: قطعوا القرابات ولم يصلوها، ومنه بهذا المعنى قول حسان بن ثابت رضي الله عنه (٢):
لََعَمْرُكَ إنَّ إلَّكَ في قُرَيْشٍ كَإِلِّ السَّقْبِ مِنْ رأْلِ النَّعَامِ
يعني: إنّ قرابتك في قريش كذب كقرابة السقب الذي هو الحوار -أعني ولد الناقة- من رألِ النعام، ولا قرابة بين أولاد الإبل وأولاد النعام، ومن هذا المعنى قول يزيد بن مفرغ الحميري في شعره الذي ينفي به نسب زياد بن أبيه عن قريش، ويعاتب معاوية في استلحاقه له؛ لما كان بينه وبين عبّاد بن زياد من العداوة، وما أهانه به عبّاد بن زياد كما هو معروف، قال يزيد بن مفرّغ الحميريُّ في ذلك أبياته المشهورة التي يقول فيها (٣):
ألاَ أبْلِغْ معاويةَ بْنَ حَرْبٍ... مُغَلْغَلَة مِنَ الرَّجُلِ اليَمَانِي...
أَتَغْضَب أن يُقالَ أَبُوكَ عَفٌّ وَتَرْضَى أَنْ يُقَالَ أَبُوكَ زَانِي
إلى أن قال في ابن زياد:
فَأَشْهَدُ أَنَّ إِلَّكَ مِنْ قُرَيْشٍ كَإِلِّ الجِلِّ مِنْ وَلَدِ الأَتَانِ
أَيْ: إِنَّ قَرَابَتَكَ فِي قُرَيْش، وهذا معنى معروف في كلام العرب، وعلى هذا القول ﴿لاَ يَرْقُبُواْ﴾ أي: لا يُرَاعُون ولا يحْفَظُون
_________
(١) البيت في ابن جرير (١٤/ ١٤٨).
(٢) ديوانه ص (٢٤٢) والسقب: ولد الناقة. والرَّأل: وَلَدُ النعام.
(٣) الأبيات في تاريخ دمشق (٦٥/ ١٨٠ - ١٨١) ولفظ البيت الثالث فيه:


الصفحة التالية
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
فأشْهَد أنَّ رحمك مِنْ زياد كرحم الفِيلِ من وَلَدِ الأَتَانِ