وقولُه: ﴿وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ﴾ كان المعتزلةُ يَسْتَدِلُّونَ بظاهرِ هذه الآيةِ على أن الملائكةَ أفضلُ من الآدميين (١)؛ لأن هذه كأنها مناصبُ عاليةٌ. لا أقولُ لكم إِنِّي في رتبةٍ إلهيةٍ، بحيثُ تكونُ عندي خزائنُ السماواتِ والأرضِ، وأعلمُ الغيبَ، ولاَ أَدَّعِي لكم الرتبةَ الأُخْرَى الكبيرةَ، التي هي رتبةُ الْمَلَكِ.
وأكثرُ العلماءِ على أن خِيارَ الرسلِ من الآدميين أفضلُ مِنَ الملائكةِ (٢).
وهذا النوعُ من الخلافِ والبحثِ مِمَّا فِيهِ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ»؛ لأننا لم نُؤْمَرْ به، ولم نُكَلَّفْ به، والخوضُ فيه لا حاجةَ لنا فيه، ولا لنا من ورائِه نَفْعٌ.
وقد قَدَّمْنَا مِرَارًا: أن أكثرَ العلماءِ على أن أصلَ المادةِ اللغويةِ التي منها (المَلَكُ) (٣) أنها: (أَلَكَ) ففاءُ الفعلِ همزةٌ، وعينُها لامٌ، ولاَمُهَا كافٌ، (أَلَكَ) وأصلُ هذه المادةِ، مادة (الهمزةِ واللامِ والكافِ) معناها: الرسالةُ. والأَلُوكَةُ: الرسالةُ، وَالْمَالُكَةُ: الرسالةُ.
_________
(١) انظر: الكشاف (٢/ ١٥).
(٢) في هذه المسألة انظر: الحجة في بيان المحجة (٢/ ٣٨٧)، القرطبي (١/ ٢٨٩)، (٦/ ٤٣٠)، (٩/ ٢٧)، (١٠/ ٢٩٤ - ٢٩٥)، (١١/ ٢٧٨)، (٢٠/ ١٤٥)، مجموع الفتاوى (٤/ ٣٥٠ - ٣٩٣)، (١٠/ ٣٠٠)، بدائع الفوائد (١/ ٦٦)، (٣/ ١٦٣)، شرح الطحاوية (٤١٠ - ٤٢٣)، البداية والنهاية (١/ ٥٤)، منهج الجدل والمناظرة (١/ ٥٢١).
(٣) انظر: ابن جرير (١/ ٤٤٤ - ٤٤٧)، القرطبي (١/ ٢٦٢ - ٢٦٣)، اللسان (مادة: ألك) (١/ ٨٤ - ٨٥)، الدر المصون (١/ ٢٤٩ - ٢٥١)، معجم مفردات الإبدال والإعلال (٢٤٨ - ٢٥٠).
العامِّ؛ لأن دلالةَ العمومِ عندَه قطعيةٌ، فيرجحُ بينَهما (١)؛ وَلِذَا كانَ جمهورُ العلماءِ، منهم الأئمةُ الثلاثةُ، يخصصونَ عمومَ: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» (٢) بخصوصِ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» (٣)
وكان أبو حنيفةَ يقول: هذا الحديثُ خاصٌّ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» لا أُقَدِّمُهُ على العامِّ الذي هو: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» وقد جَهِلْنَا التاريخَ، فلم نَعْرِفْ أيهما المتأخرُ حتى نُقَدِّمَهُ؛ ولذا أَوْجَبَ الزكاةَ في كُلِّ شيءٍ خرج من الأرضِ قليلاً أو كثيرًا، تبرئةً للذمةِ، وعدمِ تقديمٍ للخاصِّ على العامِّ (٤).
وَأَجَابَ المخالفونَ عن هذا بمناقشةٍ أُخْرَى، قالوا: لو سَلَّمْتُمْ هذا الْخَاصَّ، وقلتُم: إن النبيَّ - ﷺ - ثَبَتَ عنه في بعضِ الأحاديثِ أن اللَّهَ عَذَّبَ أحدَ أهلِ الفترةِ - لو قَدَّمْنَا هذا الخاصَّ - لاَنْتَفَتِ الحكمةُ الَّتِي تَمَدَّحَ اللَّهُ بها، وَأَثْنَى بها على نفسِه؛ لأَنَّ اللَّهَ تَمَدَّحَ وَأَثْنَى على نفسِه بأنه بالغٌ من العدلِ والإِنْصَافِ مَا لَمْ يُعَذِّبْ
_________
(١) انظر: تيسير التحرير (١/ ٢٦٧، ٢٧١).
(٢) أخرجه البخاري في الزكاة، باب العشر فيما يُسقى من السماء... ، حديث رقم: (١٤٨٣)، (٣/ ٣٤٧) من حديث عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) بلفظ مقارب لما ذكر الشيخ (رحمه الله) هنا. وأخرج مسلم نحوه من حديث جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما)، كتاب الزكاة، حديث رقم: (٩٨١)، (٢/ ٦٧٥).
(٣) أخرجه البخاري في الزكاة، باب ما أُدي زكاته فليس بكنز، حديث رقم: (١٤٠٥)، (٣/ ٢٧١) وأطرافه: (١٤٤٧، ١٤٥٩، ١٤٨٤). ومسلم في الزكاة، حديث رقم: (٩٧٩)، (٢/ ٦٧٣) من حديث أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه)، كما أخرجه من حديث جابر (رضي الله عنه) (٩٨٠)، (٢/ ٦٧٥)..
(٤) انظر: المبسوط للسرخسي (٣/ ٣).
فهي بمعنى (أي) وما بعدها يفسر ما قبلها. وضابط (أن) التفسيرية: هي أن يتقدمها معنى القول وليس فيه حروف القول (١). والمناداة التي تقدمتها فيها معنى القول وليس فيها حروف القول. هذا ﴿أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ﴾.
﴿لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾ أظهر التفسيرين في قوله: ﴿لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾ أنه واقع على أصحاب الأعراف، ولا محل للجملة من الإعراب على أصح القولين. فكأن سائلاً سأل قال: ما شأن أصحاب الأعراف هؤلاء الذين يُحيُّون أهل الجنة ويخاطبون أهل النار، ما قصتهم، وما شأنهم؟ فأجيب بقوله: ﴿لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾ لم يدخلوا الجنة بالفعل ﴿وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾ في دخولها في ثاني حال طمعاً منهم في رحمة ربهم وفضله جل وعلا، وهذا هو أصح التفسيرين، خلافاً لمن قال إن الأعراف أنها شرفات عالية فوق الصراط مرتفعات في الصراط، عليها هؤلاء الرجال، تمر بهم زُمَرُ الجنة، وزُمَرُ أهل النار، فإذا رأوا زُمَر أهل الجنة عرفوهم بسيماهم، وحيوهم، وقالوا لهم: ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا﴾ أي: أهل الجنة الذين هم مارون بأهل الأعراف ﴿وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾ في دخولها لأنهم ذاهبون إليها. هذا القول قال به جماعة من علماء التفسير، والأول أظهر منه.
ومعنى ﴿يَطْمَعُونَ﴾ الطمع: هو تعلق النفس وأملها في الحصول على الشيء. وهذا معنى قوله: ﴿لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾ والأول أظهر من الثاني.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٥١) من سورة الأنعام.
وسبى نساءهم وذراريهم.
والله بعد ذلك قال: ﴿وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا﴾ [الإسراء: آية ٨] فعادوا لأكبر الفساد والمنكر زمان النبي ﷺ فعاد الله لقهرهم وإذلالهم بأن سلّط عليهم رسوله ومَنَعَ إقامتهم في جزيرة العرب، فكان عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) إذا جاء منهم تاجر أجَّل له ثلاثة أيام يبيع ويشتري ثم يخرج، ولا يرضى بجلوسهم في جزيرة العرب.
وفي هذه الآية من سورة الأعراف تأذن الله وأعلم أنه سلّط عليهم من يسومهم سوء العذاب، إلا أنهم يَرُدّ اللهُ لهُمُ الكَرَّةَ حتى يجتمعوا ويكونوا أمَّة؛ لأنهم لو بقوا مقطعين في الأرض لن تقوم لهم قائمة -كما قال: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا﴾ [الأعراف: آية ١٦٨]- ولم يكن العذاب والهلاك، ولم يجد موقعًا يقع عليه، فصار من عادة الله أن يَردّ لهم الكَرَّةَ ويجعلهم أمة حتى يكونوا أمة فيسلّط عليهم من يعذبهم ليكون العذاب واقعًا موقعه، والله (جلّ وعلا) أصدق من يقول، وهذا معنى قوله: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾.
﴿إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ﴾ السرعة ضد البطء؛ لأنه سريع العقاب؛ لأنه يقول للشيء: (كن) فيكون، وما أمره إلا واحدة كلمح بالبصر. والعقاب: هو التنكيل بسبب الذنب؛ لأنه يأتي عقب الذنب، والعرب تقول: «عَاقَبَه معاقبة وعقابًا» إذا نكَّلَه بسبب ذنب ارتكبه، وهو معنىً مشهور في كلامهم، ومنه قول نابغة ذبيان (١):

وَمَنْ عصاكَ فَعَاقبهُ مُعَاقَبَةً تَنهى الظَّلُومَ ولا تَقْعُدْ عَلَى ضَمَدِ
_________
(١) ديوان النابغة ص١٣.
فيكم ﴿إِلاًّ﴾ أي: قرابة ﴿وَلاَ ذِمَّةً﴾ أي: لا قرابة ولا عهداً، وقال بعض العلماء: الإلّ هو الحِلْفُ، فالعَرَبُ تقول: بَيْنِي وبين فلانٌ إِلٌّ: إذا كان بَيْنَكُمَا حِلْفٌ. قالوا: واشتقاق (الإِلُّ) أنهم كانوا إذا تَحَالَفُوا وتَمَاسَحُوا بالأَيْدِي عند الحلف رفعوا أصواتهم، والعرب تقول: «ألَّ، يَؤُلُّ» إِذَا صَرَخَ ورَفَعَ صوته، ومنه: أَلِيلُ المَرِيضِ؛ أي: أَنِينُ المَرِيضِ المُرْتَفِع، والعرب تقول: «دعت الجارية أَلَلَيْهَا» إذا وَلْوَلَتْ؛ لأن الأليل صراخٌ وصوت. ومنه قولهم: دَعَتِ الجارية ألليها: إذا وَلْوَلَتْ قَول الكميت (١):
وأنتَ ما أنت في غَبْراءَ مُظْلمةٍ إذا دَعَتْ أَلَلَيْها الكَاعِبُ الفُضُلُ
وقال قومٌ آخرون: إن (الإلّ) معناه العهد. وعلى هذا القول فهو شيءٌ معطوف على نفسه باختلاف اللفظين، وقد قدّمنا في هذه الدروس مراراً (٢) أن عطف الشيء على نفسه بلفظين مختلفين أنه أسلوبٌ عربي معروف؛ لأن المغايرة في اللفظ ربما نزلتها العرب كمغايرة المعنى. وهذا الأسلوب في اللغة العربية وفي القرآن، فمن أشهر أمثلته في القرآن قوله تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (٤)﴾ [الأعلى: الآيات ١ - ٤] لأن (الذي) و (الذي) كلها واقعة على شيء واحد هو الله (جلّ وعلا)، إلا أنه لما اختلفت الألفاظ صار العطف بسبب اختلافها، وهو أسلوب معروف في العربية، ومن شواهده المشهورة قول الشاعر (٣):
_________
(١) البيت في اللسان (مادة: ألل) (١/ ٨٦)، الدر المصون (٦/ ٢٠).
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة البقرة.
(٣) السابق.


الصفحة التالية
Icon