أو عطشٍ مُفْرِطَيْنِ، أو كان في حقنٍ أو حقب مُفْرِطَيْنِ؛ فإنه ينالُ من شدةِ العطشِ، ومن شدةِ الجوعِ، ومن شدةِ الحزنِ، ومن شدةِ السرورِ، ومن شدةِ الحقنِ (وهو - بالنونِ -: مدافعةُ البولِ. والحَقْب - بالباءِ -: مدافعةُ الغائطِ، إذا كان في هيجانٍ شديدٍ للخروجِ). هذه الأشياءُ تشوشُ فكرَ الإنسانِ حتى لا يبقَى له نظرٌ تشويشًا أشدَّ من الغضبِ.
فيقولُ ابنُ حزمٍ: هذه مسكوتٌ عنها، فالحكمُ في وقتِها عَفْوٌ!!
ونحن نقولُ: لاَ وَاللَّهِ، ليست مسكوتًا عنها؛ لأن النبيَّ - ﷺ - لَمَّا نَبَّهَ على أن القاضيَ في وقتِ الغضبِ لا يجوزُ له أن يحكمَ عَرَفْنَا أن هذا الحديثَ في معنَى: أن كُلَّ مُشَوِّشٍ للفكرِ يَمْنَعُ من استيفاءِ النظرِ، ويؤدي إلى ضياعِ حقوقِ الناسِ أن الحكمَ في وقتِه ممنوعٌ، كذلك صَحَّ عن النبيِّ - ﷺ - أنه نَهَى عن البولِ في الماءِ الراكدِ (١)، وسكتَ عما لو بالَ في قارورةٍ وَصَبَّهَا في الماءِ من القارورةِ. فَمُقْتَضَى ما يقولُه ابنُ حزمٍ: أنه لو قَطَّرَ فيه قطراتٍ قليلةً من ذَكَرِهِ مباشرةً: هذا منطوقٌ به، ولو صَبَّ فيه مئاتِ الأطنانِ من الأَوَانِي: أن هذا مباحٌ ومسكوتٌ عنه!! وهذا هَوَسٌ لا يقولُه عاقلٌ؛ لأن النبيَّ - ﷺ - إنما نَهَى عنه لأَنَّ البولَ يُقَذِّرُهُ، وصَبُّهُ فيه من الإناءِ لا فرقَ بينَه وبينَ بولِه فيه مباشرةً.
_________
(١) أخرجه الشيخان بألفاظ متقاربة، انظر: البخاري، كتاب الوضوء، باب البول في الماء الدائم، حديث رقم (٢٣٩)، (١/ ٣٤٦)، مسلم، كتاب الطهارة، باب: النهي عن البول في الماء الراكد، الحديثان (٢٨١، ٢٨٢)، (١/ ٢٣٥).
وَمَنِ امتنعَ دخلَ النارَ، وظهرَ فيه عِلْمُ اللَّهِ أنه لو جاءته الرسلُ لَكَذَّبَهَا. وقولُ ابنِ عبدِ البرِّ: إن هذا تكليفٌ بِمُحَالٍ، وأن القولَ للرجلِ: «ادْخُلِ النَّارَ» هذا تكليفٌ بما لا يطاقُ!! هذا لا يَرُدُّ - أيضا - الأحاديثَ الصحيحةَ، وقد جاء أمثالُه في الشرعِ، فقد ثَبَتَ في الأحاديثِ الصحاحِ عن النبيِّ - ﷺ - في علامةِ الأعورِ - المسيحِ الدجالِ - أن معه جنةً ونارًا، والنبيُّ يأمرُ المؤمنين أن يقتحموا في نارِه التي معه؛ لأنهم إن اقتحموها وجدوها ماءً عذبًا وَشَرِبُوا منه، وأن ماءَه نارٌ (١)،
ففي هذه الأحاديثِ الصحيحةِ أَمَرَ النبيُّ - ﷺ - باقتحامِ النارِ التي مع الدجالِ، وقد أَمَرَ اللَّهُ بني إسرائيلَ - قد بَيَّنَّا أنه لا يتوبُ عليهم حتى يقتلوا أنفسَهم، كما قَدَّمْنَاهُ في سورةِ البقرةِ: ﴿فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: الآية ٥٤] فلم يَقْبَلْ توبةَ أحدٍ منهم إلا بعدَ أن يُقدِّمَ نفسَه للموتِ فَيُقْتَل، فمعنَى: ﴿فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ﴾ أي: فَلْيَقْتُلِ الذين لم يَعْبُدُوا العجلَ منكم الذين عَبَدُوهُ، وليس المعنَى: أن
_________
(١) ورد هذا المعنى في عدة أحاديث، منها:
١ - حديث أبي هريرة عند البخاري، كتاب الأنبياء، باب قول الله عز وجل: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ﴾. حديث رقم (٣٣٣٨)، (٦/ ٣٧٠)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال، حديث رقم: (٢٩٣٦)، (٤/ ٢٢٥٠).
٢ - حديث حذيفة عند البخاري، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال، حديث رقم: (٧١٣٠)، (١٣/ ٩٠)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب: ذكر الدجال، حديث رقم: (٢٩٣٤)، (٤/ ٢٢٤٨).
٣ - حديث أبي مسعود الأنصاري عند البخاري (٧١٣٠)، ومسلم (٢٩٣٥) بمثل حديث حذيفة.
() ورد هذا المعنى في عدة أحاديث، منها:
١ - حديث أبي هريرة عند البخاري، كتاب الأنبياء، باب قول الله عز وجل: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ﴾. حديث رقم (٣٣٣٨)، (٦/ ٣٧٠)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال، حديث رقم: (٢٩٣٦)، (٤/ ٢٢٥٠).
٢ - حديث حذيفة عند البخاري، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال، حديث رقم: (٧١٣٠)، (١٣/ ٩٠)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب: ذكر الدجال، حديث رقم: (٢٩٣٤)، (٤/ ٢٢٤٨).
٣ - حديث أبي مسعود الأنصاري عند البخاري (٧١٣٠)، ومسلم (٢٩٣٥) بمثل حديث حذيفة.
وقرأه ورش عن نافع، وقنبل عن ابن كثير: ﴿تِلْقَآء أصْحَاب النار﴾ بمد الثانية همزاً للأولى، ومدها نظراً للساكن بعدها.
وقرأه بقية القراء السبعة، وهم حمزة، والكسائي، وعاصم، وابن عامر: ﴿تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ﴾ بتحقيق الهمزتين.
والتلقاء: مصدر، معناه أن يكون الشيء جهة الشيء الذي يُتلقى منها. ولم يأت مصدر على (التِّفعَال) بكسر العين إلا (التلقاء، والتبيان) أما غير ذلك من المصادر فهو بالفتح في كل شيء، كالتَّسْيَار، والتَّذكار، والتَّطواف (١). أما الأسماء فهي تأتي كثيراً على (تِفْعال) كتِقصار، وما جرى مجراه، كما هو معروف في علم العربية. ﴿قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [الأعراف: آية ٤٧].
ثم بين (جل وعلا) أن أصحاب الأعراف ينادون رجالاً من أهل النار ويوبخونهم، وظاهر القرآن أنهم يعرفونهم في الدنيا، ويعرفونهم في النار بسيماهم فينادونهم ويوبخونهم ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً﴾ [الأعراف: آية ٤٨] يعني من أهل النار ﴿مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ﴾ [الأعراف: آية ٤٨] وبخُوهم وقالوا لهم: ﴿مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ﴾ [الأعراف: آية ٤٨] ماذا نفعكم به؟ العرب تقول: أغنى عنه الشيء يغني: إذا نفعه. والاسم من هذا يُسمى (غَناء) لأن العرب تسمي النفع (غَناء) وتسمي المطرب الخبيث (غِناء) وتسمي الإقامة (غَنىً). فالمادة موجودة منها خمس لغات (٢)، وهي: (الغِناء) بالكسر والمد،
_________
(١) انظر: الدر المصون (٥/ ٣٣١).
(٢) انظر: ابن جرير (١٢/ ٥٦٩)، المصباح المنير (مادة: غنت) ص١٧٣، اللسان (مادة: غنا) (٣/ ١٠٢٤)، القرطبي (٧/ ٢٥١ - ٢٥٢)، الدر المصون (٥/ ٣٨٧).
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: آية ١٦٨]، أي: يرجعون إلى ما يرضي ربهم من طاعته جلّ وعلا.
﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ﴾ [الأعراف: آية ١٦٩] كان بعض العلماء يقول (١): (الخَلَف) بفتح اللام هم من يخلفون من قبلهم خلافة حسنة. و (الخَلْف) بسكون اللام هم الذين يخلفون من كان قبلهم بسوء. وهذا اصطلاح أغلبي؛ لأن (الخَلَف) ربما أُطلق في خَلَف سيئ. و (الخَلْف) بالسكون ربما أُطلق في خَلَفٍ صالحٍ، ومنه قول حسّان (٢):

لنَا القَدَمُ الأولَى إِلَيْكَ وَخَلْفُنَا لأَوَّلِنَا في طاعَةِ اللهِ تَابِعُ
وقوله: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ﴾ أي: من بعد هؤلاء الذين قطّعناهم وجعلنا منهم الصالحين خلف ﴿مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ﴾ من ذرياتهم من اليهود ﴿وَرِثُواْ الْكِتَابَ﴾ معنى وراثتهم للكتاب: أن التوراة بقيت عندهم ورثوها عن أسلافهم فصارت التوراة لديهم، وصاروا عياذًا بالله يغيرون أحكامها. ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ﴾ يعني: خلف من بعد أولئك خلف من ذرياتهم من اليهود ورثوا الكتاب، معناها: بقي كتاب الله التوراة في أيديهم وراثة عن أسلافهم. وكان هذا الخَلْف خلفًا خبيثًا يأكلون الرُّشَا ويبيعون حكم الله بأعراض الدنيا -والعياذ بالله- فعابهم الله هنا بذلك؛ ولذا قال: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ﴾ معنى ﴿وَرِثُواْ الْكِتَابَ﴾ ورثوا التوراة عن أسلافهم فبقي عندهم، وهو كتاب الله الذي كتب فيه العقائد والحلال والحرام وتفصيل كل شيء يُحتاجُ إليه.
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٣/ ٢٠٩)، القرطبي (٧/ ٣١٠)، الدر المصون (٥/ ٥٠٢).
(٢) ديوان حسان ص١٥٥.
البيوع. ومن إطلاق (الشراء) على الاستبدال و (الثمن) على كل عوض في اللغة العربية قول علقمة بن عَبَدَة التميمي (١):
والحَمدُ لا يُشتَرى إلا له ثَمَنٌ مما تَضِنُّ به النفوسُ مَعْلُومُ
ومن هذا المعنى قول ابن أبي ربيعة المخزومي (٢):
إن كنت حَاوَلْتَ دُنيا أو أَقَمْتَ لها ماذا أَخَذْتَ بتركِ الحَجِّ من ثَمَنِ
أي: من عوض يخلفه لك. وهذا معنى ﴿اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ استبدلوا بآيات الله الشرعية -التي هي هذا القرآن العظيم- تركوها وتَعَوَّضُوا منها ثمناً قليلاً. واختلف العلماء بالمراد بهذا الثَّمَنِ القَلِيل (٣)، فقال جماعة من العلماء: هي نزلت في قوم من الأعراب الذين كانوا عاهدوا النبي ﷺ فدعاهم أبو سفيان بن حرب، وأطعمهم أُكْلَة، ونقضوا العهود بسبب ذلك. وهذا قاله جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ المفسرين في هذه الآية. وهو مستبعد جدّاً؛ لأن هذه الآية من براءة نزلت بعد إسلام أبي سفيان؛ لأنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَسْلَمَ عَامَ الفَتْحِ عَامَ ثَمَانٍ، وَهَذِهِ نَزَلَتْ عَامَ تِسْعٍ.
وقال بعض العلماء: هي في اليهود؛ لأنهم هم الذين تَبَدَّلُوا الرُّشَا من بيان الحق، وهو ضعيف أيضاً.
والتحقيق -إن شاء الله- أن المعنى: أن الكفار تبدلوا من آيات الله والعمل بما جاء عن الله ثمناً قليلاً من متاع الحياة الدنيا، وهو -مثلاً- عدم التقيد بالشرع، وبقاؤهم على ما كانوا عليه،
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٧٩) من سورة البقرة.
(٢) السابق.
(٣) انظر: ابن جرير (١٤/ ١٥٠)، البغوي (٢/ ٢٧١)، القرطبي (٨/ ٨٠).


الصفحة التالية
Icon