مثلاً النبيُّ - ﷺ - نَهَى الإنسانَ عن أن يُضَحِّيَ بالشاةِ العوراءِ (١)،
_________
(١) جاء ذلك من حديث علي، والبراء، وعتبة بن عبد السلمي (رضي الله عنهم).
أما حديث علي (رضي الله عنه) فهو قوله: «أَمَرَنَا رسول الله - ﷺ - أن نَسْتَشْرِف العين والأذن، ولا نضحي بعوراء ولا مُقَابَلَة ولا مُدَابَرَة ولا خَرْقَاء ولا شَرْقَاء». وقد أخرجه أحمد (١/ ٨٠، ٨٠١، ٩٥، ١٠٥، ١٢٥، ١٣٢، ١٤٩، ١٥٢)، والدارمي (٢/ ٤)، وأبو داود في الضحايا، باب ما يُكره من الضحايا، حديث رقم: (٢٧٨٧)، (٧/ ٥٠٨)، والترمذي في الأضاحي، باب ما يُكره من الأضاحي، حديث رقم: (١٤٩٨)، (٤/ ٨٦)؛ وأخرجه في موضع آخر برقم (١٥٠٣)، والنسائي في الضحايا، باب المدَابَرة، حديث رقم: (٤٣٧٣)، (٧/ ٢١٦)، وأخرجه في موضع آخر برقم: (٤٣٧٥)، وابن ماجه في الأضاحي، باب ما يُكره أن يُضَحَّى به، حديث رقم: (٣١٤٣)، (٢/ ١٠٥٠)، وابن خزيمة (٢٩١٤، ٢٩١٥)، والطحاوي في شرح المعاني (٤/ ١٦٩، ١٧٠)، والحاكم (٤/ ٢٢٤، ٢٢٥) وصححه، والبيهقي (٩/ ٢٧٥). بعضهم يرويه مختصرا فيقتصر على صدر الحديث، وهو قوله: «أَمَرَنَا رسول الله - ﷺ - أن نَسْتَشْرِف العين والأذن». وبعضهم يرويه بتمامه (على اختلاف في بعض ألفاظه). وإنما صحَّ من هذا الحديث صدره، دون قوله: «ولا نضحي بعوراء... ) إلخ. انظر: صحيح أبي داود (٢/ ٥٣٩)، وضعيفه ص ٢٧٤، صحيح النسائي (٣/ ٩١٤)، وضعيفه ص ١٧٧، ١٧٨، وصحيح ابن ماجه (٢/ ٢٠٢)، وضعيفه ص ٢٤٩، وضعيف الترمذي ص ١٧٥ - ١٧٦، الإرواء (٤/ ٣٦٢)، التعليق على المشكاة (١٤٦٣)، التعليق على ابن خزيمة (٢٩١٥).
وأما حديث البراء (رضي الله عنه) فهو قوله - ﷺ -: «أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء بَيِّنٌ عَوَرُها، والمريضة بَيِّنٌ مرضها، والعرجاء بين ظَلَعُها، والكسير التي لا تُنقى»
. وهو حديث ثابت صحيح أخرجه مالك (١٠٣٥)، والطيالسي ص ١٠٢، وأحمد (٤/ ٢٨٤، ٢٨٩، ٣٠٠، ٣٠١)، والدارمي (٢/ ٤)، وأبو داود في الضحايا، باب ما يكره من الضحايا، حديث رقم: (٢٧٨٥)، (٧/ ٥٠٥)، والترمذي في الأضاحي، باب ما لا يجوز من الأضاحي، حديث رقم: (١٤٩٧)، (٤/ ٨٥)، والنسائي في الضحايا، باب ما نُهي عنه من الأضاحي، حديث رقم: (٤٣٦٩)، (٧/ ٢١٤) وأخرجه في موضعين آخرين برقم: (٤٣٧٠، ٤٣٧١)، وابن ماجه في الأضاحي، باب ما يُكره أن يُضَحَّى به (٢١٤٤)، (٢/ ١٠٥٠)، وابن خزيمة (٢٩١٢)، والطحاوي في شرح المعاني (٤/ ١٦٨، ١٦٩)، وابن حبان (الإحسان): (٥٨٨٩، ٥٨٩١ - ٥٨٩٢)، والحاكم (١/ ٤٦٧) وصححه، والبيهقي (٥/ ٢٤٢)، (٩/ ٢٧٤) وابن الجارود (٤٨١، ٩٠٧). وانظر: صحيح أبي داود (٢/ ٥٣٩)، صحيح الترمذي (٢/ ٨٨)، صحيح النسائي (٣/ ٩١٣، ٩١٤)، صحيح ابن ماجه (٢/ ٢٠٢)، الإرواء (٤/ ٣٦٠ - ٣٦١). وأما حديث عُتْبَة بن عَبْد السلمي (رضي الله عنه) وفيه: «إنما نهى رسول الله - ﷺ - عن المُصْفَرَّة والمُسْتَأْصَلَة، والبَخْقَاء، والمُشَيِّعَة، والكَسْرَاء». والبَخْقَاء: هي التي تبخق عينها، أي يذهب بصرها. وقد أخرجه أبو داود في الضحايا، باب ما يُكره من الضحايا، حديث رقم: (٢٧٨٦)، (٧/ ٥٠٦)، والحاكم (٤/ ٢٢٥) وصححه، والبيهقي (٩/ ٢٧٥). وهو ضعيف الإسناد. وانظر: ضعيف أبي داود ص ٢٧٤.
الإنسانَ يقتلُ نفسَه بيدِه. حتى تَابَ اللَّهُ عليهم، وَرَفَعَ القتلَ عن بقيتِهم. وهذا معنَى قولِه: ﴿ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ﴾ [الأنعام: الآية ١٣١].
﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: الآية ١٣٢].
قرأه عامةُ القراءِ، غير ابنِ عامرٍ: ﴿عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ وقرأه ابنُ عامرٍ: ﴿عما تَعْمَلُونَ﴾ (١) والمعنَى واحدٌ.
وقولُه (جل وعلا): ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا﴾ التنوينُ: تنوينُ عِوَضٍ. أي: ولكلِّ الناسِ من كافرينَ ومؤمنينَ على التحقيقِ. خِلاَفًا لِمَنْ خَصَّهُ بالكافرين (٢). لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم درجاتٌ.
والدرجاتُ: جمعُ الدرجةِ، وهي المرتبةُ والمنزلةُ (٣). أي: لِكُلِّ عاملٍ مطيعٍ وعاصٍ، لكل واحدٍ من المطيعينَ والعاصينَ درجاتٌ. أي: منازلُ ومراتبُ يَسْتَحِقُّونَهَا بأعمالهم، فمنهم من هو بدرجتِه في أعلى الجنانِ، ومنهم من هو بأعمالِه في دركاتِ النارِ، وقد بَيَّنَ (جل وعلا) أن الآخرةَ يتفاوتُ أهلُها بدرجاتِهم (٤)، كما في قولِه: ﴿وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً﴾ [الإسراء: الآية ٢١] وَبَيَّنَ أن أهلَ النارِ يتفاوتونَ في دركاتِهم قال: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ [النساء: الآية ١٤٥] وفي
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص ٢٠٢.
(٢) انظر: البحر المحيط (٤/ ٢٢٤ - ٢٢٥).
(٣) انظر: المفردات (مادة: درج) ٣١٠.
(٤) انظر: أضواء البيان (٢/ ٢١١).
و (الغَناء) بالفتح والمد، و (الغِنى) بالكسر والقصر، و (الغَنى) بالفتح والقصر، و (الغُنى) بالضم والقصر، كلها موجودة في اللغة، ولم يوجد منها (الغُناء) بالضم فالمد، هذا ليس بموجود في العربية.
أما (الغِنَى) بالكسر والقصر فهو ضد الفقر. وأما (الغِنَاء) بالكسر والمد فالمراد به المطرب قبحه الله. وأما (الغَنَاء) بالفتح والمد كسحاب فهو النفع، ومنه قول الشاعر (١):
قَلَّ الغَنَاءُ إِذَا لاَقَى الفَتَى تَلَفاً... قَوْل الأَحبَّةِ: لا تَبْعدْ وقدْ بعدَا
وقول هبيرة بن أبي وهب على إحدى روايتي بيته (٢):
لَعَمْرُكَ مَا وَلَّيْتُ ظَهْرِي مُحَمَّداً... وَأَصْحَابَهُ جُبْناً وَلاَ خِيفَةَ الْقَتْلِ...

وَلَكِنَّنِي قَلَّبْتُ أَمْرِي فَلَمْ أَجِدْ لِسَيْفِي غَنَاءً إِنْ ضَرَبْتُ وَلاَ نَبْلِي
أي: نفعاً. ويروى (مساغاً) فالغَنَاء: النفع. ومن الغَنَاء بمعنى النَّفْعِ قولهم: فلان لا يُغني شيئاً؛ أي: لا ينفع بِشَيْءٍ. و ﴿مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ﴾ أي: ما نفعكم بشيء. هذا (٣) من هذه المادة. أما (الغُنى) بالضم والقصر فهو جمع غُنية، والغُنية ما يَقْتَنِيه الإنسان فيستغني به عن الناس. وأما (الغَنى) بالفتح والقصر فهو مصدر غَنِيَ بالمكان يَغنَى به غَنىً على القياس إذا أقَامَ به. ومنه قوله: ﴿كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ﴾ [يونس: آية ١٢٤] أي: كان لم تقِم بالأمس. هذا معنى هذه المادة وتصاريفها في لغة العرب. والمعنى: ﴿مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ﴾ نفعكم بشيء، ولا دفع عنكم شيئاً.
_________
(١) البيت في المساعد على تسهيل الفوائد (٢/ ٢٣٥).
(٢) البيتان في السيرة لابن هشام ص (١٠٨٥ - ١٠٨٦)، وأوله: «لعمري... » إلخ.
(٣) سيأتي قريباً عند تفسير الآية (٩٢) من هذه السورة.
﴿يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى﴾ والعياذ بالله إذا عرض لهم عرض من حطام الدنيا. العَرَض: المراد به الشيء الزائل؛ لأنه عارض زائل مُضْمَحِل.
وقوله: ﴿هَذَا الأدْنَى﴾ إشارة إلى متاع الدنيا وحطامها الزائل القليل الذي لا جدوى فيه ﴿يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى﴾ يستعيضونه عما في كتاب الله؛ لأنهم يأكلون الرُّشَا ويغيرون الأحكام.
وبعض العلماء يقول: الخَلْف المذكورون هم اليهود الذين كانوا موجودين في زمن مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، عندهم التوراة فيها صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ العهود والمواثيق عليهم باتباعه فكتموه وغيّروا صفاته وبدّلوها، حتى إنهم يجدون في التوراة عندهم أنه (رَبْعَة) يعني: متوسط القامة، فيكتبون: طويلاً مُشذّبًا. وكل وصف يحرّفونه ويغيرونه، يأخذون قراطيس يكتبونها عندهم محرفة كما تقدّم في الأنعام في قوله: ﴿تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾ [الأنعام: آية ٩١] يقولون: إنهم كان إذا تخاصم إليهم اثنان وأعطاهم صاحب الحق رشوة حكموا له بكتاب الله التوارة، فإذا أعطاهم المُبْطِل الرشوة تركوا التوراة وجاءوا بالكتب التي كتبوها بأيديهم، التي قال الله عنها: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩)﴾ [البقرة: آية ٧٩] يأتون بالكتاب الذي كتبوه ويحكمون له به بدل الرشوة. ومما ذكر العلماء أنهم كتموا صفة النبي ﷺ لعرض زائل مِنْ أعْرَاضِ الدّنْيَا؛ لأنهم كانوا يأكلون بالرئاسة الدينية، فلما بُعث محمد ﷺ لو أخبروا بأنه نبي الله لزالت عنهم الرئاسة الدينية فضاع المأكل الذي كانوا
واتباعهم أهواءهم، كما قال (جل وعلا): ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللَّهُ﴾ [البقرة: آية ٩٠] فتعوضوا من هذا اتباعهم هواهم، وبقاءهم على ما كانوا عليه؛ لأنه أحب إليهم. وهذا شيء تافه تَعَوَّضُوا مِنْهُ سَعَادَةَ الدنيا والآخرة. وهذا معنى قوله: ﴿اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً﴾.
﴿فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ﴾ الظاهر أن (صَدّ) (١) هنا هي المتعدية، والمفعول محذوف؛ أي: فصدوا الناس عن سبيله؛ لأن صدودهم في أنفسهم معلوم من قوله: ﴿اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً﴾ لأَنَّ مَنِ اشْتَرَى بِآيَاتِ اللهِ ثَمَناً قليلاً فهو صَادٌّ عن سبيل الله، فبيَّنَ أنَّهُمْ ضُلاَّل بقوله: ﴿اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً﴾ وبيّن أنهم مُضِلُّونَ بقوله: ﴿فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ﴾ أي: صدوا غيرهم عن سبيل الله (جل وعلا).
والسبيل: معناه الطريق. وسبيل الله: دين الإسلام؛ لأنه طريق الله التي أمَرَ بِهَا وَوَعَدَ الجزاء الحسن لمن اتَّبَعَها؛ ولذا سُميت: (سبيل الله) أي: طريقه التي يدعو إليها، والتي تُوَصِّلُ إلى رضاه، وإلى نَيْلِ ما عنده مِنَ الكرامة.
وقد قدمنا أن (السبيل) تُذكَّر وتؤنث (٢)، فمن تذكيرها في القرآن: قوله تعالى: ﴿وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ﴾ [الأعراف: آية ١٤٦] برجوع الضمير مذكراً على السبيل. ومن تأنيث السبيل: ﴿هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ﴾ [يوسف: آية ١٠٨]، ولم يقل: «هذا سبيلي أدعو إلى الله».
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٥) من سورة الأعراف.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٥، ١١٦) من سورة الأنعام.


الصفحة التالية
Icon