وسكتَ
عن الشاةِ العمياءِ، فلا نقولُ: إن الشاةَ العمياءَ عفوٌ وَمَنْ شَاءَ أَنْ يُضحِّيَ بها؛ لأنّا نقولُ: إن النصَّ المانعَ من التضحيةِ بالعوراءِ يُعْرَفُ منه حكمُ العمياءِ.
وهذا - لو تَتَبَّعْنَا - أمثالُه كثيرةٌ في كتابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ - ﷺ -.
وَاسْتَدَلَّ بعضُ العلماءِ - من علماءِ الأصولِ - بآيةِ الأنعامِ هذه على أحدِ قَوْلَيْنِ؛ في مسألةٍ اختلفَ فيها العلماءُ؛ لأنه معلومٌ في علمِ الأصولِ أن العلماءَ مُخْتَلِفُونَ: هل النبيُّ - ﷺ - يمكنُ أن يجتهدَ في شيءٍ، أو لا يجتهدُ في شيءٍ؟ (١).
_________
(١) انظر: شرح الكوكب المنير (٤/ ٤٧٥)، نثر الورود (٢/ ٦٢٩ - ٦٣١).
القراءةِ الأُخْرَى: ﴿فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ (١) فهم يتفاوتونَ، ففي أعمالِ أهلِ الشرِّ تفاوتٌ، تتفاوتُ بها منازلُهم في النارِ. ولأعمالِ أهلِ الخيرِ تفاوتٌ، تتفاوتُ بها منازلُهم في الجنةِ. وهذا معنَى قولِه: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا﴾.
والآيةُ فيها موعظةٌ عظيمةٌ، يعني: أيها المخاطبونَ ما دُمْتُمْ في دارِ الدنيا فَاعْلَمُوا أن الدركاتِ في النارِ والدرجاتِ في الآخرةِ إنما تُنَالُ بالأعمالِ في الدنيا، فَرَاقِبُوا اللَّهَ وَاجْتَهِدُوا في أن تكونَ أعمالُكم صالحةً، لأَنْ تكونَ درجاتُكم ومنازلُكم في الجنةِ عاليةً. وكذلك يُحذِّرُ من أن تكونوا في دركاتِ النارِ - والعياذُ بالله - وهذا معنَى قولِه: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا﴾.
﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ الخطابُ للنبيِّ - ﷺ -، و (ما) نافيةٌ، والباءُ في قولِه: ﴿بِغَافِلٍ﴾ هي لتوكيدِ النفيِ؛ لأن للإسنادِ الخبريِّ المنفيِّ توكيدًا كما للإيجابيِّ توكيدًا، فلو قلتَ مثلاً: «زيدٌ قائم». فهذا ليس فيه توكيدٌ، ولو قلتَ في الإثباتِ: «إن زيدًا لقائم». فقد أَكَّدْتَ إثباتَ قيامِه بـ (إن) واللامِ. ولو قلتَ: «ما زيدٌ بقائمٍ». فقد أَكَّدْتَ نفيَ قيامِه بـ (الباءِ)، والباءُ في النفيِ تُفِيدُ التوكيدَ الذي تُفِيدُهُ (إنَّ) في حالةِ الإثباتِ. وهي توكيدٌ للنفيِ، والجارُّ والمجرورُ في مثلِ هذا هو مفردٌ، وليس بِشِبْهِ جملةٍ؛ ولذا لا يُقَدَّرُ له الكونُ ولا الاستقرارُ، فلا يجرى على قولِ ابنِ مالكٍ (٢):

وَأَخْبَرُوا بِظَرْفٍ أَوْ بِحَرْفِ جَرْ نَاوِينَ مَعْنَى (كَائِنٍ) أَوْ (اسْتَقَرْ)
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص ١٨٢ - ١٨٣.
(٢) الخلاصة ص ١٧، وانظر شرحه في التوضيح والتكميل (١/ ١٦٢).
وقوله: ﴿جَمْعُكُمْ﴾ هو ما كنتم تجمعون في دار الدنيا من الأموال، وما كنتم تتخذونه من الجمع المُؤَيِّد من الأولاد والأعوان، كل ما كنتم تجمعونه في الدنيا من الأموال، وتتخذون من الأعوان والأولاد، كل ذلك لم يُغْن عنكم شيئاً، لم ينفعكم بشيء، ولم يدفع عنكم شيئاً؛ إذ أنتم في دركات النار والعياذ بالله.
﴿وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ (ما) مصدرية. أي: ولم يغن عنكم كونكم مستكبرين في الدنيا متكبرين متعاظمين، لم يغن عنكم ذلك الاستكبار والتعاظم شيئاً؛ لأنكم صِرْتُمْ إلى دركات النار. وبعض المفسرين يزعم أنهم ينادون الرؤساء بأسمائِهِمْ فيقولون: يا أبا جهل بن هشام، يا أمية بن خلف، يا فلان بن فلان، يا عتبة بن ربيعة، يا فلان بن فلان ﴿مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ توبيخاً وتقريعاً لهم والعياذ بالله.
وظاهر القرآن أن هذا التوبيخ والتقريع من أصحاب الأعراف لهؤلاء الذين هم في النار، وأصحاب الأعراف يعرفون أهل الجنة وأهل النار، ولا مانع من أن الله يُطْلِع مَنْ فِي الجَنَّة على مَنْ في النار كما سيأتي في قوله: ﴿أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء﴾ [الأعراف: آية ٥٠] وستأتي قصة الرجل في سورة الصافات (١)؛ لأن الله ذكر في الصافات قصة رجل وأجملها، والمفسرون يبسطونها ويشرحونها، إلا أن شرحهم لها وبسطها من القصص الإسرائيلية التي لا يعوَّل عليها، إلا أن القرآن جاء بقدر منها كاف. زعموا أنه كان رجلان في دار الدنيا شريكين ولهما مال عظيم، فاقتسما المال، وكان أحدهما مسلماً
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٣) من سورة الأنعام.
يأكلون بها، فكتموا وغيّروا صفاته حرصًا على ما كانوا يتعاطونه برئاستهم الدينية -قبّحهم الله- هذا معنى قوله: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى﴾.
العرض: حطام الدنيا الزائل، سُمِّي عرضًا؛ لأنه شيء عارض لا بقاء له. والإشارة في قوله: ﴿هَذَا﴾ إلى متاع الدنيا وحطامها الزائل. و ﴿الأدْنَى﴾ لدنوه أو لدناءته ورذالته وعدم أهميته. يعني: يأخذون هذا العرض مُعْتَاضين منه العمل بكتاب الله وتحقيق ما أنزل الله، فهم يأكلون الرُّشَا ليُغَيِّرُوا أحْكَامَ الله ولا يقيموا حُكْمَه في كتابه والعياذ بالله.
وهذه الآية وإن كانت في اليهود فكُلّ مَنْ فَعَلَ فِعْلَهُمْ فهو أخوهم يناله من وعيدها وعذابها ما نالهم. فيجب على المسلم إذا كان في منصب يوصل فيه الحق لصاحبه بإنابة من بسط الله يده ألاّ يغير أحكام الله ويأخذ الرُّشَا بدلاً منها (١)، فإنه إن أخذ الرشوة وغيّر وبدّل فهو أخو اليهود، وهو من هذا الخلْف السيئ القبيح. وأقبح شيء يأكله الإنسان هو الرُّشَا وما جرى مجراها من أنواع السحت؛ لأن السارق خيرٌ من المرتشي، لا شك أن السارق أخف شرًّا من المرتشي؛ لأن السارق يأخذ مال الناس بغير حق مع أنه عالم أنّ فعله خسيس وأنّه خبيث، ولا يدعي أبدًا أنّ فعله طيّب، بخلاف المرتشي -قبّحه الله- فإنه يأكل مال الناس بالباطل وهو يزعم أنّ هذا دين الله وشرعه الذي أنزل به رسله -والعياذ بالله- فمن أقبح المآكل وأخسها الرُّشَا.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٥١) من سورة الأنعام.
وهذا معنى قوله: ﴿فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [التوبة: آية ٩].
﴿سَاء﴾: فعل جامد لإنشاء الذم. هو بمعنى (بئس)؛ لأن (ساء) بمعنى (بئس) وتعمل عمل (بئس) (... ) (١).
و (ما) إذا جاءت بعد (بئس) أو (نِعم) قال بعض العلماء: يجوز أن تكون نكرة مميزة للفاعل الذي هو الضمير المحذوف، ويجوز أن تكون هي فاعل (بئس) و (ساء) و (نِعم) (٢). وهذا معنى قوله: ﴿إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ فعلى أنها مميّزة فالتقدير: (ساء هو) أي: بئس هو شيئاً كانوا يعملونه. وعلى أنها فاعل فالأمر واضح. وهذا معنى قوله: ﴿إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾.
﴿لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ﴾ [التوبة: آية ١٠] كائناً من كان ﴿إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً﴾ أي: قرابة ولا عهداً. أو: لا يرقبون في مؤمنٍ اللهَ، لا يرقبون اللهَ ولاَ يَخَافُونه في المؤمنين فيتَّقون الله فيهم.
ثم قال: ﴿وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ﴾ المعتدي: (مُفْتَعِل) من العدوان، والعدوان: مجاوزة الحد. والمراد بالمعتدين: الذين يُجَاوِزُونَ مَا أحَلَّ اللهُ إِلَى ما حَرَّم. وهذا معنى قوله: ﴿وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ﴾.
ثم قال: ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ﴾ [التوبة: آية ١١] فسَّرْناها.
﴿فَإِخْوَانُكُمْ﴾ أي: فَهُمْ إخْوَانُكم في الدين. مفهومه: أنهم إن
_________
(١) في هذا الموضع كلمة غير واضحة.
(٢) انظر: التوضيح والتكميل (٢/ ١١٧).


الصفحة التالية
Icon