فالذين قالوا: الاجتهادُ ممنوعٌ عليه استدلوا بهذه الآيةِ من سورةِ الأنعامِ، وآيةِ النجمِ وما جرى مَجْرَاهُمَا. قالوا: لأن النبيَّ قال: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الأنعام: آية ٥٠] فَحَصَرَ ما يُتَّبَعُ في الوحيِ، وهذا يمنعُ الاجتهادَ، وأنه لا سبيلَ إلى الاجتهادِ.
وآيةُ النجمِ التي أَشَرْنَا إليها هي قولُه: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى (٤)﴾ [النجم: الآيتان ٣ - ٤].
فَأَجَابُوا عن هذا قَالُوا: وَقَعَتْ وقائعُ تدلُّ على الاجتهادِ في الجملةِ، كما دَلَّتْ عليه آياتٌ من كتابِ اللَّهِ، كقولِه في سورةِ الأنفالِ: قال له اللَّهُ (جل وعلا) لَمَّا اجتهدَ في أُسَارَى أهلِ بدرٍ ولم يَقْتُلْهُمْ، قال اللَّهُ - كأنه لائمٌ له، مُقَرِّعٌ له -: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾ [الأنفال: آية ٦٧] فقولُه: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ﴾ قالوا: دليلٌ على أنه أَسَرَ الأسارى اجتهادًا منه، ولو كان بِوَحْيٍ لَمَا لاَمَه اللَّهُ هذا اللومَ. وكقولِه في براءة: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾ [التوبة: آية ٤٣] فلو كان ذلك العفوُ بِوَحْيٍ لَمَا قال له: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ قالوا: هذه النصوصُ وأمثالُها معناه: أنه يفعلُ بعضَ الأمورِ من غيرِ وحيٍ صريحٍ، بل باجتهادٍ منه.
وكان بعضُ العلماءِ يقولُ: أَمَّا ما يقولُ: إنه يُوحَى إليه، فلا شَكَّ أنه وَحْيٌ من اللَّهِ، وهو الذي فيه: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (٤)﴾ [النجم: الآيتان ٣ - ٤].
وأظهرُ الأقوالِ: أن الشرعَ والتحليلَ والتحريمَ، أنه لا يُحْكَمُ
فهذا لا يُقدَّر فيه كَوْنٌ ولا استقرارٌ؛ لأنه مفردٌ زِيْدَتْ به (باءٌ) للتوكيدِ، ليس بِشِبْهِ جُمْلَةٍ.
والغفلةُ هي: الغفلةُ عن الشيءِ وخروجُه عن الذهنِ للاشتغالِ بغيرِه، فَاللَّهُ لا يغفلُ عما يعملُه الظَّلَمَةُ، فهو (جل وعلا) لا يغفلُ عن شيءٍ، ولكنه يُمْهِلُ ولا يُهْمِلُ. وقد نَهَى اللَّهُ خَلْقَهُ أن يظنوا به هذه الغفلةَ، قال: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ﴾ [إبراهيم: الآية ٤٢] يعني: على قولِه: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ (١) [الأنعام: الآية ١٣٢] ليس بغافلٍ عما يعملونَه من الكفرِ، فهو مُدَّخِرُهُ لهم، ومجازِيهم عليه، وَمُخَلِّدُهُمْ به بالنارِ. ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ ليس اللَّهُ غافلاً عما تعملونَ أيها المسلمونَ من الخيرِ والحسناتِ، فهو مُدَّخِرُهُ لكم ومجازِيكم عليه، فجميعُ الأعمالِ تُحْفَظُ عند اللَّهِ، لا يغفلُ عن شيءٍ منها، يجازِي بها أهلَها يومَ القيامةِ، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ، فمن وَجَدَ خيرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غيرَ ذلك فلا يَلُومَنَّ إلا نفسَه. وهذا معنَى قولِه: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: الآية ١٣٢].
﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُم مِّنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ﴾ [الأنعام: الآية ١٣٣].
﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ﴾ قولُه: ﴿وَرَبُّكَ﴾ خطابٌ لرسولِ اللَّهِ - ﷺ -، وأضافَ لفظةَ الربِّ إليه إضافةَ تشريفٍ وتكريمٍ.
_________
(١) «يعملون» على قراءة ابن عامر.
والآخر كافراً، فكان المسلم يقول للكافر: يا أخي تصدق من مالك واتق الله، وذلك يقول له: أنت مفقود العقل كيف نحيا بعد الموت؟ هذا أمر لا يكون وأنت لا عقل لك!! ثم إن الكافر اشترى بساتين جميلة، ثم سأل ذلك عن الثمن فقيل: اشتراها بكذا، فقال: اللهم إن فلاناً اشترى كذا وكذا من البساتين بكذا وكذا من المال، اللهم إني أشتري إليك من بساتين الجنة بمثل ما اشترى، ثم أخذ قدر الثمن وتصدق به. ثم إن الكافر تزوج امرأة جميلة بارعة في الجمال، وبذل لها مهراً عظيماً. فقال المؤمن: اللهم إن فلاناً تزوج فلانة، وبذل لها من المال كذا، اللهم إني أخطب إليك بقدر ذلك المال من الحور العين، ثم تصدق به على الفقراء. وهكذا إلى أن نفد ما عنده. فجاء لصاحبه الكافر يريد أن يعمل أجيراً عنده فطرده ومنعه، وكان يراوده على الرجوع إلى الكفر، فدخل ذلك المؤمن الجنة وذلك الكافر النار، فبعض الأوقات كان ذلك المؤمن يتحدث مع إخوانه في نعيم الجنة، فأخبرهم أنه كان له صاحب في دار الدنيا من أمره كيت وكيت، وقال لهم: انظروا معي في النار لنعلم ما صار إليه، وننظر ماذا كان مصيره. فقالوا له: لا حاجة لنا فيه، ولا معرفة لنا به، وأنت إن شئت فانظر. فنظر في النار فرآه يتقلب في دركات الجحيم، وهذا الذي ذكرنا الآن تفاصيله إسرائيليات تُحكى ولا يعول عليها.
والصحيح الثابت هو ما نص عليه القرآن في سورة الصافات، وهو قوله: ﴿وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ (٤٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ (٥٠) قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (٥١)﴾ يعني في دار الدنيا ﴿يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢)﴾ وفي القراءة الأخرى (١):
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص٣٧٦.
وأعظم أنواع الرُّشَا خطرًا ارتشاء القاضي الذي هو منصوبٌ ليحكم بين الناس بما أنزل الله، فإذا ترك ما أنزل الله وتعوّض عنه عرض هذا الأدنى -والعياذ بالله- فهو أخس خلق الله، والسارق قد يكون أخف شرًّا منه؛ لأن السارق هو سارق، ولا يدعي سرقته، ولا يجعلها على الله، ولا على رسوله، ولا يقول: الله أمرني أن أسرق. بخلاف القاضي المرتشي فإنه يزعم أن الله أمره بهذا القضاء، وأن هذا حكم الله، وهو سارق شر سرقة.
وكذلك كل من كان في مصلحة -ولو غير قضاء- جعله فيها ولي أمر المسلمين، وأعطاه ماهية شهرية يتقاضاها، فإنه لا يجوز له أن يعطل حقوق الناس ويقول لهم: بُكْرة، وبعد بُكْرة، إلى ألف بُكْرة!! ليرتشي منهم، فإن هذا أمر خسيس قبيح، وفاعله أخو اليهود، لا خير فيه ألبتة، فلا دين له ولا مروءة.
فيجب على المسلمين أن يُنَزِّهُوا ضَمَائِرَهم، وأن يكونوا أمة -ناسًا- كالرجال، ولا ينحطوا أمام هذه المطامع الخسيسة المدنَّسة المُخْزِيَة، لأنه رُبَّ أكلة قبيحة أعقبت صاحبها شرًّا عظيمًا، ألا ترون إلى هؤلاء القوم من اليهود أكلوا سَمَكًا فانظروا ما أعقبتهم هذه الأكلة من الوبال، صاروا قِرَدَةً -والعياذ بالله- فهذه الآية وإن كانت في اليهود فكل من أخذ بشيء منها فهو أخو اليهود بقدر ما أخذ منها، وسيناله من الوعيد بقدر ما أخذ منه. وهذا معنى قوله: ﴿يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى﴾ أي: هذا المتاع والحطام الزائل الأدنى القريب العاجل. أو (الأدنى) لدناءته ورذالته، ومع هذا هم يأكلون الرُّشَا ويُغَيِّرُونَ أحْكَامَ اللهِ، ويدَّعون على الله أنه يغفر لهم هذه الذنوب!! فهذا من الجراءة والجَهْلِ وطَمْسِ البَصَائِرِ لا يعلمه إلا الله.
لم يتوبوا من الشرك، أو لم يقيموا الصلاة، أو لم يؤتوا الزَّكَاة لا يكونون إخواننا في الدين. وهذا معنى قوله: ﴿فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾.
ثم قال تعالى: ﴿وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ﴾ آيات هذا القرآن العظيم، نفصِّلُهَا معْنَاه: نُبَيِّنُهَا ونوضِّحُهَا، ولا نترك بها إجْمَالاً.
﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ إنما خَصّ القَوْم الذين يعلمون؛ لأنهم هم المنتفعون بِهَا؛ لأن من لم يرزقهم اللهُ عِلْماً لا ينتفعون بها. وجرت العادة في القرآن أنه يخص بالشيء العام المنتفعين به دون غيرهم، كقَوْلِهِ: ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا (٤٥)﴾ [النازعات: آية ٤٥] لأنه المنتفع بالإنذار، وإن كان منذراً للأَسْوَدِ والأحْمَرِ ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ﴾ [يس: آية ١١] لأنه المنتفع مع أنه منذر للأسود والأحمر ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [ق: آية ٤٥] لأنه هو المنتفع، وإن كان يُذكِّر جميع الخلق بالقرآن (١). إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى. ونرجو الله (جل وعلا) أن نكون ممَّنْ يَفْهَم عن الله تفصيله لآياته؛ لأن هذا القرآن العظيم فَصَّلَ اللهُ فِيهِ كلَّ شَيْء، وأوْضَحَ فِيهِ كُلَّ شَيْءٍ ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً... ﴾ الآية [الأعراف: آية ٥٢].
{وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ (١٢) أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ (١٣) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة الأنعام.