فيه إلا بالوحيِ، كما جَاءَتْ قصصٌ متعددةٌ أنه إذا جاءَه الأمرُ لا وحيَ فيه: كَفَّ عنه وَأَحْجَمَ، ينتظرُ حكمَ اللَّهِ فيه، حتى يأتيَه الوحيُ فيه، وأن مثلَ الحروبِ كما ذَكَرْنَا في قصةِ بدرٍ، وَمَنْ أُسِرَ منهم هنالكَ، والأمور الدنيوية، أنه ربما يفعلُ فيها الأمرَ، ولا يفعلُه إلا جائزًا؛ لدلالةِ ظواهرِ الشرعِ عليه. إلا أنه رُبَّمَا يكون غيرُه أَوْلَى منه؛ ولهذا يقولُ اللَّهُ: لِمَ فَعَلْتَ كذا؟ من حيثُ إن غيرَه أَوْلَى منه، وإن كان جائزًا. وهذا معنَى قولِه: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾.
ثم أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أن يقولَ: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾ [الأنعام: آية ٥٠]. الله (تبارك وتعالى) ذَكَرَ طائفتين من الناسِ، طائفةٌ ذَكَرَهَا في قولِه: ﴿فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [الأنعام: آية ٤٨] وطائفةٌ ذَكَرَهَا بقولِه: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ﴾ [الأنعام: آية ٤٩] فهؤلاء الذين عَمُوا عن طريقِ الحقِّ حتى دَخَلُوا النارَ، هؤلاء - والعياذُ بالله - عُمْيٌ، وهؤلاء الذين أَبْصَرُوا فَعَمِلُوا لله حتى دَخَلُوا الجنةَ، فهؤلاء هم الْمُبْصِرُونَ، كما قال تعالى في سورةِ هودٍ يضربُ المثلَ بفريقِ الكفارِ وفريقِ المؤمنين: ﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ﴾ [هود: آية ٢٤] فالأَعْمَى والأَصَمُّ: هو فريقُ الكفارِ، والسميعُ والبصيرُ: هو فريقُ المؤمنين، كما قال هنا: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾ [الأنعام: آية ٥٠] لاَ وَاللَّهِ لا يستويانِ، فالأَعْمَى هو مَنْ طَمَسَ اللَّهُ بصيرتَه ولم يُنَوِّرْ قلبَه بنورِ الإيمانِ؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ: ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ وَمَنْ أَرَادَ أن يعرفَ معنَى هذه الآيةِ ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: آية ٤٦] فَلْيَنْظُرْ إلى رَجُلَيْنِ يمشيانِ في الطريقِ، أحدُهما: صحيحُ العينين قويُّ البصرِ،
والربُّ في لغةِ العربِ: يُطْلَقُ على عشرةِ مَعَانٍ (١): منها: السيدُ الذي يَسُوسُ الناسَ ويُدَبِّرُ شؤونَها، وكلُّ مَنْ يسوسُ بلدًا ويدبرُ شؤونَه تقولُ العربُ: هذا رَبُّهُ. وتقول العربُ: فلانٌ رَبُّ بَنِي فُلاَنٍ. أي: سيدُهم الذي يَسُوسُهُمْ ويدبرُ شؤونَهم. والعربُ تقولُ: ربَّه يربُّه. إذا أَصْلَحَ شؤونَه وَسَاسَهُ وَأَصْلَحَ أمورَه. فالفاعلُ: رَبٌّ، والمفعولُ: مربوبٌ. وَمِنْ إطلاقِ العربِ الربَّ على الذي يَسُوسُ الأمورَ وَيُدَبِّرُهَا: قولُ علقمةَ بنِ عَبَدَة التميميِّ، قال لرجلٍ سَادَ قَوْمَهُ (٢):
وكُنْتَ امْرَأً أَفْضَتْ إِلَيْكَ رِبَابَتِي | وقَبْلَكَ رَبَّتْنِي فَضِعْتُ رُبُوبُ |
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٥) من سورة الأنعام.
(٢) السابق.
﴿يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَّدِّقِينَ (٥٢)﴾ ﴿لمن المُصَّدِقين﴾ (١) ﴿أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ (٥٤)﴾ أي: مطلعون معي لننظر مصيره ﴿فَاطَّلَعَ﴾ أي: فاطلع هو، أي: صاحبه المؤمن من الجنة إلى النار ﴿فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ (٥٥) قَالَ تَالله إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧)﴾ [الصافات: الآيات ٤٨ - ٥٧].
وقصة هذا الرجل التي ذكرناها استطراداً تدل على المباعدة من قرين السوء؛ لأن هذا الرجل المؤمن الكريم حلف بالله وهو في الجنة أن قرينه قرين السوء كاد أن يهلكه ويلقيه في النار حيث قال: ﴿قَالَ تَالله إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧)﴾ أي: معك في النار؛ ولذا قال جل وعلا: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ﴾ [الأعراف: الآيتان ٤٨، ٤٩].
واختُلف في قائل هذا القول (٢)، فظاهر القرآن أنه من بقية كلام أصحاب الأعراف، يوبخون رؤساء أهل النار، ويقولون لهم: أهؤلاء الضعفاء المساكين الذين كنتم تسخرون منهم في الدنيا، وتستهزئون بهم، وتضحكون منهم، وتقولون: الله أعظم من أن يعبأ بهؤلاء، والله لا يدخلهم جنة، ولا يدخلهم نعيماً أبداً ﴿أَهَؤُلاء﴾ الضعفاء المساكين الذين كنتم تستهزئون بهم في الدنيا وتسخرون منهم وتُقسمون - تحلفون بالله - ﴿لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ﴾ ماذا قال لهم الله؟ قال لهم: ﴿ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ [الأعراف:
_________
(١) القراءة بتشديد الصاد من (المُصَّدِقين) رواية عن حمزة، كما في القرطبي (١٥/ ٨٢)، البحر المحيط (٧/ ٣٦٠)، الدر المصون (٩/ ٣٠٨).
(٢) انظر: ابن جرير (١٢/ ٤٦٩)، القرطبي (٧/ ٢١٤).
﴿وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا﴾ سيغفر الله لنا أكلنا لهذه الرُّشَا وتبديلنا لهذه الأحكام. وهذا هو الذي جاء فيه: «والعَاجِزُ مَنْ أَتْبَع نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ الأَمَانِيَّ» (١) أتبع نفسه هواها فأكل الرُّشَا، وتمنّى على الله أن يغفر له، والله لا يغفر للمُصِرِّين؛ ولهذا بيّن تعالى أنه يدعي أن الله يغفر له وهو مُصِرّ على أكله الرُّشَا وتَعَوُّضِه حُطَام هذه الدنيا وعَرَضها الزائل من أحكام الله؛ ولذا قال: ﴿وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ﴾ [الأعراف: آية ١٦٩] وإن أصابوا عرضًا آخر زائلاً من الدنيا أخَذُوهُ وأكَلُوه، ومع هذا يَزْعُمون أن الله يغفر لهم!! فهم مُصِِرُّون على أكل الحرام وتغيير أحكام الله بالرُّشَا، ومع هذا هم جازمون بأن الله يغفر لهم!! وهذا هو الغرور، فإذا رأيت المسلم أو مَنْ يَدَّعِي أنَّهُ مسلم يَنْتَهِكُ حرمات الله ويصر ويثق بالمغفرة فاعلم أنه مغرور، وأنه أخو اليهود، ولا يغفر الله له (٢). هذا معنى قوله: ﴿وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ﴾.
﴿أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ﴾ الميثاق (٣): معناه العهد المؤكد، فكل ميثاق عهد، وليس كل عهد ميثاقًا؛ لأن العهد لا يُسمى ميثاقًا إلا
_________
(١) أخرجه أحمد (٤/ ١٢٤)، والترمذي في صفة القيامة، حديث رقم (٢٤٥٩)، (٤/ ٢٣٨)، وقال: «هذا حديث حسن» اهـ. وابن ماجه في الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له. حديث رقم (٤٢٦٠)، (٢/ ١٤٢٣)، والطبراني في مسند الشاميين (١/ ٢٦٦ - ٢٦٧)، (٢/ ٣٥٤)، وفي الصغير (الروض الداني) (٢/ ١٠٧)، وابن عدي (٢/ ٣٩)، والحاكم (١/ ٥٧)، (٤/ ٢٥١)، والبغوي في شرح السنة (١٤/ ٣٠٨)، وهو في ضعيف ابن ماجه حديث رقم (٩٣٠)، المشكاة حديث رقم: (٥٢٨٩).
(٢) لو قال: «وقد لا يغفر الله له» لكان هو اللائق.
(٣) انظر: المفردات (مادة: وثق) ص٨٥٣.
بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٦)} [التوبة: الآيات ١٢ - ١٦].
[هذه] (١) الآياتُ من سورة براءة يكاد المفسِّرون من الصحابة فمن بعدهم يُجمعون على أنها نازلة في نقض أهل مكة للعهد الذين عقدوه مع النبي ﷺ بالحديبية (٢)، وذلك يدل على أن بعض هذه الآيات من سورة براءة نزلت قبل التاريخ الذي كنا نقول؛ لأن هذا نازل قبل عام تسع على القول بأنها في أهل مكة، وعامة المفسرين يقولون: إنها فيهم، ولا نعلم أحداً ممن اشتهر عنهم أخذ العلم يقول في غيرهم إلا القول المروي عن حذيفة بن اليمان (رضي الله عنه) أن هذه في قوم لم يقاتَلوا بعدُ وقت نزولها (٣). وعلى هذا القول فلا تُحفظ تفاصيل لهذا النكث والنقض، بل الظاهر والسياق يقتضي أنها في أهل مكة؛ لأن قوله: ﴿وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ﴾ [التوبة: آية ١٣] الذين هموا بإخراجه هم أهل مكة، وعلى هذا عامة المفسرين.
ومعنى الآية الكريمة: ﴿وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ﴾ [التوبة: آية ١٢] النكث في لغة العرب: هو تفكيك طاقات الشيء المفتول، فالحبل المفتول -مثلاً- إذا فككتَ طاقاته، وجعلت كل واحدة منها على حدة فقد نكثته، وقد نقضته، كما في قوله: ﴿كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً﴾
_________
(١) في هذا الموضع وُجد انقطاع يسير في التسجيل وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.
(٢) انظر: ابن جرير (١٤/ ١٥٤)، القرطبي (٨/ ٨٤).
(٣) أخرجه ابن جرير (١٤/ ١٥٦)، وابن أبي حاتم (٦/ ١٧٦١) وأورد البغوي (٢/ ٢٧٢) عن مجاهد قوله: «هم أهل فارس والروم».