حديدُه جِدًّا، وهو مفقودُ العقلِ. والثاني: أَعْمَى، إلا أنه عَاقِلٌ. فيجدُ ذا العينين الصحيحتين الذي يفقدُ عقلَه، يجدُه يضربُ الجدارَ، ويقعُ على الْحَيَّةِ، ويقعُ على العقربِ، ويسقطُ في البئرِ، ويسقطُ على النارِ، لا يُبْصِرُ شيئًا، ويرى ذلك الكفيفَ الذي عِنْدَهُ عقلُه، عَصَاهُ أَمَامَهُ، يَرُوغُ كَمَا يَرُوغُ الثعلبُ، وَيُحَصِّلُ جميعَ منافعِه، فيعلمُ حقيقةَ قولِه: ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾.
إِذَا أَدْرَكَ الْقَلْبُ الْمُرُوءَةَ وَالتُّقَى فَإِنَّ عَمَى الْعَيْنَيْنِ لَيْسَ يَضِيرُ (١)
وذكر غيرُ واحدٍ كابنِ عبدِ البرِّ في استيعابِه، وغيرُ واحدٍ من الْمُؤَرِّخِينَ، أن ابنَ عباسٍ (رضي الله عنهما) أخبرَه النبيُّ - ﷺ - أنه سَيَعْمَى في آخِرِ عُمْرِهِ (٢)، وقال عند ذلك (٣):
إِنْ يَأْخُذِ اللَّهُ مِنْ عَيْنَيَّ نُورَهُمَا فَفِي لِسَانِي وَقَلْبِي عَنْهُمَا نُورُ
عَقْلِي ذَكِيٌّ وَقَلْبِي غَيْرُ ذِي دَخَلٍ وَفِي فَمِي صَارِمٌ كَالسَّيْفِ مَأْثُورُ
والحاصلُ أن الأَعْمَى هنا: هو الكافرُ، والبصيرُ: هو المسلمُ المؤمنُ؛ لأن المؤمنَ على نورٍ من رَبِّهِ، وبصيرته يُشِعُّها نورُ الوحيِ.
_________
(١) البيت لبشار بن برد، وهو في ديوانه (٤/ ٥١)، وشطره الأول: (إذا أبصر المرء.. ).
(٢) أخرجه الطبراني في الكبير (١٠/ ٢٩٢)، وذكره ابن عبد البر في الاستيعاب (٢/ ٣٥٦)، وابن عساكر في تاريخه (مختصر ابن منظور ١٢/ ٢٩٥، ٢٩٩)، والذهبي في السير (٣/ ٣٤٠) وقال: «إسناده لين» اهـ وقال الهيثمي في المجمع (٩/ ٢٧٧) وفيه من لم أعرفه» اهـ.
(٣) البيت في الاستيعاب (٢/ ٣٥٦)، سير أعلام النبلاء (٣/ ٣٥٧)، ولفظ صدر البيت الثاني:
قلبي ذكي وعقلي غيرُ ذي دَخَلٍ..............................
إلى مالكِ بْنِ عوفٍ النصريِّ، وكان دُريد شائبًا أَعْمَى، وكانت فكرتُه: أن هوازنَ يفعلونَ مثلَ ما فَعَلَتْ ثقيفٌ، يَبْقَوْنَ في ديارِهم، وَيُخْرِجُونَ النبالَ والرماحَ من كُوَى الحصونِ، ويحاصرُهم القومُ فيرامونَهم وهم في مَقَرِّهِمْ. وأبى عن هذه الفكرةِ مالكُ بنُ عوفٍ النصريُّ سيدُ هوازنَ في ذلك اليومِ، وقال: إن لم تطيعونِي لأتكئنَّ على سَيْفِي (في قصةِ حنينٍ المشهورةِ). فخرجَ بهوازنَ بنسائِهم وأطفالِهم وأموالِهم، حتى نزلَ بهم في مضيقِ وَادِي حنينٍ، في طريقِ النبيِّ - ﷺ -، وكان دريدٌ أَعْمَى، فقال: ما لِي أسمعُ رغاءَ البعيرِ ونهاقَ الحميرِ وبكاءَ الصغيرِ؟ يظنُّ أن الخارجين جيشٌ فقط. فقيل له: خَرَجَ مالكُ بنُ عوفٍ النصري بالمالِ، يقول: إن الرجلَ إذا كان معه أهلُه ومالُه وزوجاتُه لاَ يَفِرُّ. فَحَرَّكَ بشفتيه استهزاءً برأيه، وقال: إن الرجلَ إذا انتفخَ سِحْرُهُ - أي: رِئَتُهُ - من الخوفِ لا يَلْوِي على مالٍ ولا ولدٍ.
ونزلوا مضيقَ حنينٍ، وصلَّى النبيُّ - ﷺ - الصبحَ في غَلَسٍ من ظلامِ الليلِ، ثم انحدرَ مع وادي حنينٍ هو وأصحابُه، فلم يعلموا بشيءٍ حتى أَتَوْا هوازنَ، وهم أمامَهم في مضيقِ الوادِي، فَصَبُّوا عليهم النبالَ والسهامَ كأنها مطرٌ تُزَعْزِعُهُ الريحُ، فَوَقَعَ ما وَقَعَ، وقصَّه اللَّهُ في سورةِ براءة: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ﴾ [التوبة: الآية ٢٥] وفي ذلك الوقتِ لم يَبْقَ مع النبيِّ - ﷺ - إلا أَحَدَ عَشَرَ رَجُلاً، وَنَزَلَ عن بغلتِه (دُلْدُل)، بغلة لا تصلحُ لِكَرٍّ ولا لِفَرٍّ، وهو يقولُ:
«أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ
أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ»
آية ٤٩] وعلى هذا فيكون أصحاب الأعراف قد وبَّخوا رؤساء الكفر والقادة بأنهم لم يغن عنهم تكبرهم في الدنيا وجمعهم، وأن الضعفاء المساكين الذين كانوا يسخرون منهم أحلّهم الله دار كرامته، ونفى عنهم الخوف والحزن أبداً.
وقال بعض العلماء: ﴿أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ﴾ هي من كلام الله يوبخ بها الكفار، أو من كلام بعض الملائكة أمره بذلك، وأن قوله: ﴿ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ﴾ راجعه إلى أصحاب الأعراف، أن أصحاب الأعراف بعد أن وبَّخوا أهل النار وهم بين الجنة والنار يطمعون أنه بعد ذلك يرحمهم الله فيتفضل عليهم، ويقول لأصحاب الأعراف: ﴿ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ وهذا الوجه الأخير ذكره جماعة كثيرة من المفسرين، والأول أظهر، وإن كان القائل بهذا الأخير كثيراً جدّاً من علماء التفسير.
والجنة هي دار الكرامة التي أعد الله لأوليائه. ﴿لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ﴾ قد بيَّنَّا (١) أنَّ الخوف في لغة العرب هو: الغم من أمر مستقبل... - أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منه - وأن الحَزَن - يُسمى (حَزَناً) ويسمى (حُزْناً) وفعله يأتي على (حَزَنَ وحَزِن) ومضارعه يأتي على (يَحزِن) و (يَحْزُن) - أنه والعياذ بالله - غم من أمر فائت. تقول: فلان حزين، إذا أصابته مصيبة وكان حزيناً من أمر قد مضى ووقع. وتقول: فلان خائف: إذا كان مغموماً من أمر يتوقعه ولم يأت بعد. هذا أصل الخوف والحزن في لغة العرب -أعاذنا الله منهما- وربما وضعت العرب أحدهما في موضع الآخر فعبرت
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٨) من سورة الأنعام.
إذا كان مؤكدًا خاصة. وقد قدّمنا في هذه الدروس مرارًا (١) أنّ كل فعل مضارع مجزوم بـ (لم) إذا تَقَدَّمَتْه همزة الاستفهام قبلها (لم) كقوله هنا: ﴿أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ﴾ أنّ فيه وجهين معروفين من التفسير في جميع القرآن:
أحدهما: أنه تنقلب مُضَارَعَتُه مَاضَوِيَّة، وينقلب نَفْيُهُ إِثْبَاتًا، فيكون معنى هذا المضارع المنفي بـ (لم) ماضيًا مثبتًا، فيكون معنى ﴿أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ﴾: أخذ عليهم ميثاق الكتاب. ﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (٨)﴾ [البلد: آية ٨]: جعلنا له عينين ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١)﴾ [الشرح: آية ١]: شرحنا لك صدرك. وهكذا. ووجه هذا:
أما وجه قلب مُضَارَعَته مَاضَوِيَّة فلا إشكال فيه؛ لأن (لم) حرف قلب يقلب المضارع من معنى الاستقبال إلى معنى الماضي، وهذا لا إشكال فيه.
أما قلب نفيه إثباتًا فهو الذي يحتاج إلى نظر. وقال بعض العلماء: وجه صيرورة نفيه إثباتًا: أنّ (لم) حرف نفي صريح، وأن الهمزة التي قبلها همزة استفهام إنكار، والإنكار مُضَمَّنٌ معنى النفي، فيتسلط النفي الكامن في الهمزة على النفي الصريح في (لم) فينفيه، ونفي النفي إثبات، فيؤول إلى معنى الإثبات. هذا وجه في التفسير في جميع القرآن في كلّ ما جاء فيه «ألم».
الوجه الثاني: أن الاستفهام لا يُراد به أصل الاستفهام وإنّما يُراد به حمل المخاطب على أن يقر فيقول: بَلَى. وهو المعروف في
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٤٨) من سورة الأعراف.
[النحل: آية ٩٢] جمع نِكْث. وعلماء البلاغة يقولون: إن النكث والنقض حقيقة في الحسِّيَّاتِ، كل مفتول فككت بين طاقاته فقد نَقَضْته وقد نكثته، وأنها في المعنويات كالعهود مستعارة (١). ونحن دائماً نقول: إنها أساليب عربية نطقت بها العرب منذ تكلمت بلغتها، ونزل بها القرآن، يطلق النكث على تفكيك طاقات الحبل، ويطلقه أيضاً على الإخلال بالعهود ونقضها وإبطالها. ﴿وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم﴾ الأيمان: جمع يمين. قال بعض العلماء: هي العهود (٢). وقال بعض العلماء: هي الأيمان التي تؤكَّد بها العهود؛ لأنهم إذا أُخِذَت عليهم العهود أكدوها بالأيمان.
وقوله: ﴿مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ﴾ أي: من بعد العهد الذي عقدوه مع النبي صلى الله عليه وسلم. ﴿وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ﴾ الطعن في الدين معناه: استنقاصه وثَلْبه بالمعايب. يقولون: إن دين الإسلام ليس بشيء، وأنهم يعيبونه إذا نقضوا العهد وعابوا الدين وثلبوه.
_________
(١) انظر: المفردات (مادة: نكث) (٨٢٢) القرطبي (٨/ ٨١)، فتح القدير (٢/ ٣٤١)، التحرير والتنوير (٩/ ٧٣).
(٢) انظر: ابن جرير (١٤/ ١٥٦).
الصفحة التالية