والكافرُ - والعياذُ بالله - مطموسُ البصيرةِ، واللَّهُ يقولُ: ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾.
ثم قال (جل وعلا): ﴿أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ﴾ قد قَدَّمْنَا مرارًا (١) أن هذه الهمزةَ التي تأتي في القرآنِ كثيرًا قبلَ أداةِ عطفٍ - كالتي تأتِي قبلَ (الفاءِ) و (الواوِ) و (ثم)، وهي كثيرةٌ في القرآنِ، قد قَدَّمْنَا مرارًا أن فيها للعلماءِ وجهين:
أحدُهما - واختارَه غيرُ واحدٍ، وإليه جَنَحَ ابنُ مَالِكٍ في ألفيتِه -: أن الهمزةَ تتعلقُ بجملةٍ محذوفةٍ، والفاءَ أو الواوَ تعطفُ الجملةَ التي صُدِّرَتْ بها على الجملةِ المعطوفةِ التي هي مُتَعَلَّقُ الاستفهامِ، ولا بد أن يكونَ في الجملةِ المذكورةِ ما يدلُّ وَتُفْهَمُ منه الجملةُ المقدرةُ، وعليه فتقديرُه هنا: أفلاَ تتفكرونَ؟ أتغفلونَ عن هذه الأشياءِ، فلا تتفكرونَ حتى تَفْهَمُوهَا؟ وما جَرَى مَجْرَى ذلك. وهذا هو الذي اختارَه ابنُ مالكٍ في الخلاصةِ حيث قال (٢):
وحَذْفَ مَتْبُوعٍ بَدَا هُنَا اسْتَبِحْ............................
وهنالك جماعةٌ آخرونَ يقولونَ: إن همزةَ الاستفهامِ هي في الرتبةِ بعدَ حرفِ العطفِ، إلا أنه لَمَّا كان للاستفهامِ صدرُ الكلامِ تَزَحْلَقَتِ الهمزةُ عن محلِّها، وتقدمت على أداةِ العطفِ، وهي بعدَها في الرتبةِ. وعلى هذا فيكونُ المعنَى: (فألا تتفكرون) فتكونُ الفاءُ عاطفةً للجملةِ المُصَدَّرةِ بالاستفهامِ على ما قَبْلَهَا، كأنه يقولُ: فَأَعْطِفُ على ذلك وَأَذْكُرُ بعدَه توبيخَكم وتقريعَكم أنكم لا تتفكرونَ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٧٥) من سورة البقرة.
(٢) السابق.
والشاهدُ: أنه لَمَّا وقعَ ما وقعَ بالمسلمين في أولِ وهلةٍ، وصفوانُ بن أُميةَ حاضرٌ، ومعه رجلٌ يرافقُه، قال ذلك الرجلُ: بَطَلَ الآنَ سحرُ محمدٍ!! يعني: أن هوازنَ غَلَبُوهُ، وأن قومَه انهزموا، وأن ما كان عنده سِحْرٌ، وأنه بَطَلَ. فقال له صفوانُ - وهو محلُّ الشاهدِ -: اسْكُتْ فُضَّ فُوكَ، لئن يَرُبَّنِي رجلٌ من قريشٍ أحبُّ إليَّ من أن يَرُبَّنِي رجلٌ من هوازنَ (١)!! ومعناه: أن يسودَني ويسوسنِي قُرَشِيٌّ، ابنُ عَمِّي، أحبُّ إِلَيَّ من أن يَسُودَنِي واحدٌ من ثقيفٍ، أهلِ الطائفِ. فهذا يُبَيِّنُ أن معنَى (ربّه يَرُبُّهُ) أي: سادَه وساسَه وَدَبَّرَ أمورَه، وهو بالنسبةِ إلى اللَّهِ (جل وعلا): السيدُ الذي يدبرُ شؤونَ الناسِ، ويسوسُ أمورَها، فلا يستغنِي عنه العَالَمُ طرفةَ عَيْنٍ.
قولُه: ﴿الْغَنِيُّ﴾ معناه: هو الذي عنده الغِنَى، واللَّهُ (جل وعلا) غَنِيٌّ بذاتِه غِنًى مُطْلَقًا، لا يحتاج إلى خَلْقِهِ، وخلقُه محتاجونَ إليه. والنكتةُ في الآيةِ: أن اللَّهَ بما مَضَى أَمَرَ وَنَهَى، وَبَيَّنَ ما يُدْخِلُ الجنةَ وما يُدْخِلُ النارَ، ثم نَبَّهَ خلقَه، فكأنه يقولُ: يا عبادي: لا تَظُنُّوا أنني آمُرُكُمْ وَأَنْهَاكُمْ لأَجْلِ أن أَجُرَّ بذلك لنفسِي نفعًا أو أصرفَ عنها ضُرًّا، لا، أنا الغنيُّ بذاتِي الغِنَى المطلق، وإنما النفعُ لكم لا لِي، كما قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر: الآية ١٥] وفي الحديثِ القدسيِّ، الثابتِ في صحيحِ مسلمٍ، عن النبيِّ - ﷺ -، فيما يَرْوِيهِ عن رَبِّهِ، أن اللَّهَ (جل وعلا) يقولُ: «يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٥) من سورة الأنعام.
بالخوف عن غم من أمر فائت. وربما عبّروا بالحزن عن الغم من أمر مستقبل، ربما وضعت أحدهما في موضع الآخر. وهذا معنى قوله: ﴿ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ﴾.
﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قَالُواْ إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ [الأعراف: آية ٥٠] بين (جل وعلا) في هذه الآية الكريمة أن الكفار في دركات النار - والعياذ بالله - إذا أحرقتهم النار وأضر بهم الجوع الشديد والعطش الشديد مع إحراق النار سألوا أهل الجنة، وفي قصتهم أنهم يقولون لله: إن لنا قرابات في الجنة فَأْذَن لنا أن نراهم ونقابلهم ونكلمهم، وأنهم إذا قابلوهم يدعو الواحد أخاه، والواحد أباه، والواحد ابنه، والواحد يدعو ابن عمه؛ لأنه -والعياذ بالله- يكون أَخَوَان أحدهما في الجنة، والثاني في النار، ويكون أَخَوَان، الابن في الجنة، والأب في النار والعكس، فيقولون -لهم يستغيثون بقراباتهم- إنهم في إحراق وجوع وعطش، ويطلبون منهم أن يفيضوا عليهم من الماء ليتبردوا من شدة الحريق الذي هم فيه وشدة العطش، فيجيبوهم: بأن الله حرم ما في الجنة على الكفار - أعاذنا الله من الكفر- وهذا معنى قوله: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء﴾ [الأعراف: آية ٥٠] (أن) هي كالمذكورات قبلها في القولين اللذَين بينَّا.
﴿أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء﴾ إفاضة الماء: صبه بكثرة وسعة.
﴿أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله﴾ [لأعراف: آية ٥٠] (أو) هنا مانعة خلو مُجوِّزة جمع، يجوز أن يكون الماء وحده، أو ما رزقهم الله، أو الجميع.
فنّ المعاني باسْتِفْهَام التقرير (١). والمعنى: أن المراد ﴿أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ﴾ أن يقولوا: بلى أُخذ علينا ميثاق الكتاب.
وقوله: ﴿أَن لاَّ يَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ﴾ أُخذ عليهم العهد المؤكد أن لا يقولوا على الله شيئًا إلا الشيء الحق، فلا يقولوا: إن الحكم هكذا. وهو باطل ليتَعَوَّضُوا الرُّشَا ويأخذوا عرض هذا الأدنى.
﴿وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ﴾ أي: في الكتاب الذي هو التوراة، درسوه: معناه تعلّموه وفهموا معانيه وعلموا أنه لا يجوز تغيير أحكام الله واستعاضة الرُّشَا منها.
ثم قال تعالى: ﴿وَالدَّارُ الآخِرَةُ﴾ هي دار القيامة خير من حطام الدنيا وعرض هذا الأدنى الذي أخذوه ﴿خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ يتقون الله جلّ وعلا: ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ وقُرئ ﴿أَفَلاَ يَعْقِلُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٦٩] (٢).
ثم قال جلّ وعلا: ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ﴾ ولا يأكلون الرُّشَا ولا يَتَعَوَّضُون منه عرض هذا الأدنى ﴿وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ﴾ هي داخلة في التمسك بالكتاب إلا أنه خصّها، لِعِظَم شأنها؛ ولأنها أعظم دعائم الإسلام بعد الشهادتين ﴿إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾ [الأعراف: آية ١٧٠] الأصل: إنا لا نضيع أجرهم [وقرأ العامّة: ﴿يُمسِّكُونَ﴾ بالتشديد مِنْ مَسَّك بمعنى تمسَّك، حكاه أهلُ التصريف، أي: إنَّ (فَعَّل) بمعنى (تَفَعَّل)، وعلى هذا فالباء للآلة كهي في: تمسَّكْتُ بالحبل. وقرأ أبو بكر عن عاصم -ورُوِيت عن
_________
(١) السابق.
(٢) انظر: الإتحاف (٢/ ٦٨).
﴿فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ﴾ الأصل: فقاتلوهم، إلا أن هؤلاء الذين ينقضون العهود ويسبون الدين أجرى الله العادة أنهم الرؤساء المتبوعون؛ لأن الله أجرى عادته بأن الذين يناصبون الرسل بالعداوة هم القادة المتبوعون المُتْرَفُون، كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا﴾ [الزخرف: آية ٢٣] المتنعمون الكبار منها. وهذه سنة الله في خلقه؛ ولذلك لما سأل هرقل أبا سفيان في حديثه الصحيح المشهور: أأشراف الناس يتبعونه أم ضعافهم؟ فقال: بل ضعافهم. قال: أولئك أتباع الأنبياء (١). وهذه سنة الله في كونه؛ ولذا قال: ﴿فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ﴾.
قرأ هذا الحرف من السبعة نافع وابن كثير وابن عامر: ﴿أَئِمَّةَ الْكُفْرِ﴾ بجعل الهمزة الأخيرة بين بين (٢)، وقرأه عامة الباقين من السبعة: ﴿أَئِمَّةَ﴾ بتحقيق الهمزتين.
والأئمة جمع إمام، وأصله: أَأْمِمَة وزنه: (أَفْعِلَة) جمع (فِعَال) كمثال وأمثلة. توصِّلَ فيه إلى الإدغام بتسكين الميم الأولى، ونُقِلَت حركتها إلى الهمزة فقيل فيه: (أئمة) (٣) والأئمة جمع الإمام، والإمام
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٩٣) من سورة الأنعام.
(٢) قال ابن مجاهد في كتاب السبعة ص٣١٢: «قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع: (أَيْمَة) بهمز الألف وبعدها ياء ساكنة. غير أن نافعاً يُختلف عنه في ذلك... وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: (أَئِمة) بهمزتين» اهـ. وانظر: المبسوط لابن مهران ص٢٢٥، النشر (١/ ٣٧٨ - ٣٧٩) وقد فصل في كيفية تسهيل الهمزة الثانية ونقل مذاهب القُرَّاء في ذلك.
(٣) انظر: القرطبي (٨/ ٨٤)، حجة القراءات ص٣١٥، الدر المصون (٦/ ٢٥)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص٢٧.


الصفحة التالية
Icon