حتى تفهموا عن اللَّهِ آياتِه.
﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: آية ٥١].
﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ﴾ الخطابُ للنبيِّ - ﷺ -، وأصحُّ الأقوالِ في مرجعِ الضميرِ: أنه راجعٌ للقرآنِ (١) المُعبَّرِ عنه بقولِه: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ ﴿وَأَنذِرْ بِهِ﴾ أَنْذِرْ بما يُوحَى إليكَ - الذي لا تتبعُ إلا إياه - أَنْذِرْ به الذين يخافونَ.
وفي الآيةِ هنا سؤالٌ، وهو: لِمَ قَصَرَ الإنذارَ على الذين يخافونَ أن يُحْشَرُوا في حالِ كونِهم مُتَجَرِّدِينَ من الأولياءِ والشفعاءِ من دونِ اللَّهِ، مع أن القرآنَ إنذارٌ للأَسْوَدِ والأَحْمَرِ ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ﴾ عن بكرةِ أَبِيهِمْ ﴿نَذِيرًا﴾ [الفرقان: آية ١] وكقولِه: ﴿أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ﴾ [يونس: آية ٢] لِمَ خَصَّ هنا الذين يخافون؟ (٢).
أجابَ بعضُ العلماءِ عن هذا السؤالِ: بأن من أساليبِ القرآنِ العظيمِ، واللغةِ العربيةِ، أن يُقْصَرَ الفعلُ على الذين ينتفعون به؛ لأن غيرَ المنتفعِ به هو في شأنِه كَلاَ شَيْءٍ. ونظيرُ الآيةِ من القرآنِ: ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [ق: آية ٤٥] مع أنه تذكيرٌ للأَسْوَدِ والأحمرِ ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ [يس: آية ١١] وهو منذرٌ للأسودِ والأحمرِ ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ﴾ [فاطر: آية ١٨] وهو منذرٌ للأسودِ والأحمرِ. أي: بأنهم هم الْمُنْتَفِعُونَ.
_________
(١) انظر: القرطبي (٦/ ٤٣٠)، البحر المحيط (٤/ ١٣٤).
(٢) انظر: المصدرين السابقين، والأضواء (٦/ ٢٢٤).
وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا» الحديثَ (١). فهو (جل وعلا) لا ينتفعُ بطاعةِ المطيعِ، ولا تضرُّه معصيةُ العاصِي: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [إبراهيم: الآية ٨] ﴿فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [التغابن: الآية ٦] ولذا قال هنا: ﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ﴾ الذي لا تنفعُه طاعةُ مَنْ أَطَاعَ منكم، ولا تضرُّه معصيةُ مَنْ عَصَى منكم، وهو غَنِيٌّ بذاتِه غِنًى مُطْلقًا.
﴿ذُو الرَّحْمَةِ﴾: هو الرحيمُ الذي يرحمُكم - إن اتبعتُم أوامرَه - يومَ القيامةِ، كما قال تعالى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: الآية ٤٣] أي: يدعُوكم إلى طاعتِه - وهو رحيمٌ - ليرحمَكم ويدخلَكم جَنَّتَهُ.
وقد قَدَّمْنَا أن (الرحمنَ) هو ذو الرحمةِ الشاملةِ لجميعِ الخلائقِ في الدنيا، و (الرحيمُ) هو الذي يَرْحَمُ عبادَه المؤمنين في الآخرةِ (٢)، ومن رحمانيتِه (جل وعلا): لطفُه بالطيرِ الصافاتِ، كما قال: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ﴾ [الملك: الآية ١٩] أي: ومن رحمانيتِه: لطفُه بالطيرِ صافاتٍ وقابضاتٍ في جوِّ السماءِ، وإمساكُه لها. وهذا معنَى قولِه: ﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ﴾ يعني: وَمِنْ شدةِ غناهُ عنكم وعن أعمالِكم، وعدمُ حاجتِه إليكم،
_________
(١) أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، حديث رقم: (٢٥٧٧) (٤/ ١٩٩٤) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(٢) في الفرق بين (الرحمن) و (الرحيم) انظر: ابن جرير (١/ ١٢٦)، القرطبي (١/ ١٠٥)، ابن كثير (١/ ٢٠)، مدارج السالكين (١/ ٧٥)، بدائع الفوائد (١/ ٢٤)، أضواء البيان (١/ ٣٩ - ٤١).
﴿أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله﴾ بعضهم يقول: مما رزقكم الله من الأنواع التي تشبه الماء كالألبان وكالخمر؛ لأن الإفاضة يظنون أنها تختص بالسائلات، وعلى هذا قدروا في قوله: ﴿أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله﴾ أو ألقُوا إلينا مما رزقكم الله. وهذا وإن كان سائغاً في اللغة العربية - أن يُحذف فعل يدل [عليه] (١) المقام، وهذا موجود كثيراً في اللغة العربية - إلا أنه لا يُحتاج إليه في هذه الآية الكريمة، وهو معروف في كلام العرب، كقول الراجز (٢):
عَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارِداً | حَتَّى شَتَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا |
إِذَا مَا الغَانِيَاتُ بَرَزْنَ يَوْماً | وَزَجَّجْنَ الحَواجِبَ والعُيُونَا |
وَرَأَيْتُ زَوْجَكِ في الْوَغَى | مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحاً |
_________
(١) في الأصل: «على».
(٢) البيت في الخصائص (٢/ ٤٣١).
(٣) مضى عند تفسير الآية (١٠٨) من سورة الأنعام.
(٤) البيت في الخصائص (٢/ ٤٣١)، شرح القصائد المشهورات (١/ ١٣٣).
أبي عمرو وأبي العالية: ﴿يُمْسِكُونَ﴾ بسكون الميم وتخفيف السين مِنْ أَمسَك، وهما لغتان، يقال: مَسَكْت وأمْسكت، وقد جمع كعب بن زهير بينهما في قوله:] (١).
وَمَا تَمَسَّك بالعَهْدِ الذي زَعَمت | إلاَّ كَمَا يُمْسِكُ المَاءَ الغَرَابيلُ (٢) |
﴿وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤)﴾ [الأعراف: الآيات ١٧١ - ١٧٤].
يقول الله جل وعلا: ﴿وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١)﴾ [الأعراف: آية ١٧١].
_________
(١) في هذا الموضع انقطع التسجيل. وما بين المعقوفين [] زيادة نقلتها بحروفها من الدر المصون (٥/ ٥٠٨) وبها يتم الكلام.
(٢) شرح قصيدة كعب بن زهير لابن هشام ص١٣٨.
(٣) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢١٦.
هو: المقْتَدَى به. وللكفر أئمة يُقْتَدَى بِهِمْ فيه -والعياذ بالله- كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ [القصص: آية ٤١].
﴿فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ﴾ أي: رؤساء الكُفْر وعُظَمَاءَهُ الذين عابُوا دِينَكُمْ ونَقَضُوا عُهُودَكُمْ. والعادة أن الذي يَتَصَدَّى لِتَكْذِيبِ الرّسل وعنادهم وعداوتهم الرؤساء المتبوعون، شياطين الإنس. وما جرى على ألْسِنَة كثير من العلماء هنا أنهم: أبو جهل وأمية بن خلف وسهيل بن عمرو إلى أشراف المذكورين في غزوة بدر، فهو خلاف الظاهر (١) للإجماع على تأخر هذه الآيات كثيراً إلى عام تسع، أو إلى أنها نزلت قبل الفتح عام ثمان، وهذا معنى قوله: ﴿إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ﴾.
قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير ابن عامر: ﴿إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ﴾ بفتح الهمزة. وهو جمع يمين، وقَرَأَهُ ابْنُ عامر من السبعة: ﴿إنهُمْ لا إِيمانَ لهُمْ لعَلَّهم يَنتَهون﴾ (٢).
فعلى قراءة الجمهور (٣): ﴿لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ﴾ جمع يمين، التحقيق فيها: أنَّ نَفْي أيمانهم على قراءة الجمهور إنما يراد به أنَّهُمْ لا يوفون بها وهي عندهم كَلاَ أيْمَان؛ لأنهم ينقضونها، وهذا أسلوب عَرَبِي معروف؛ تقول العرب لمن يكذب وينقض العهود: لا تَغْتَرّ بِيَمِينِ هذا
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٤/ ١٥٤)، ابن عطية (٨/ ١٤١)، القرطبي (٨/ ٨٤)، فتح القدير (٢/ ٣٤١).
(٢) انظر: السبعة ص٣١٢، المبسوط لابن مهران ص ٢٢٥.
(٣) في توجيه القراءتين انظر: ابن جرير (١٤/ ١٥٧)، القرطبي (٨/ ٨٥)، حجة القراءات ص ٣١٥، الدر المصون (٦/ ٢٥).