ومعنى: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ﴾ أَعْلِمْهُمْ بما عندَ اللَّهِ في الأوامرِ والنواهِي، مقترنًا ذلك الإعلام بالتهديدِ والتخويفِ من خالقِ السماواتِ والأرضِ إن لم يَمْتَثِلُوا أمرَه وَيَجْتَنِبُوا نَهْيَهُ.
وقولُه: ﴿يَخَافُونَ﴾ هو معنَى الخوفِ على بابِه (١). ﴿يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ﴾ مادة (خاف) تتعدَّى بِنَفْسِهَا، وتتعدَّى بالحرفِ. وهي هنا متعديةٌ بنفسِها، والمصدرُ المنسبكُ من (أن) وصلتِها في قولِه: ﴿أَنْ يُحْشَرُوا﴾ في محلِّ نصبٍ معمولٌ به للخوفِ. والمعنَى: يخافونَ الحشرَ إلى رَبِّهِمْ. والحشرُ معناه: جمعُ الناسِ.
وقولُه: ﴿لَيْسَ لَهُم مِّنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ﴾ هذه الجملةُ الفعليةُ الْمُصَدَّرَةُ بهذا الفعلِ الناقصِ هي في محلِّ الحالِ (٢). وهذه الحالُ هي التي يَنْصَبُّ عليها الخوفُ. أي: يخافونَ حشرَ الناسِ في حالِ كونِهم ليس لهم من دونِ اللَّهِ وَلِيٌّ ولا شفيعٌ.
ومعنَى: ﴿وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ﴾ الوليُّ في لغةِ العربِ (٣): هو كُلُّ مَنْ يَنْعَقِدُ بينَك وبينَه سببٌ يجعلكَ تُوَالِيهِ وَيُوَالِيكَ؛ وَلِذَا كان كُلُّ قريبٍ للرجلِ مِنْ عَصَبَتهِ يُسَمَّى (وَلِيًّا)، وكلُّ صديقٍ حميمٍ يُسَمَّى (وَلِيًّا)؛ ولهذا كان اللَّهُ وليَّ المؤمنين، والمؤمنون المتقونَ أولياءَ اللَّهِ؛ لأن الإيمانَ سببٌ منعقدٌ بين العبدِ وَرَبِّهِ، يكونُ بسببِه اللَّهُ يُوَالِي العبدَ بالإحسانِ والرحمةِ والجزاءِ، والعبدُ يُوَالِي اللَّهَ بالطاعاتِ ونحوِ ذلك. والمعنَى: ﴿لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ﴾ يُحْشَرُونَ في حالِ كونِهم وقتَ ذلك
_________
(١) انظر: البحر المحيط (٤/ ١٣٥).
(٢) المصدر السابق.
(٣) انظر: المفردات (مادة: ولي) ص ٨٨٥.
ولا إلى طاعتِكم، ولا إلى معصيتِكم، فهو في قدرتِه أن يذهبَكم جميعًا ويجعلَكم أثرًا بعدَ عَيْنٍ، ويأتي بقومٍ آخرِينَ غيركم، كما جاء بكم أَنْتُمْ من ذريةِ قومٍ آخَرِينَ. وهذا معنَى قولِه: ﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ﴾.
﴿وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ﴾: أي: يَجْعَلْ خلفاءَ فِي الأرضِ بعدَكم خَلَفًا منكم ﴿مَّا يَشَاءُ﴾ من خَلْقِهِ. وهذا المعنَى تَكَرَّرَ في القرآنِ، يُبَيِّنُ اللَّهُ للناسِ أنه قادرٌ على أن يزيلَهم عن بكرةِ أبيهم، ويستبدلَ قومًا غيرَهم، وقد يكونُ المستبدلونَ خيرًا منكم أيها المخاطَبونَ، كقولِه في سورةِ النساءِ: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا﴾ [النساء: الآية ١٣٣] وقولُه (جل وعلا): ﴿وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا﴾ [هود: الآية ٥٧] إذا استخلفَ غيرَكم فما عليه في ذلك مِنْ ضَرَرٍ، وقولُه في سورةِ فاطرٍ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (١٧)﴾ [فاطر: الآيات ١٥ - ١٧] أي: ليس فيه صعوبةٌ عليه ولا مشقةٌ، بل هو هَيِّنٌ عليه يَسِيرٌ. وقولُه في أُخْرَيَاتِ سورةِ القتالِ - سورةِ محمدٍ - حيث قال فيها: ﴿وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد: الآية ٣٨] وقد قال في الواقعةِ: ﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ﴾ [الواقعة: الآيتان ٦٠، ٦١] وقد قال في الإنسانِ: ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً﴾ [الإنسان: الآية ٢٨] يعني: فَذَهَابُكُمْ جميعًا والإتيانُ ببدلٍ منكم، سهلٌ عَلَيَّ، خفيفٌ عندي، لا يضرُّني شيئًا، فأنتم إنما تنتفعونَ بطاعتِكم
المرفوعات من كلام العرب قول لبيد بن ربيعة في معلقته (١):

فَعَلا فُرُوعُ الأَيْهُقَانِ وأَطْفلَت بالجَلْهَتين ظِباؤُها ونَعَامُها
لأن النعام لا يُطْفِل، وإنما هو يبيض حتى بعد ذلك ينفلق البيض عن الأطفال. هكذا قال بعضهم، والتحقيق أن إفاضة الشيء وإلقاءه بكثرة قد يكون في المائعات وغير المائعات، وقد أطلقه الله على الآدميين المفيضين من عرفات وهم ليسوا من المائعات، كما قال: ﴿ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ [البقرة: آية ١٩٩] ﴿فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ﴾ [البقرة: آية ١٩٨] والعرب تقول: «أفاض علينا من طعامه، وأفاض علينا من رزقه». إذا أكثر، كما هو معروف. فلا حاجة إلى هذا التقدير الذي ذهب إليه كثير من المفسرين.
﴿أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله﴾ من مآكل الجنة ومشاربها، يطلبونهم ويستجدونهم. قال بعض العلماء: يسألون مع اليأس. وقال بعضهم: لهم طمع لشدة ما هم فيه. فأجابهم المؤمنون في الجنة، فقالوا: ﴿إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا﴾ أي: الشيئين اللذين [سألتم] (٢)، وهما: الماء وما رزقنا الله من نعيمه غير الماء.
﴿حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [الأعراف: آية ٥٠] والتحريم هنا تحريم كوني قدري، أي: منعهما من الكافرين؛ لأن التحريم يُطلق
_________
(١) شرح القصائد المشهورات (١/ ١٣٢). وقوله: «الأيهُقَان» جمع أَيهُقانة، وهو الجرجير البري. وقوله: «وأطفلت» أي: كثُر أطفالها. والجلهتان: جانبا الوادي. والمعنى: أن الشاعر يصف دياراً خلت من أهلها فنما فيها الجرجير البري وارتفع وكثر أولاد الوحش بها لأمنها فيها.
(٢) في الأصل: «سألتما».
الظرف في قوله: ﴿وَإِذ﴾ يقول المفسرون: هو منصوب بـ (اذكر) مقدرًا (١). والدليل على أن العامل في هذا الظرف المحذوف هو (اذكر) كثرة ورود لفظة (اذكر) عاملة في (إذ) في القرآن، نحو قوله: ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ﴾ [الأحقاف: آية ٢١] ﴿وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ﴾ [الأنفال: آية ٢٦] ﴿وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً﴾ [الأعراف: آية ٨٦] ونحو ذلك من الآيات. واذكر يا نبي الله عناد اليهود ولجاجهم القديم في أسلافهم، ومن جملة ذلك العناد واللجاج والكذب العريق في أسلافهم تكذيبهم برسالتك وإنكارهم لصفاتك الموجودة في كتبهم عندهم.
وقوله: ﴿نَتَقْنَا﴾ العرب تقول: نَتَقَ الشَّيْءَ: إذَا رَفَعَهُ. وبعض العلماء يقول: النتق أخص من مطلق الرَّفْع؛ لأن النتق رفع مع حركة قوية؛ تقول العرب: نَتَقْتُ السِّقاء: إذا رَفَعْتَهُ وَهَزَزْتَهُ هزًّا قويًّا ليخرج زُبْده (٢).
والجبل هنا هو الطور. وقد ذَكَرْنَا رَفْع الطور عليهم في سورة البقرة وفي سورة النساء. وبعض العلماء يقول (٣): كل جبلٍ طور. وبعض العلماء يقول: الطور أخص من مطلق الجبل، فالطور هو خصوص الجبل الذي تحفّ به أشْجَار مُثْمِرة. وعلى هذا القول فكل طور جبل، وليس كل جبل طورًا.
والنتق في هذه الآية من سورة الأعراف هو الرفع المصرّح به في البقرة والنساء.
_________
(١) راجع ما سبق عند تفسير الآية (٥١) من سورة البقرة.
(٢) انظر: ابن جرير (١٣/ ٢١٧، ٢١٩)، الدر المصون (٥/ ٥٠٩).
(٣) انظر: المفردات (مادة: طور) ص٥٢٨، القرطبي (١/ ٤٣٦).
فلا يمين له، يعني: لا يَفِي بِهَا ولا يبرّها ولا يوفي بعهد، وهذا المعنى مشهور في كلام العرب، ومنه قول الحماسي (١):
وَإِنْ حَلَفَت لاَ يَنْقُضُ البَيْنُ عَهْدَهَا فَلَيْسَ لِمَخْضُوبِ البَنَانِ يَمِينُ
يعني ليس للنساء أيْمَان؛ لأنهن ينقضنها غالباً. هذا مراده.
وقد تمسك الإمام أبو حنيفة -رحمه الله- بظاهر هذه الآية فقال: لا تُقبل يمين من كافر، ويمين الكافر كَلاَ شَيْء، فلا يمين له؛ لأن الله يقول: ﴿إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ﴾ (٢).
وعلى قراءة ابن عامر: ﴿إنهُمْ لاَ إِيمَان لهُمْ لعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ﴾ ففي معنى الآية الكريمة وجهان واضحان معروفان من التفسير:
أحدهُمَا: أن المراد بالإيمانِ المنفِيِّ عنهم هو الإيمان الذي هو دين الإسلام، يعني: لا إسلام لهم ولا دين.
القول الثاني: -وهو أظهرهما- أنه مصدر: (آمَنَه يؤمِنُه إيماناً) إذا أمَّنه وجعله في مأمن. فالعرب تقول: آمنت فلاناً أومنه، معناه: أمّنته وجعلت له الأمان، وهو معنى مشهور في كلام العرب؛ منه قول الشاعر (٣):
أَيَّانَ نُؤْمِنْكَ تُؤْمَنْ غَيْرَنَا وَإِذَا لَمْ تُدْرِكِ الأَمْنَ منَّا لم تَزَلْ حَذِرَا
وهذا أظهر القَوْلَيْنِ؛ لأَنَّ نفي الإيمان عن أئمة الكُفْر معروف واضح. وهذا معنى قوله: ﴿إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ﴾.
_________
(١) البيت في القرطبي (٨/ ٨١)، الدر المصون (٦/ ٢٦) وفي القرطبي: «لا يَنْقُضُ النأيُ» وفي الدر المصون: «لا تَنْقُضُ الدهرَ».
(٢) انظر: المبسوط للسرخسي (٨/ ١٤٧).
(٣) البيت في البحر المحيط (٤/ ٤١٩)، الدر المصون (٥/ ٥٢٩).


الصفحة التالية
Icon