الحشرِ ليس لهم ﴿وَلِيٌّ﴾ أحدٌ بينَهم وبينَه سببٌ يَجْعَلُهُ يُوَالِيهِمْ فيكون وَلِيًّا لهم يمنعُهم مِمَّا أرادَ اللَّهُ أن يفعلَ بهم إذا عَصَوْهُ.
وقولُه: ﴿مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ﴾ (الشفيعُ) في لغةِ العربِ (١): فعيلٌ بمعنى فاعلٍ. أصلُه: (شافعٌ). وأصلُ (الشفاعةِ) مشتقَّةٌ من (الشَّفْعِ) و (الشَّفْع) ضِدُّ الوترِ، وإنما قيل للشفيعِ: (شفيعٌ) لأن صاحبَ الحاجةِ كان فردًا في حاجتِه فَلَمَّا جاءَ إلى من يشفعُ له شَفَعَهً فصارا اثنين في حاجتِه، ومنها قيل له: (شفيعٌ)؛ لأنه من (الشَّفْعِ).
والشفاعةُ في الاصطلاحِ (٢): هي التوسطُ للغيرِ في جلبِ [نفع] (٣) أو دفعِ ضُرٍّ، وهو على قِسْمَيْنِ: شفاعةٌ في الدنيا وشفاعةٌ في الآخرةِ، أما شفاعةُ الدنيا فهي قد تكونُ عندَ الملوكِ، وعندَ غيرِهم من العظماءِ، وهي نَوْعَانِ (٤): إذا كان الإنسانُ يشفعُ لينقذَ مظلومًا، أو يحققَّ حَقًّا، أو يبطلَ باطلاً، أو يوصلَ إنسانًا إلى حَقِّهِ الممنوعِ منه فهذه الشفاعةُ طيبةٌ، صاحبُها مأجورٌ عليها، وهي التي قال فيها النبيُّ - ﷺ - في الحديثِ الصحيحِ: «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ» (٥). وتارةً تكونُ الشفاعةُ هي التوسطُ في أمرٍ خبيثٍ لاَ يجوزُ، كأن يتوسطَ رجلٌ لرجلٍ في امرأةٍ لِتُمَكِّنَهُ من نفسِها، أو يتوسط له عند سلطانٍ لينزعَ حقَّ رجلٍ آخَرَ، وما جرى مجرَى ذلك من الشفاعةِ، أو يشفع ليسقطَ حَدًّا من حدودِ اللَّهِ. وهذه الشفاعةُ
_________
(١) المصدر السابق (مادة: شفع) ص ٤٥٧.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٤٨) من سورة البقرة.
(٣) في الأصل: مكروه.
(٤) راجع ما سبق عند تفسير الآية (٤٨) من سورة البقرة.
(٥) مضى عند تفسير الآية (٤٨) من سورة البقرة.
وتتضررونَ بمعصيتِكم، وأنا الغنيُّ بذاتِي عنكم، القادرُ على أن أُذْهِبَكُمْ، وآتِي بغيركم، وقولُه: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ المرادُ هنا: الإذهابُ بوقتٍ واحدٍ، بأن يذهبَهم جميعًا، وليس المرادُ أن يذهبَهم تَدْرِيجًا بالموتِ (١)،
كما هي عادتُه في القرونِ أن يُفْنِيَ قَرْنًا تدريجًا بالموتِ، ثم يأتي بعدَه بقرنٍ آخَرَ تدريجًا بالولادةِ؛ لأن هذا هو الواقعُ، فلو كان هو المرادَ لَمَا قال: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ﴾ لأنه مُذْهِبُهم قَطْعًا وَمُسْتَخْلِفٌ بعدَهم ما يشاءُ على التدريجِ، هذا واقعٌ قَطْعًا.
وقولُه: ﴿وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ﴾ عَبَّرَ بـ (ما) هنا للإبهامِ في الشيءِ، وإن كان قد يقعُ على العاقلِ؛ لأن المقررَ في علمِ النحوِ: أن الشيءَ إذا أُبْهِمَتْ صفاتُه - أي: كان المرادُ صفاته مثلا - أنه يُعبَّرُ عنه بـ (ما) (٢).
وهذا معنَى قولِه: ﴿وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُم مِّنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ﴾ كما أنه كان في الأرضِ قَبْلَكُمْ ناسٌ غيركم - قال بعضُهم: هم الذين كانوا في سفينةِ نوحٍ، وقال بعضُهم: يَعُمُّ ما قبلَهم من القرونِ. كان قبلَكم ناسٌ أهلُ ثروةٍ وأهلُ غِنًى في الدنيا، وأهلُ تَمَدُّنٍ ومكاناتٍ (٣) - أَذْهَبْنَاهُمْ جميعًا، وَجِئْنَا بكم، وَجَعَلْنَاكُمْ خلفاءَ في الأرضِ بعدَهم، كما أَذْهَبْنَا أولئك وجعلناكم خَلَفًا بعدهم، فنحن قادرونَ أيضًا على أن نفعلَ بكم مثلَ ذلك، وهذا معنَى قولِه: ﴿وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُم مِّنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ﴾.
_________
(١) انظر: البحر المحيط (٤/ ٢٢٥)..
(٢) انظر: الكوكب الدري ص ٢١٠، التوضيح والتكميل (١/ ١١٥).
(٣) انظر: البحر المحيط (٤/ ١٢٥).
في القرآن وفي لغة العرب على التحريم الشرعي، وعلى التحريم بمعنى المنع. وليس المراد هنا أنهما شرعاً محرمات، ولكنه تحريم قدري، وأن الله منع منهما الكافرين منعاً باتّاً بقدره وقضائه، ونظيره من التحريم بالمعنى القدري لا بالمعنى الشرعي قوله: ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ [المائدة: آية ٢٦] وقوله جل وعلا: ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ﴾ [القصص: آية ١٢]؛ لأن الرضيع لا يؤاخذ بالتحريم الشرعي حتى يكون عليه حرام أو حلال. والمعنى: منعناه منهما. ﴿وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ (٩٥)﴾ [الأنبياء: آية ٥٠] هو من التحريم بمعنى المنع كوناً وقدراً. والتحريم بمعنى المنع معروف في كلام العرب، مشهور في لغتهم التي نزل بها القرآن، ومنه قول الشاعر (١):

حَرَامٌ عَلَى عَيْنَيَّ أَنْ تَطْعَمَ الْكَرَى وَأَنْ تَرْقَآ حَتَّى أُلاَقِيكِ يَا هِنْدُ
فمعنى «حرام على عيني أن تطعم الكرى»: ممنوعتان من ذوق النعاس والنوم. ونظيره قول امرىء القيس لِفَرَسِهِ (٢):
جَالتْ لِتَصْرَعنِي فَقُلْتُ لهَا اقْصُرِي إِنِّي امْرُؤٌ صَرْعِي عَلَيْكِ حَرَامُ
أي: لا تقدرين عليه. فمعنى: ﴿إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ حكم بمنعهم منهما حكماً باتّاً، كما قال (جل وعلا) عن عيسى ابن مريم: ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الْجَنَّة وَمَأْوَاهُ النَّارُ﴾ [المائدة: آية ٧٢] وكذلك الكفار كما أن الجنة حرام عليهم فما فيها من الماء والرزق والنعيم حرام عليهم لا يذوقونه أبداً. وهذا
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٥١) من سورة الأنعام.
(٢) السابق.
والجبل المذكور في الأعراف هو الطور المصرّح به في سورة البقرة وفي سورة النساء؛ لأن الله ذكر رفع هذا الجبل عليهم في سورة البقرة فقال جلّ وعَلا: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ﴾ [البقرة آية ٦٣] وقال في سورة النساء: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا﴾ الآية [النساء: آية ١٥٤]. ورفع الطور عليهم لأن نبي الله موسى (عليه وعلى نبيا الصلاة والسلام) لما كتب الله له كتابه التوراة بَيّنَ فيه الحلال والحرام والعَقَائِدَ وتفصيل كل شيء يُحْتَاج إليه من أمور الدنيا والآخرة، كانت فيه أوامر ونواهٍ زَعَمَ اليهود أنها شَاقَّةٌ عليهم فامتنعوا من قبولها، فلما عرض عليهم نبي الله موسى التوراة قالوا: لا نقبل هذا الكتاب، ولا نَتَحَمَّلُ هَذِهِ الأوَامِر والنواهي التي هي فيه؛ لأن فيها مشقة علينا. فأمر الله المَلَك فهزَّ الطور فاقتلعه ورفعه فوقهم قدر معسكرهم. والمؤرخون يقولون: هم قدر فرسخ في فرسخ، فصار الجبل فوقهم بقدرة الله كأنه ظُلّة، كأنه غمامة تظلهم فوق رؤوسهم، وقيل لهم: إنما هي واحدة من اثنتين: ﴿خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ﴾ [البقرة: آية ٦٣] التزموا ما في التوراة من الأحكام بقوة، أي: بجدٍّ واجتهادٍ بالعمل بما فيه والمحافظة عليه، وإلاّ سقط عليكم هذا الجبل. فلما نظروا الجبل فوقهم كأنه ظلّة خروا ساجدين، كل واحدٍ منهم خَرَّ ساجدًا على شِقِّ جبهته الأيسر، فسجود الواحد منهم بحاجبه الأيسر وعينه اليمنى ناظرة إلى الجبل خوفًا من سقوطه إليه، والتزموا العمل بما في التوراة، فرفع الله عنهم الجبل. وكان سجود اليهود على شِقِّ الجبهة الأيسر يقولون: هذا السجود هو الذي رفع الله عنا بسببه العقوبة، وهذا معنى قوله: ﴿وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ﴾؛ أي: رَفَعْنَا فوقهم الطور
قوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ﴾ متعلق بقوله: ﴿فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ﴾ فقاتلوهم لأجل أن يكون قتالكم لهم رادعاً وسبباً لانتهائهم.
وقد قدمنا في هذه الدروس مراراً (١) أَنَّ مِنْ أَشْهَرِ مَعَانِي (لعل) في القرآن معنيان:
أحدهما: أنها على معناها الظاهر من التَّرَجِّي، والمعنى: قاتلوهم على رَجَائِكُمْ أنَّ ذَلِك القتال يكون موجباً لانتهائهم عن الكُفْر والطعن في الدين، وهذا بحسب ما يظهر للناس الذين يجهلون العواقب، أما الله (جلّ وعلا) فهو عالم بما كان وما يكون، وعلى هذا المعنى فقوله: ﴿فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ﴾ [طه: آية ٤٤] أي: على رجائكما بقدر علمكما أن يكون ذلك سبباً لأن يتذكر أو يخشى.
الوجه الثاني: هو ما قاله بعض علماء التفسير من أن كل (لعل) في القرآن فهي بمعنى: التعليل، إلا التي في الشعراء ﴿وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩)﴾ [الشعراء: آية ١٢٩] قالوا: هي بمعنى كأنَّكُمْ تَخْلدون. وإتيان «لعل» بمعنى التعليل معنىً معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر (٢):
فقُلتُم لنا كُفُّوا الحروبَ لعلَّنَا نكفُّ ووثَّقْتُم لَنَا كلَّ موثقِ
فقوله: «كفوا الحروب لعلنا نكف» أي: كفوا لأجل أن نكف عنكم.
_________
(١) راجع ما سبق عند تفسير الآية (٥٢) من سورة البقرة.
(٢) السابق.


الصفحة التالية
Icon