خبيثةٌ قبيحةٌ صاحبُها يُؤْزَرُ عليها، وهي من عظائمِ الذنوبِ، وقد أشارَ اللَّهُ إلى هذا التفصيلِ في سورةِ النساءِ في قولِه: ﴿مَّنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا﴾ [النساء: آية ٨٥].
أما الشفاعةُ في الآخرةِ فَكُلُّهَا لله جل وعلا ﴿قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾ [الزمر: آية ٤٤] لا شافعَ ذلك اليومَ إلا بإذنِ اللَّهِ.
والشفاعةُ يومَ القيامةِ قِسْمَانِ: شفاعةٌ باطلةٌ مردودةٌ، وهي التي كان يفهمُها الكفارُ، وهي من أنواعِ الكفرِ بِاللَّهِ، وهي: ادعاءُ الكفارِ أن الأصنامَ تشفعُ لهم بلا إذنٍ من اللَّهِ (جل وعلا)، إِذْ من المعلومِ أن الأوثانَ لاَ تشفعُ بإذنِ اللَّهِ كما قال: ﴿وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [يونس: آية ١٨] وهذا النوعُ من الشفاعةِ سَمَّاهُ اللَّهُ في سورةِ يونسَ: (شِركًا) حيثُ قال: ﴿وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ وهذا النوعُ إنما سَمَّاهُ اللَّهُ (شِرْكًا) - وله المثلُ الأعلى - لأن فيه نوعًا من القَدْحِ في عظمةِ الربوبيةِ. وَضَرَبَ العلماءُ لهذا مثلاً قالوا: - وَلِلَّهِ المثلُ الأَعْلَى - ترى أكبرَ جَبَّارٍ طَاغٍ في الدنيا يتقطعُ غَيْظًا على مُجْرِمٍ، ونيتُه أنه يُقَطِّعَ ذلك المجرمَ عضوًا عضوًا، فيمكنُه اللَّهُ من ذلك المجرمِ ويقعُ في قبضتِه، ونيتُه أن يُنَكِّلَهُ أعظمَ نكالٍ، فيأتي واحدٌ من عظماءِ دولتِه - رجلٌ له عظمةٌ وجاهٌ، وله شعبيةٌ عظيمةٌ - ويتجرأُ على ذلك الملكِ
رغمَ أَنْفِهِ، ويقولُ لَهُ: باركَ اللَّهُ فيكَ شَفِّعْنِي في هذا المجرمِ!! فينظرُ ذلك الملكُ يقولُ: إذا رَدَدْتُ شفاعةَ هذا العظيمِ قد يكونُ ضِدًّا عَلَيَّ، وحربًا عَلَيَّ، فقد يَأْتِينِي بغائلةٍ!! فيخافُ المسكينُ، ويضطرُّ إلى أن يُشَفِّعَهُ رغمَ أنفِه.
يقول اللَّهُ جل وعلا: ﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ [الأنعام: الآية ١٣٤].
(ما) هنا موصولةٌ، وعائدُ الصلةِ محذوفٌ (١)، والتقديرُ: إن الذي تُوعَدُونَهُ لآتٍ لا محالةَ. اعْلَمُوا أَوَّلاً: أن ﴿تُوعَدُونَ﴾ هنا يحتملُ أن يكونَ من الوعدِ، ويحتملُ أن يكونَ من الإيعادِ، والوعدُ: هو الوعدُ بالخيرِ، والإيعادُ: هو الوعيدُ بالشرِّ (٢)، كما قال الشاعرُ (٣):

وَإِنِّي وَإِنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدتُهُ لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي
فقولُه: ﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ﴾ بناءً على أنه مِنَ الوعدِ، فَاللَّهُ (جل وعلا) لا يُخْلِفُ وعدَه أبدًا؛ لأن اللَّهَ يقولُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ [آل عمران: الآية ٩] أما إخلافُ الوعيدِ ففيه تفصيلٌ غَلِطَ فيه جماعاتٌ من العلماءِ، حتى كان من يقولُ من العلماءِ بفناءِ النارِ، أن اللَّهَ لو صَرَّحَ بأنها [لا] تَفْنَى (٤) أن ذلك وعيدٌ، وإخلافُ الوعيدِ من المدحِ لا من الذمِّ، إذ إنَّ مَنْ أَوْعَدَكَ بشرٍّ ثم عَفَا عَنْكَ وأعطاكَ الخيرَ فهذا من الجميلِ، وإنما المذمومُ القبيحُ هو إخلافُ الوعدِ بالخيرِ.
والتحقيقُ في هذا المقامِ: أن اللَّهَ (جل وعلا) إِنْ وَعَدَ بِخَيْرٍ فإنه
_________
(١) انظر: الدر المصون (٥/ ١٥٧).
(٢) انظر: القرطبي (٧/ ٨٨).
(٣) البيت لعامر بن الطفيل. وهو في اللسان (مادة: وعد) (٣/ ٩٥١)، وانظر: المعجم المفصَّل في شواهد النحو الشعرية (١/ ٢٥٥).
(٤) في الأصل: «بأنها تفنى» وهو سبق لسان.
معنى قوله: ﴿إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾.
ثم أخذوا يوبخونهم بصفاتهم الخسيسة التي كانوا يرتكبونها في دار الدنيا فقال: ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً﴾ [الأعراف: آية ٥١] إنما أضاف الدين إليهم مع أنهم ليس لهم دين - قبحهم الله - لأن الدين أمرهم الله به، وأرسل إليهم نبيه يدعوهم إليه، فكان من حقهم أن يعتنقوه، وأن يطيعوا الله، فلم يكن لهم دين إلا هذا اللهو واللعب، واللهو واللعب متقاربان (١)، قال بعض العلماء: اللهو: هو صرف النفس عما ينفع ويفيد إلى ما لا ينفع ولا يفيد. واللعب: هو أن يطلب الإنسان لنفسه الفرح والسرور بما لا ينبغي أن يفرح به، ولا أن يُسَرَّ به. وهما متقاربان.
ومعنى اتخاذهم الدينَ لهْواً ولَعِباً: أنهم يسخرون من القرآن، ويسخرون من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ضعفاء المسلمين، يستهزئون بالدين وبأهل الدين. وبذلك اتخذوا الدين [٨ / ب] لهواً ولعباً كما قال (جل وعلا) أنهم إذا مر بهم ضعفاء المسلمين:/ ﴿وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ (٣١)﴾ [المطففين: الآيتان ٣٠، ٣١] ويسخرون منهم ويستهزئون كما قال (جل وعلا) عنهم إنهم يقولون: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (١٤) الله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥)﴾ [البقرة: الآيتان ١٤، ١٥] ويسخرون من المؤمنين كما سخروا من نبي الله نوح، وقالوا له: بعد أن كنت نبيّاً صرت نجاراً. وقال لهم: {قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ
_________
(١) انظر: الفروق اللغوية ص٢١٠، المفردات (مادة: لعب) (٧٤١)، (مادة: لهى) ص٧٤٨.
لما امتنعوا أن يقبلوا ما في التوراة ﴿كَأَنَّهُ﴾ أي: الجبل الذي هو الطور ﴿ظُلَّةٌ﴾ كأنه غمامة أو مُزنة تظلهم من فوق رؤوسهم، فخافوا أن يسقط عليهم فالتزموا ما في التوراة.
وقوله: ﴿خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ﴾ مَحْكِيُّ قَوْلٍ محذوف، والمقرر في علم العربية: أن حذف القول وبقاء مقوله قياسي مُطَّرد معروف لا تكاد تحصيه في لغة العرب وفي القرآن العظيم، أمّا عكسه -وهو ثبوت القول وحذف المقول- فهو نادر يُحْفَظ ولا يُقَاس عليه. قال بعض علماء العربية: ومنه قول الشاعر (١):
لَنَحْنُ الأُلى قُلْتْمْ فَأَنَّى مُلِئْتُمْ بِرُؤْيَتِنَا قَبْلَ اهْتِمَامٍ بِكُمْ رُعْبَا
قال: (قلتم) هنا حذف مقوله، أي: قلتم: نقاتلهم فأنى ملئتم رعبًا منا قبل أن نقاتلكم. وهذا معنى قوله: ﴿خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم﴾.
﴿مَا آتَيْنَاكُم﴾ معناه: أعطيناكم في هذا الكتاب المشتمل على خير الدنيا والآخرة، وصيغة الجمع في قوله: ﴿آتَيْنَاكُم﴾ للتعظيم ﴿بِقُوَّةٍ﴾ أي: بعزم وجدٍّ واجتهادٍ.
ويُفْهَم من هذه الآية أنَّه يجب على من خوطب بأوامر الله في كتبه المنزلة أن يلتزمها بقوةٍ ونشاطٍ واجتهادٍ، فلا يضعف فيها، ولا يُفَرط فيها؛ لأنها لا تُمْتَثَل على الوجه الأكمل إلا بالقوة والجد والاجتهاد -أعاننا الله على امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والقيام بما في كتابه- وهذا معنى قوله: ﴿خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ﴾ وهو هذا الذي آتيناكم؛ يعني: التوراة اذكروا ما فيه من العقائد والأوامر والنواهي، اذكروه ذِكْرَ مدارسة وعمل، فتعلموا ما فيه،
_________
(١) البيت في البحر المحيط (٥/ ١٨١)، الدر المصون (٦/ ٢٤٧).
وقوله: ﴿يَنتَهُونَ﴾ أي: يَرْتَدِعُونَ ويَكُفُّونَ وَيَنْزَجِرُونَ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ والطَّعْنِ في الدين.
وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة من سورة براءة: أن الذي يطعن في دين الإسلام بلسانه ويستخف به أنه يُقتل (١)، أما إذا كان ذِمِّيّاً عُقِدَت له ذِمَّةُ المسلمين فطعن في الإسلام أو سبّ النبي ﷺ فالجمهور على أنه يُقتل (٢)؛ لأن ذلك ينتقض به عهده ويبطل به عهده. وقال بعض العلماء: إنه لا يقتل ولكنه يُؤدَّب ويُعَزَّر؛ لأنَّهُ أُعْطِيَ له الأمان وهو على كفره. والأول أظْهَر. وهذا معنى قوله: ﴿إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ﴾ أي: قاتلوهم لَعَلَّهُمْ يَنتَهُون عن كفرهم.
[٢/ب] / قال تعالى: ﴿أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ (١٣)﴾ [التوبة: آية ١٣].
(ألا) هنا حرف تَحْضِيض، والتَّحْضِيض معناه الطلب بِحَثٍّ وشِدَّة. والمعنى: إن الله هنا طلب منهم بِحَثّ وشدة أن يقاتلوا هؤلاء الكفَرَة أئمة الكفر، وبيّن لهم أن قِتَالهُمْ إيَّاهُمْ الذي حضَّض عليهم فيه أن له أسباباً متعددة، كل واحد منها يستوجبه بانفراده، فكيف بها مجموعة؟!
الأول منها: أنهم نكثوا أيمانهم.
الثاني: أنهم هموا بإخراج الرسول (صلوات الله وسلامه عليه).
_________
(١) انظر: القرطبي (٨/ ٨٢).
(٢) السابق (٨/ ٨٣).


الصفحة التالية
Icon